موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١١ مارس / آذار ٢٠٢١

هكذا أحبَّ الله العالم

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
هكذا أحبَّ الله العالم

هكذا أحبَّ الله العالم

 

الأحد الرابع من الصوم (الإنجيل يو 12: 20-33)

 

هكذا أحب الله العالم حتى إنه جاد به حتى لا يهلك كل من يؤمن به. وفي موضع آخر يقول يوحنا: إن الله لم يرسل ابنه إلى العالم، ليدين به العالم، بل ليخلص به العالم. نفهم هذا فقط عندما نُسلِّط أنظارنا إلى الصليب، ونتساءل: ما مفعول الصليب في حياتنا. الصليب هو آلة خلاصنا. كما رفع موسى الحيّة في البرّية ، وكل من نظر إليها شُفي من مرضه أو من عضّة الحيايا،. هكذا نحن. الصليب دائما أمامنا ليذكِّرنا بمحبة الله لنا وبعلامة خلاصنا: إذ هكذا اختار الله علامة الضعف والإذلال، وجعل منها علامة القوة والخلاص. أما قال اللاهوتيّون في كتاب مشهور بعنوان: إن التوراة على حق! أي أن رسالتها صالحة لكل جيل وعصر. هذا الكتاب هو أحسن كتاب علمي عن التوراة ومحتواها، صدر في الثلاثينات من القرت الماضي.

 

الإيمان يؤكد لنا أن الله هو أبونا، ومن صفات الأب أن يعتني بأولاده وبكل احتياجاتهم. ونحن نعرف أن المرضى منهم، هم بحاجة لعناية أكبر: لقد كان متعلِّقا بالصغار والخطأة، ولا يترك أحدا منهم يضيع أو يغيب عن وجهه: الأصحّاء لا يحتاجون إلى طبيب. هذا بالنسبة للإحتياجات الماديّة والصّحيّة. وأمّا للإحتياجات الرّوحية، فكلنا مرضى، ونحتاج محبة الله وعنايته سواءً بسواء. إذ كلُّنا وُلدنا بالخطيئة وكلّنا نجتاج الخلاص منها. لكن الخلاص لا يأتي إلا من الله. أما الله فلقد أراد خلاصنا بموت ابنه. وهذا سرّه الكبير. أعداؤه وفوج الفريسيين قد لقوا أسبابا ومخالفات عديدة عليه، أدّت إلى الحكم عليه بالموت: هو يجلس مع الخطأة والعشارين ويأكل معهم. هو يترك امرأة تغسل رجليه بدموعها، هو يجلس مع إمرأة على حافة بئر ويجادلها ، وأما القمّة فهي: إنه يدّعي أنه ابن الله، وشريعتنا تأمر بقتل من يدّعي ذلك. يسوع كان يعرف ذلك، لكنه لم يتراجع عن قوله. فمن منّا لا يجد عزاءً في كلمات إنجيل اليوم: إن الله أحبّ العالم، حتّى إنه جاد بابنه، لكي لا يهلك كلُّ من يُؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية.

 

نصوص قداس الأحد الرابع من الصوم اليوم تُطمئنُنا، على أن الله متمسّكً بنا ويحبّنا. يوحنا الرسول يقول: لسنا نحن الّذين أحببناه، بل هو أحبّنا أوّلا: "أُنظروا أيّة محبّة أعطانا الآب، حتى نُدعى أولاد الله" (1يو 1:3). هذه المحبّة تؤكِّد لنا، أنّه ليس هو الله، الذي يبتعد عنّا، وإنّما نحن الّذين يبتعدون عنه، ويسلكون طرقاً خاطئة. في مقابلة يوم الأحد 9/8/2020 قال البابا فرنسيس للمتجمّعين في ساحة مار بطرس: "يسوع هو يد الآب، القوية والأمينة، الذي لا يتركنا أبدًا". نشيّه ذلك بحالات الطلاق التي أصبحت عادية اليوم،.فأحد الزوجين، وعادة ما يكون هو المذنب، يترك شريك حياته، ولو أن شريك الحياة هذا يبقى أمينا ومتعلِّقا بشريكه. فهذه حالنا مع الله. هو الأمين لا يتركنا، مهما أخطأنا. إنّ الأنانية هي سبب موت الحب، بينما بالعكس، التضحية تساعد على بقاء المحبة قوية.

 

هكذا احبَّ الله العالم، حتى إنّه جاد بابنه الوحيد، لكي لا يهلك كلُّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية (يو 16.3). مع هذه الكلمات تكتسب حياتنا قيمة كبيرة، إذ إنّنا لسنا وحدنا في هذه الدنيا. بل الله يتابع حياتنا كل لحظة، يمشي بالخفية معنا، لا ليقاصِصٍنا إذا أخطأنا، فهو ليس بشرطي سير، بل دليلاً يرشدنا إنْ ضلينا الطّريق: من سار خلفي لا يضيع، بل له نور الحياة.

 

قال صاحب المزامير: يا ربّ القوّات، أينما أتوجّه أرى وجهك. لفهم ذلك يمكن يُساعدنا هذا المثل الحي: بعد الألعاب الأولومبية، التي تحدث كل أربع سنوات، يشترك فيها أولا الرّياضيّون الأصحاء، يلحقها بعد أسبوعين في نفس المكان وعلى نفس الأجهزة الرّياضية، الألعاب الأولومبية للمعواقين، وهذا شيء يستأهل المديح أوّلا، إذ هم يشعرون بتقدير العالم لهم، وثانيا بممارسة الرّياضة مع مدرِّبيهم، وتحضيرهم للأولمبياد طيلة أربع سنوات، يُشعِرهم العالم بأن لحياتهم معنى. المهم لنعود إلى بداية الحديث، بأن يسوع يرافقنا في طريقنا، نأخذ مثلاًص درساً من الرّياضيين طبقة المصابين بالعمى، فهناك نوعان من الرياضة يعتمدون فيها على مرافق لهم، وهي العَدُو وسباق البسكيليتات, فلكي لا يضلِّوا الطريق يسير مدرّبهم قدامهم، مع جرس يقرعه دائما، لكي يتبعوا طريقه ولا يَضلّوا. هم يضعون ثقة كاملة بتعلييمات المدرّب المرافق وشروحاته عن نوع الطريق أمامهم

 

هذا المثل نطبّقه على يسوع، إن وَضَعْنا فيه إيماننا وثقتنا، كما يضع الأعمى ثقته في مرافقه، أو كما يضع الطفل ثقته في والده الماسك بيده. فيسوع هو مدرِّبنا ويسير أمامنا، لنسير على طريقه ونصل الهدف سالمين: من يسير ورائي لا يضيع أبداً. إن الإيمان بالله والإتّكال الكامل عليه، رغم ما يحيط بنا من مخاطر وأمراض، كفايروس الكورونا حاليا، الذي أشلّ الحياة في قطاعات كثيرة في العالم، ورغم حروب وويلات غيرِ منتظرة، كحادث انفجار الغاز في بيروت يوم 5/8/2020 مع 170 قتيلا وأكثر من خمسة ألاف جريح، معظمهم بجروح خطيرة، فكثيرون، لأنهم عاجزون عن ردع هذه الوبلات وتوابعها، يفتكرون، بل ويُشيِّعون، أنّها قصاصات من الله، كأنَّ الله، كما ذكرت قبل قليل، شرطيُّ مُخالفات، ناسين بل متناسين ما يكنٌّه قلب الله لنا من حنان ورحمة ومحبّة: تعالوا إليّ أيها المتعبون... هكذا أحب الله العالم... وأنا أيضا لا أحكُم عليكِ... من يقول هذا، فلا يمكنه أن يكون حاقدا ويحلِّل الإنتقام.

 

علينا أن نغيِّر تفكيرنا، ونرى في ما نشاهده في العالم، من مظالم ونكبات ومحن ثقيلة، صادرة بعلمه تعالى، علاماتٍ يسمح بها هو، ليختبر مدى تعلُّقِنا وقوَّةَ إرادتنا وصحّة إيماننا به: من آمن بي فله الحياة الأبدبة، ولا يُدان. الحياة النّاجحة إذن، هي التي يكون الله محورَها. إن همّ الله في كل ما قال وعلّم، هو يمتحننا به، هو إظهارُ محبّتِه لنا. البرهان الكبير والمقنع على ذلك، أنّه ضحّى بابنه لأجلنا. فَخَلْف كلِّ ما نقدر أن نقول عن الله، هو كما قال ييعقوب الرسول: الله محبة. فمن بقي في المحبة بقي الله فيه. لا يوجد خبر دائم ومتجدّد يوميا إلاّ هذا الخبر: خبر محبة الله.

 

كلُّ الأخبار الثانية هي قصيرة المدى والنَّفَس. فأخبار البارحة التي قرأناها في الجرائد أو الإنترنت أو سمعناها من الرادبو والتلفزيون، ما هي أخبار اليوم. وكذلك أخبار اليوم لن تكون نفس أخبار الغد. ولكن خبر محبة الله فهوخبر دائم، ونسمع عنه كل يوم، بشوقٍ ولهف. وإن تعاملنا مع بعضنا البعض، بحسب مبدأ المحبة، فإنّ كلَّ مشاكلنا وسؤالاتنا المُعقّدة تنحل من نفسها، دون أن نعرف كيف. بدون الإيمان يبقى حل مشاكلٍ عديدة بل وقبولها غامضاً ومُحيِّرا: مثلا كيف نفهم سرِّ ولادة طفل مُعوّق، يتبعه وفاة أُمِّه الفتيَّة؟ فما ذنبُه؟ كيف نُفسِّر نشوبَ حربٍ وخرابَها، علما بأن 99% لا يريدونها وغير مشتركين فيها فعليّا، كيف نفسِّر ونقبل بانفجار بيروت؟ فبدون الرّجوع إلى التّوراة والقراءة عن أعمال الله في العالم، لا نجد ولا قشّة خلاص رفيعة نتشبَّث فيها، أننا نستطيع حلاًّ لها بدونه. فهذا وهم خيالي. فإن كان الإنسان يقدر إسعاد حاله من حاله، وحل مشاكله لوحده، فلماذا إذن ما خلّص حاله من الخطيئة الأصلية" وهذا يعني إبطال عمل الخلاص، الّذي هو من خصائص الله.

 

قال يوحنا الإنجيلي: النور جاء إلى العالم لكن العالم لم يعرفه لأن الناس فضّلوا الظلمة على النّور. بالمقابل نحن نعرف أنَّ طريق الإيمان ليس مُعبّدا، والسلوك عليه ليس بالهيّن. لكن المسيحي يعلم، حتى وإن لم يكن أمينا، فإنَّ الله يبقي أمينا. وهو يعطينا مناسبات عديدة، خاصة الآن مناسبة الصوم المقدّس، فهي تُذكِّرُنا بالتزاماتنا وواجباتنا تجاه خالقنا، وبالأخص تُذكِّرُنا، أن الوقت حان للتوبة ولإصلاج ما فسد فينا. كم مرة ومرّة نصلي الضلاة أبانا، التي فيها نطلب من الله: إغفر لنا خطانا، كما نحن نغفر...لا مر ّة ولا مرّتين، بل سبع مرّات سبعين مرّة. الخاطئ ليس وحده خاطئ، والمسامح ليس وحده مسامح. بل كلُّنا أعضاء جماعة خطأه، وكلُّنا نجتاج مسامحةَ بعضِنا بعضا. فهذا هوالوقت، وقت النعمة التي يمنحنا إياه الله، حتي هو سيسامحنا في نهاية هذا الوقت: يا أبتي! إغفر لهم لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون!

 

 قد حان الزمان. توبوا وآمنوا بالإنجيل. الله لا يُجرِبنا فوق طاقتنا. يجب أن نحمل صليبنا، ولو بدا لنا، لأوّل وهلة أنّه ثقيل، لكن يسوع قال: إحملوا نيري عليكم وتعلّموا منّي لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفسكم. لأنَّ نيري هيّن وحملي خفيف" (متى 30:11). بمعنى آخر، كما قال بولس: إن الذي يعطينا صليبا يعطينا أيضاً القوّة لنحمله.

 

المسيحي يعيش بأمان لأنه يعرف أنَّ الله يحيطه بحبّه وحنانه اليومي. بالإضافة إلى ذلك، فهو بقبول المعمودية والإيمان، قريب جدّاً من الله. نعم بالمعمودية نصير أولاده الحقيقيين، وبالمقابل وعدنا أن نكرّس حياتنا لخدمته، مهما يكلِّفنا ذلك من عواقب وحتى وسط المصاعب والغيوم، التي تحيط به، إذ كما يقول المثل: الله وحده يستطيع أن يكتب مستقيما على خطوط ملتوية. وهذا يتطلّبُ إيمانا منّا. علما بأن الإيمان هو قوّتُنا. فكما قال مرتد: إنّ الإيمان ما جعل منّي قدّيسا، لكن إنساناً سعيدًا.

 

لقد حان الوقت أن نعمِّق إبماننا بالله، لتنجح حياتنا، دنيًا وآخرة. آمين