موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٧ ابريل / نيسان ٢٠٢١

نُريد أن نَرى يسوع

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
نُريد أن نَرى يسوع

نُريد أن نَرى يسوع

 

أَيّها الأحبّةُ جَميعًا في المسيحِ يسوع. بَعدَ أن كُنّا في الفصلِ الثّالث من بشارة يوحنّا الأحد الماضي، نَقومُ في هذا الأحد بِقَفزةٍ حُرّة في الفضاءِ الإنجيلي، مِقدارُها تسعة فصول، وصولًا إلى الفَصلِ الثّاني عشر. فَبعدَ أن أجرى يسوعُ آَيةَ إحياءِ صديقِه لعازر من الموت، بَلغَ نجمُه أَشدَّ حالاتِ سُطوعِه. وَعَلى إثر تلك الشُّهرةِ الواسعة الّتي حَصَدَها يسوع بينَ الجموع، يتآمرُ عَليه عُظماءُ اليهودِ، يُريدون قَتلَه والنّيلَ منه. وِمن بيت عَنيا، حيثُ أَجرى تِلكَ الآيةَ العَظيمة، يَدخل المسيحُ أورشليم مَلِكًا واثِق الخُطى، حيثُ كانَ كثيرٌ من النّاسِ قد أَتوا يبحثونَ عنه، يُريدون رُؤيتَه. ومِن ضِمنِهم بعضُ اليونانَيّين، الّذينَ يَقصدون فيلبّس يطلبونَ رؤيةَ يسوع!

 

نُريد أن نرى يسوع! أيُّ نوعٍ من الحاجاتِ هذهِ الحاجة الإنسانية؟ ومِن أينَ تَنبُع؟ أَتَنبعُ مِن رغبةٍ في إشباعِ فُضول، أمّ أنّها حاجةٌ صادقةٌ لِلامتلاءِ من يسوع خبزِ الحياة، والارتواءِ منه الماء الحيّ؟!

 

نَذكر حادثة ابنيّ زبدى، عندما دَنا إلى يسوع الأَخَوان يعقوبُ ويوحنّا، يَسألانِه حاجةً، فقالَ لهما: "ماذا تُريدان؟". وكانَ طَلبُهما يتلخّصُ في الحصولِ على مَنصبٍ وَجاهيٍّ رفيعٍ في بلاطِ يسوع، إذ يَطلُبانِ الجلوسَ عَن يَمينه وشماله في مجده (مرقس 35:10-37). فالحاجة عندهُما إلى يسوع، كانَت تَتمحور حول تحقيقِ منفعة وجَني غَنيمة! أمّا الجموعُ في الفصلِ السّادس من يوحنّا، فَلم يطلبوا المسيحَ، إلّا لأنّهم أَكلوا الخبز وشَبعوا (يوحنّا 26:6)، فقد وجدما فيه مَن يُطعِمُ ويُغذّي.

 

واليونانيّون اليوم، يَطلبونَ يسوع! ولكن ما الغَرضُ مِن ذلك؟ هل جاؤوا بهدفِ الإصغاء إلى يسوع، وقبولِ الإيمان به؟! أَم للدّخول في مُحاججةٍ مَعه، مَدفوعينَ من رؤساء اليهود؟ أَم للحصولِ على أُعطيَة؟ وإذا ما أَكمَلنَا قراءةَ النّص، فَإنّنا لا نجدُ جوابًا من يسوع بالقبولِ أو بالرّفض، ولكنّنا في المقابل نَجده يُعلِنُ صراحة أنّ السّاعة الّتي من أجلِها قَد أَتى، ها هي تَدنو! هي ساعةُ المجد، الّذي يمرُّ بطريقِ الآلام ودربِ الصّليب. هي السّاعةُ الّتي فيها يُرفع ابنُ الإنسانِ مِن الأرضِ، لِيجذبَ إليهِ النّاس أجمَعين! (يوحنّا 32:12). هي ساعةُ العَثرةِ لكثيرين، وهي ساعةُ الإيمان لكثيرين أيضًا. فَما يَبدو أَنّه الضّعفُ والحُمْقُ من الله في نظرِ البشر، هو آَيَتُهُ العُظمى في القدرةِ والقوّة والحكمة، لِلّذينَ يؤمنون (1قورنتوس 22:1-25).

 

نحن لا نعلمُ على وجه التّحديد، مَاذا كان اليونانيون يُريدون من يسوع. ولكنّنا نحن الّذين نؤمن، نَعلم مَن نريد. نُريد يسوعَ المسيح المصلوب، الّذي: "حَمَلَ آلاَمَنا، وآحتَمَلَ أَوجاعَنا. طُعِنَ بِسَبَبِ مَعاصينا، وسُحِقَ بِسَبَبِ آثامِنا. نَزَلَ بِه العِقابُ مِن أَجلِ سَلامِنا، وبجُرحِه شُفينا" (أشعيا 4:53-5). نُريد المسيحَ الّذي: "فيه أَصبحَ العالمُ مصلوبًا عِندي، وأصبحتُ أنا مصلوبًا عندَ العالم" (غلاطية 14:6).

 

نُريدُ أن نَرى يسوع. أُترى الشّوق يَعتَصرُنا سَعيًا لِلُقيا يسوع؟ كوكبُ الشّرق أمُّ كلثوم، تُغنّي كَلماتٍ نَظَمَها أحمدَ رامي، وَوَضعَ لحنَها رياض السّنباطي، تقول: (عَوّدت عيني على رؤياك، وقلبي سَلِّمْ لَك أَمري، وإن مرّ يوم من غير رؤياك، مَا يَنحِسبشِ مِن عُمري). أَهَكذا هو حالُنا مع يسوع؟ عَوّدنا القلبَ على رؤياه، والرّوحَ على نجواه، والعقلَ على التّأمّل بِبَهاء مُحيّاه؟ هل صارَت رؤيتُه أَي معرفتُه محور حياتِنا، ومُشتهى عُمرِنا؟

 

نُريدُ أن نرى يسوع. في هذِه الجملة، نَلمس كثيرًا من الإصرارِ والإلحاح! أنا شخصيًّا، لا أعتقِدُ أنّ هَكذا جدّية وتصميم في الطّلب، يَنبع من مجرّد فُضولٍ زائد، يَتَأتّى من طبيعة الإنسان، الّذي لديه قَابليّة لأن يحشرَ أنفَه في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة. إنّما أَراه إصرارًا مُتفجّرًا، يَتَدفّق كنهرٍ جارف من رغبةٍ صادقةٍ في جوفِ النّفسِ البشرية، للالتقاءِ معَ الله، والسُّكنى معه، والمكوثِ في ديارِه! تَحضُرُني كلماتُ صاحب المزمورِ الثّالث والثّمانين، حينَ يُصلّي، قائِلًا: "ما أحبَّ مساكنَكَ يا ربَّ القُوّات، تَشتاقُ وَتَذوبُ نفسي إلى ديارِ الرّب، ويُهلِّلُ قلبي وجسمي للإلهِ الحي" (مزمور 2:83-3).

 

أيّها الأحبّة، كُلُّنا نُريد رؤية يسوع! وَلكنّ الأهداف تتخلفُ، والغاياتِ تَتباين. لماذا أُريد رؤية المسيح؟ "ماذا خرجتم تنظرون؟" (متّى 7:11)، سؤالٌ طَرَحَهُ المسيحُ على الجموعِ في شأنِ يوحنّا المعمدان، وهو نفس السّؤال الّذي يطرحُه علينا، ولكن في شَأنِه هو شَخصيًّا: مَاذا أَتَينا نَنظر؟ ما هو مُبتغانا من رؤية المسيح؟ أو بالأحرى كيف ننظرُ إلى المسيح؟ مُجيبُ طَلبات، مُحقّقُ أُمنيات، مُلبّي رغبات...؟ تُناجي المتصوّفةُ رابعةُ العدوية ربَّها، قائلةً: (ربّي، إن كنتُ أعبُدُكَ خَوفًا من النّارِ فاحرِقْني بالجَحيم، وإن كنتُ أعبُدُكَ طَمَعًا في الجَنَّةِ فَاحرِمني إيّاها! أمّا إذا كنتُ أعبُدُكَ من أجلِكَ أنتَ فَحَسْبْ، فلا تَحْرِمْني يا إلهي وجْهَكَ الكَريم).

 

نُريدُ أن نراكَ يا ربّ، فَأَرِنا السّبيلَ ودُلّنا على الطّريق؟ سنراكَ بعدَ أيّامٍ قليلَة حملًا سيقَ إلى الّذبحِ ولم تفتح فاكَ (أشعيا 7:53)! سنراكَ مطعونًا بحربةٍ حَرسيٍّ في جنبِكَ، تسيلُ منك الدّماءُ والماء (يوحنّا 34:19). أَعطنا ربّي أن نراك في ضعفِكَ، كما نطلبُ أن نراكَ في قوّتك. أن نراكَ في آلامِكَ، كما نطلبُ أن نَراكَ في مجدك. أن نراكَ في صليبكَ وموتِك، كما نطلب أن نراكَ في قيامتِك ونُشورِكَ.

 

ربّما يكون الطّريق الأسهل لرؤية يسوع، ما رَسَمهُ هو نفسُه، حينَ أعلنَ قائِلًا: "كلّما صنعتُم شيئًا من ذلكَ لواحدٍ من إخوتي هؤلاءِ الصّغار فلي قد صنعتموه" (متّى 40:25). يسوعُ حاضرٌ في إخوتِه! وإخوتُه لَيسوا غرباءَ عنّا، بل هم مَعنا وبينَنا ومنّا: الفقراء، الضّعفاء، المرضى، الجوعى، العَطشى، الحزانى، البائسون، المثقَلون، المعذّبون، الضّالون، الْمُهمّشون، المحتَقَرون... كلّهم إخوةُ يسوع وإخوةٌ لَنا أيضًا، وفيهم المسيحُ حاضرٌ، وفيهم يطلبُ منّا أن نَراه، لأنّ: "مَن رَأى بأخيه حاجةً، فَأغلق أَحشاءَه دونَ أخيه، فكيف تقيم فيه محبّةُ الله؟" (1يوحنّا 17:3).

 

إخوتي وأخواتي، إذا أَرَدتم رؤيةَ يسوع، فلا حاجةَ لأحلام ولا لقراءة في فنجان، ولا لِنَموذجٍ يَأتينَا من مصر وروما ولبنان. يَكفي أن تَنظروا حواليَكم، وتُعاينوا كم من إخوةٍ ليسوع هم بحاجةٍ إلينا، بحاجة لدعم معنوي ومادّي إن لَزمَ الأمر، بحاجة لكلمةِ تشجيعٍ وتَقوية، بحاجةٍ لسندٍ يركنون إليه، بحاجة لنظرةِ محبّةٍ وتحنّن، بحاجة لِلمسةِ عطفٍ وتعزية، بحاجة ليدِ رحمةٍ ومعونة! "لأنّ الّذي لا يُحبُّ أَخاهُ وهَو يراه، لا يستطيعُ أن يُحبَّ الله وهو لا يَراه" (1يوحنّا 20:4)