موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢٩ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٢

"نَعَمْ أُؤمِنْ بـ..." بين كاتبي نبؤة حبقوق والإنجيل الثالث

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (حب 1: 2- 3، 2: 2-4؛ لو 17: 5- 10)

سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (حب 1: 2- 3، 2: 2-4؛ لو 17: 5- 10)

 

 

مقدّمة

 

القراء الأفاضل، يكشفا نصيّ مقالنا اليوم، من كلا العهدين، عن رسائل معاصرة تمنحنا كثيراً من الرجاء في إلهنا وتظهر مدى صلابتنا الروحيّة ومدى إيماننا به. الإيمان هو بمثابة مرض مُعدى والّذي يصيب قلبه هذا المرض الحميد يجُمله ويعطيه حياة حقة له ولكل مَن حوله. الإيمان، نعمة إلهية مجانية، تُعطى للإنسان عند تجاوبه بإتحاده بالرّبّ ووضع ثقته فيه أكثر من ثقته في ذاته وفي الآخرين وفي الأشياء. إشتعال قلب المسيحي بالإيمان بالرّبّ بالكثير من النعم والأضواء بالرغم من الظلام الّذي يعبر به كجزء من حياتنا البشرية. سنتوقف في قرائتنا بنص العهد الأوّل مع حبقوق النبي الّذي نسمع شكواه من معاصريه بزمنه، بقلب الإنسان الّذي يحمل إيمانه في إستغاثته بالله. ثمَّ نجد إجابة الله على معاناته بشكل عملي. أما بالنسبة لنص العهد الثاني بحسب لوقا (17: 1- 20)، نكتشف من خلاله أنّ قضية الإيمان تتطلب الكثير من الرسل، نحن اليوم، فهو لا يعتمد على كيمة محددة بقدر نوعيّة خاصة من الإيمان. سنتعمق في هذا المقال ولا يعتمد على بث إيماننا "النظري" من جدودنا لتسليمه إلى أبنائنا بل سنكتشف ما هو القليل من الإيمان الّذي يجعل منا طوباويين في الرّبّ. الإيمان هو فعل ثقة في الرّبّ الّذي نتردد عليه في كنائسنا، ويصير وقت المعاناة والألم المكان الّذي يظهر إيماننا الحقيقي.

 

 

1. حِسِّد – جذور الإيمان (حب 2: 4؛ لو 17: 5)

 

هناك لفظ شائع بالعهد الأوّل هو لفظ عبري قوي حِسِّد - الأمانة. علاقة فضيلة الأمانة بالإيمان جوهرية، فإذا وجدت الأمانة في العلاقة الإنسان بالله زادّ إيمانه وثقته فيه.، ففي الأمانة للرب جذور إيماننا البشري. حبقوق النبي، الّذي نشأ على الأمانة للرّبّ، بالعهد الأوّل، هو أحد الأنبياء الصغار. في هذا النص يكتشف أنّ أمانة محيطيه في الرّبّ لم تعد كما نشأ في ماضيه. بصوته النبوي الجهوريّ يصرخ أمام الرّبّ معاناته في أوّل كلمات هذا النص، بسبب ما يصدر حوله من أُناس لا يتمتعون بالإيمان. صرخة النبي أتت في صيغة سؤاله للرّب منتظراً إجابة فقال: «إلامَ يا رَبُّ أَستَغيثُ ولا تَسمعَ أَصرُخُ إِليكَ مِنَ العُنفِ ولا تخَلِّص؟» (حب 1: 2). أثار النبي مسألة العادل في مواجهة الظلم الذي يميز التاريخ. بينما هو يصرخ ويعاني يأتي الربّ بصوته القدير مُعلنًا: «إِن أَبطَأَت [الرُؤْيا] فانتَظِرْها فإِنَّها ستَأْتي إِتْياناً ولا تَتَأَخَّر. النَّفسُ غَيرُ المُستَقيمة غَيرُ أَمينَة أَمَّا البارُّ فبِأَمانَتِه يَحْيا» (حب 2: 3-4). الإجابة الإلهية يتم نقشها على الألواح في إنتظار تحقيقها بثقة. والثقة هنا تُعبر عن قوة الإيمان الّتي تساند وتسمح للصالحين أن يعيشوا ويمروا عبر التاريخ البشري حيث يسود الظلم. إنها في الأساس مسألة موهبة الإيمان التي نحياها هي مفتاح شخصي بين الله والإنسان. يتضح من خلال هذا الحوار الإلهي النبوي بوصيتين إلهيتين؛ الإنتظار والتحقيق. وهذه هي رسالة النبي حبقوق لنا اليوم، لا ينبغي أن تتغير الظروف ولكن علينا في الشدائد بالتحلي بقلب مؤمن يثق في أن الله يحقق ما يعد به وهو الخلاص مِن هذه المعاناة.  

 

 

2. نوعيّة أمّ كميّة؟ (لو 17: 5- 7)

 

ترتبط رسالة النبي حبقوق بجوهر تعليم يسوع بحسب لوقا نحو مضمون الإيمان، بذات التوجه بماضي النبي، يتجه التلاميذ نحو يسوع طالبين: «زِدْنا إِيماناً» (لو 17: 5). إجابة يسوع على طلب الرسل أيّ مرسلين الذين كانوا حول المعلم، ربما تُظهر عدم قدرة أيّ منهم على أن يكون له خادم. وضع الخدمة في زمن يسوع ليس بغريب على المجتمع الّذي يدّون عنه الإنجيلي. يستخدم يسوع في النص للحديث عن الإيمان تشبيه "السيد والخادم". يريد يسوع أن يسلط الضوء على كسل الخادم في واجباته نحو سيده. عندما يعود الخادم في المساء من عمله الذي قام به للسيد، لا يمكنه أن يتوقع من السيد أن يبدأ في تقديم العشاء له، ولكن إذا كان هناك أي شيء، فسيتعين عليه تقديم العشاء الرئيسي قبل أن يُطعم ذاته. ما يبدو إذنًا مركزيًا في مقطعنا هو "الخادم – الرسول" فهو لا يعطي شعارات عَمَن أرسله. بل يتعلق الأمر بالإيمان الذي يطلب الرسل زيادته! لذلك دعونا نحاول أن نرى ما يخبرنا به هذا المقطع عن الإيمان. في إجابته بهذه الطريقة، يوضح يسوع إنّه لا تكمن المشكلة في مقدار الإيمان الذي غالبًا ما يكون أيضًا صغيرًا عند التلاميذ ولكن في جودته. في الواقع، إذا كان الإيمان أصيلًا، فستكون حتى كمية صغيرة مثل حبة الخردل كافية لإنجاز أشياء رائعة. يقول يسوع: «إِذا كانَ لَكم إِيمانٌ بِمقْدارِ حَبَّةِ خَردَل، قُلتُم لِهذِه التُّوتَة: اِنقَلِعي وَانغَرِسي في البَحر، فَأَطاعَتْكم» (لو 17: 6). لذلك فإن الأزمة الإيمانيّة لا تتعلق بالكَّم بل بالنوعيّة.

 

 

3. خَدَمٌ لا خَيرَ فيهِم (لو 17: 10)

 

عند مخاطبة يسوع للرسل، يشعر بحاجتهم القوية إلى اهتداء عميق لباطنهم أيّ لشكل إتحادهم وإيمانهم الغير مرئي بالله. يرغب يسوع في بدء مسيرة لانتقال تلاميذه من التدين القائم على الجدارة إلى الإتحاد الأقوى في العلاقة مع الله. من خلال العلاقة الإيمانيّة، يذهب التلاميذ كمرسلين مدعوين للقيام بمهمتهم معطيين شهادة عن إيمانهم وكأنهم خدم ليس لديهم في نهاية يوم عمل شاق ما يطالبون به أمام سيدهم، لكن عليهم ببساطة أن يفرحوا لأنهم فعلوا ما يجب القيام به. الإنعكاس الّذي يحمله يسوع حينما يقول: «إِذا فَعَلتُم جميعَ ما أُمِرتُم بِه فقولوا: نَحنُ خَدَمٌ لا خَيرَ فيهِم، وما كانَ يَجِبُ علَينا أَن نَفعَلَه فَعَلْناه» (لو 17: 10)، أيّ أنّ يعتبروا أنفسهم "عبيدًا عديمي الفائدة".

 

يمكننا تقديم تفسير آخر حول إجابة يسوع على تلاميذه بتشبيهه حول علاقة السيد بالخادم، يستخدم لوقا مصطلحًا يونانيًا محددًا doulos، والذي يعني في اليونانية  schiavo- عبد. كان من الممكن أن يستخدم مصطلحًا آخر، والذي سيتم قبوله أيضًا بمعنى تقني للإشارة إلى الخدمة الكنسية، وهي الدياكونوس - diaconos، والتي تعني الخادم. في الأساس، الخادم الشماس هو الشخص الذي يخدم عندما يكون شخصًا حرًا. إنه بالتأكيد شخص يعتمد على مَن يخدم، لكنه ليس مجبرًا على الخدمة. إستخدام الإنجيلي للفظ الـ doulos ينطبق على الشخص الذي يخدم عن طريق الالتزام، ولا يفشل في خدمته لأنّه ينتمي إلى سيده. إنه يخدمه ليس باختياره، بل بالضرورة، يخدمه لأنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا سوى الخدمة. وهكذا يمكننا أن نقول أنّ من كلمات يسوع يتضح أنه حتى الرسول تظهر رسوليته حقيقة بمقدار كونه خادم حقيقي أو لا. يكمن بُعد الخدمة في هويتها والتي تحمله للإنتماء للرّبّ وليس مجرد خادم. الإيمان يحمل إلى نوعيّة هذه الخدمة المجانية وتنبع من النظرة المتغيرة. فتصير رّوح الخدمة ثمرة للإيمان الكامن في قلب الإنسان نحو الله.

 

 

4. "الطوبى" لــ ...! (لو 12: 37)

 

إذا قرأنا هذين النصين دون التركيز على سِرّ الله بالنص سنفقد معناه اللّاهوتي. علينا بالتركيز على قوة كلمة الله. بينما يدعونا كل ما حولنا وداخلنا، اليوم إلى اعتبار الأشياء سرًا لحياة كاملة واعتبار أنفسنا ضروريين ولا غنى عنا؛ يقلب يسوع رؤيتنا الوهمية ويقيننا الزائل ليعطينا الإعلان الحر عن الخادم عديم الفائدة. إن صورة الخادم غير المجدي التي استخدمها يسوع في الإنجيل تتعلق بطريقتنا في رؤية أنفسنا. غالبًا ما نعيش كما لو أن كل شيء يعتمد علينا ولا غنى عنا. يتردد صدى كلمات يسوع لنا اليوم بالنسبة لنا كنعمة لأنه يحررنا من هذا الوهم الخطير عن أنفسنا، والذي يمثل في الواقع عبئًا كبيرًا على حياتنا. لكنه يدعونا إلى اعتبار أنفسنا، بعد إطاعة كلمته، "خدامًا بدون فائدة". إنها نعمة أن نكون "خدامًا غير ضروريين"، "مجرد خدام"، واجبهم الوحيد ليس المطالبة بشيء ما، ولكن طاعة مشيئة الله والترحيب بكل شيء كهدية. تخبرنا الصورتان معًا أن الطريقة الصحيحة للنظر في أنفسنا أمام الله هي اعتبار أنفسنا "خدامًا غير ضروريين"، الذين يجب أن يخدموا ببساطة لأنها وظيفتهم، دون التفكير في كسب عن جدارة. يعلّمنا يسوع في هذا المقطع أن نعتبر أنفسنا "خدامًا عديمي الفائدة"، لا أن نعتبر الله سيدًا مستبدًا. في الواقع، في إنجيل لوقا تحديدًا، ما هو متناقض في هذا المقطع ويوصف بأنه "غير واقعي"، يصبح حقيقة واقعة. في الواقع، يقول يسوع في فقرة أخرى: «طوبى لأولئك العبيد الذين سيجدهم سيدهم مستيقظين عند عودته؛ حقًا أقول لكم، إنه سيشد ثيابه حول وركيه، ويجعلهم يتكئون على المائدة ويأتون ويخدمونها" (لو 12: 37). ما يوصف في مقطع اليوم بأنه غير مقبول بين البشر فهو ممكن عند الله. لكن الله يخدمنا ليس لأننا نستحقه، ولكن لأنه سيد "غريب"، فلنتذكر أنّ يسوع هو نفسه لم يأت ليُخدَم، بل ليخدم. إذا وجدنا الرب مستيقظين، يقظين، أي مستعدين للترحيب بعطيته، فسيخدمنا على مائدته. لا يتعين على الخادم "غير المفيد" أيّ أنا وأنت أن يقلق بشأن مقدار مزاياه، بل يجب عليه فقط الاستماع إلى صوت رّبّه ومحاولة تنفيذ مشيئته، مع العلم أن هويته تتمثل في كونه خادم غير ضروري. وذات يوم سيدرك ذلك الخادم أن سيده سيصل إلى قدميه مجانًا وسيبدأ في خدمته وهنا تحل عليه بركة الكلمة الإلهيّة الّتي تجعله طوباويّ بقوة كلمته القديرة فنصير طوباوييّن بفضل كلمة الرّبّ لنا، إذن، يهمس المعلّم في إُذن كلاً منّا بالرغم من هشاشتنا قائلاً: "طوبى لك".

 

 

الخلَّاصة

 

انطلقنا في مقالنا هذا لنبُرز مضمون الإيمان بحسب نبوءة حبقوق النبي ولوقا الإنجيلي من خلال المعاناة إذ يدعونا للتحلي بروح الخدمة والانتقال من خدام ذو مستوى متكبر إلى خدام بسيطة أيّ عديمي الفائدة. والسبب هو أنّ اليوم، يرغب الرّبّ في إرسالنا كنساء ورجال لشهود عن عمله فينا. نعم مدعوين للتعمق في نوعيّة إيماننا اليوم، فهل نوعية إيماننا جيدة؟ فلننتبه ليس بالكمية الإيمان، الزيادة أو النقص، بل بنوعية الإيمان المتجذرة في الرّبّ والّتي ترسم شكل لرسالتنا الّتي نحملها كخدام وكرسل عنه في بيوتنا ومجتمعاتنا. كثيراً ما نقع في فخ الأنا الزائفة إلا أنّ إيمان الله بنا يزيل هذه الأوهام ونعمته تحررنا من الإيمان الزائف المعتمد على الأشياء والأشخاص. والمفاجأة أنّ الرّبّ يدعونا ولا يجبرنا على الإيمان به، فنحن المحتاجين له إله وسيد حياتنا الدائم. ويأتي صدى صوته الإلهي عندما نطيعه فيقول كلمته الأخيرة كرد على إيماننا به: "طوبى لك/لكي". دُمتم إيها القراء الأفاضل في إيمان ثابت بالرّبّ وتشعرون بإيمان الرّبّ بكم في كل مرة نختبر إننا خدام محبوبين من إلهنا وعديم النفع لذواتنا.