موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٦ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢١

نَستطيع

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
الأب فارس سرياني، كاهن رعيّة سيدة الورديّة - الكرك

الأب فارس سرياني، كاهن رعيّة سيدة الورديّة - الكرك

 

عظة الأحد التّاسع والعشرون-ب

 

التّلاميذُ يَشعرونَ بالغيظ! والغيظُ يَعني صَوتَ الغَليان! وفي الّلغةِ يَقولون: تَغيّظتِ النّار، أَي اِشتدَّت حِدّتُها، وصارَ يُسمعُ لها صوتٌ من شِدّةِ حرارتِها! أمّا الغيظُ كَشعورٍ بَشَري فهو حالةٌ تدلُّ على الغَضبِ والسُّخطِ الشّديدَين! ولِذلك عِندما نقول: الكاظمُ غيظَه، أي الّذي يحبِسُ سُخطَه، ويمنعُ غَضبَه عن الانفجار.

 

التّلاميذُ العشرةُ مُغتاظون، غاضبون، حانقونَ على زَمِيلِيهما يعقوبَ ويوحنّا. فَهَذان التّلميذان، يَدْنُوانِ من يسوع، يَبحثانِ عَن مركزٍ مَرموقٍ في مُلكِه، ويريدانِ الاستحواذَ على نَصيبٍ جَيّد في مَجده الآتي. يَبحثانِ عن تَأميِن مستقبَليهِما، وحصرِ الزّعامةِ في بيتِهِما. وهذا تَصرُّفٌ بشريٌّ بامتياز.

 

فكلُّ زعيمٍ وصاحبِ سُلطة، لَهُ حَلَقة من الْمُقرّبين، يَدورون في فُلكِه، يَقتَاتونَ من عَطاياه، يحاولونَ إرضاءَه، وإثباتَ ولائِهم الْمطلقِ لَه. فَيَتنافسونَ بينَ بعضِهم البعض، محاولينَ جَمعَ نقاطٍ أكثر، والفوزَ بِحظٍّ أَوفر. وأحيانًا يحاولونَ إقصاءَ بعضِهم البعض. فَنَرى أن الْمشاعرَ السّائدةَ بينَهم في الغالب، هي مشاعرُ غيظٍ وحَسدٍ وضَغينة! ولو أنّ المسيح لم ينبِذ هذه العقلية مُبَاشرة، ولم يُئِدهَا في مَهدِهَا، لاستفحَلَت بينَ التّلاميذ، وأدّت إلى نتائِجَ وَخيمة!

 

نَعم، مُؤسِفٌ أن نَرى تلاميذَ المسيح، قَد وَصلوا إلى هذهِ الحالةِ من التّنافُسيّة البَغيضة! ولكنّ يسوع لَم يأتِ ليكونَ مُلْكَ أَحد، ولم يجعل من نفسهِ سلعةً يَتَناحرونَ سَعيًا لاحتكارِها، ولم يسمح لِأحدٍ بأن يستحوذَ عليه، ولم يَدَع أحدًا يضع لَهُ خطّةَ عَملٍ أو أجِندةً يسيرُ بموجَبِها. فَهو فقط مَن يضعُ النّقاطَ على الحروف، وهو مَن يُمسِكُ بالخيوط. فَنَراهُ يُوضِحُ رَأسًا لتلاميذِه أَنّه أَتى لِلْجميعِ ومن أجلِ الجميع، خادِمًا مُتَفانيًا، وفادِيًا إلى أقصى درجاتِ التّضحية: "فابنُ الإنسانِ لم يأتِ لِيُخدَم، بَل لِيَخدُم ويَفدي بنفسِه جماعةَ النّاس" (مرقُس 45:10). وهذا ما أعطاهُ درسًا لتلاميذِهِ، في كيفيّة الزّعامةِ الحقيقية كما يُريدها هو، ولنا نحن أتباعَهُ جميعًا.

 

يقول القدّيسُ بولس في رسالتِه إلى أهلِ رومة: "مَن له موهِبة الخدمةِ فَليخدُم... لِتَكُن المحبّةُ بِلا رِياء... لِيَودَّ بَعضُكم بعضًا بِمَحبّةٍ أَخَويّة. تنافسوا في إكرامِ بعضِكم لبعض" (رومة 7:12-10). التّنافسُ الشّريف بينَ أتباعِ يسوعَ المسيح، يكونُ في إِكرامِ بَعضِنا لبعض، في خدمةِ بعضِنا لبعض، في محبّتِنا الصّادقة تجاه بعضِنا البعض، مَن يَفني ذاتَه لأجلِ الآخرين، وليسَ مَن يفني الآخرين لأجلِ نفسِه! الرّيادةُ والأوّليّةُ عند المسيح، هي في الخدمة، وفي المحبّةِ الّتي تفني ذاتها تضحيةً لأجلِ الآخرين.

 

مع كلّ أسف، هَذهِ العقليّة الدّنيوية الّتي نراها، لا تزالُ تسيطر على عددٍ من أتباعِ المسيح، إكليروس ومؤمنين. تجدُهم كيعقوب ويوحنّا، يبحثونَ عن مناصب يَتَبَوَّؤنها، وعن كَراسٍ يجلسونَ عليها، وعن أَمجَادٍ يحصدونَها. ونَسيَ أولئِكَ أنّ الرّئاسةَ في الكنيسة تَعني خِدمة، المسؤولية تَعني محبّة، الإمرةَ والعِمادةَ تعني تَفانٍ وتضحية. نحن خَدَمٌ أوكِلَت إلينا مَهمّةُ الرّعايةِ والعنايةِ بقطيعِ يسوعَ المسيح، ولسنا فراعنةً لِنَسودَ عليه، ونُسَخِّرَهُ لخدمتِنا وخدمةِ مَآرِبِنا وغاياتِنا.

 

قُلنا في البداية أنَّ الغَيظَ يَعني صوتَ الغَليان، وصوتَ النّارِ حين تشتدُّ حِدّتُها وحرارةُ لَهيبِها! أليس هذا هو أصدقُ وأدقُّ وصفٍ لِتَلك المشاعرِ الْمُعتلّة، الّتي تتولّدُ فينا ساعةَ نَغضبُ ونسخَطُ ونحقدُ ونحسدُ، ونَكرهُ ونُبغِضُ بعضُنا بعضًا؟ أَلا نكونُ كالبركانِ الثّائر، وكالرّعدِ الهادِر؟! ألا نكونُ كالْمياهِ الّتي تَغلي، ويكفي أن تضعَ عليها ملعقةً واحدةً من القهوة، لكي تفورَ من إبريقِها؟! ألا نكونُ كالنّارِ الْمُستَعِرَة الّتي تريد أن تحرقَ كلَّ شيءٍ أمامِها؟! نعم، هذهِ هي حالة الإنسانِ الحاقِد والكارِه والحاسِد والسّاخط!

 

التّلاميذُ العَشرةُ اِغتاظوا، ليسَ لأنّهم أكثر تواضعًا وبساطةً من يعقوب ويوحنّا. وهم لم يغتاظوا من طَلَبَيهِما، بل اغتاظوا مِن الشّخصينِ ذاتَيهِما. وهذا يدلُّ على أنَّ العشرةَ أيضًا هم بنفسِ العقليّة، ويحمِلونَ نفسَ طريقةِ تَفكير ابني زَبَدى. لا يختلفونَ عن بعضِهم البعض. فيعقوبُ ويوحنّا سَأَلوا ما لم يَجرُأ وما لَم يَجسُر، أو سَبقوا باقي التّلاميذ في سؤالِ أَمرٍ، كانَوا كلُّهم يرغبونَ سُأْلَهُ للمسيح!

 

كَم هو مُزعِجٌ عندما ترى البعضَ يمتلِكُ تلكَ النّزعةَ النّرجسيّة، ويعتقدُ واهِمًا أنّه الشّمسُ المنيرة، والباقون كواكبُ تَستَنيرُ من نورِه، وتدورُ في فُلكِه! وكم هي مُنفِّرَةٌ تلك الرّغبةُ الأنانيّةُ عندَ البعض، في تَمَلُّكِ الأشياءِ والسيطرةِ على الأشخاص. وكم هو غَليظٌ وثقيلٌ عندما نرى هكذا مظاهر، قَد تَغَلْغَلَت وتَسَرَّبَت إلى داخلِ الكنيسة!

 

أوّلًا الكنيسةُ للجميع، وَلَيست لأحدٍ دونَ الآخر. ثانيًا الكاهنُ هو للجميع، وليس لفئةٍ دونَ أُخرى. ثالِثًا لا يجوزُ أبدًا بأيّ شكلٍ من الأشكال، للكاهنِ أو الرّاهبة، أن يحصرَ ذاتَه في فئةٍ أو عائلةٍ أو مجموعة، مُنعزِلًا عن باقي أعضاءِ الرّعية. ومُخطِئٌ كلّ من جَعَلَ من ذاتِه مُنحازًا أو محسوبًا على... ولا يحقُّ له بأيِّ شكلٍ من الأشكال، أن يسمحَ لأيٍّ كان، في أن يستحوِذَ عليهِ، أو أن يَضَعَه تحتَ إِبطِه!

 

هذا ما يجب أن يكونَ واضِحًا للجميع! لا يحقُّ لأحدٍ أن يُطالِبَ أو يعتقِدَ، كما أعتقدَ يعقوب ويوحنا، بأنّه صاحبُ زعامةٍ أو حقٍّ، وله وحدَه الشّرعيةُ في الكنيسة وفي مَن يَخدُمُها! نحن لَسنا مُلكَ أَحد، نحن مُلكُ اللهِ فقط! وواجبُ الرّعايةِ والعناية، هو واجبُ الكاهن نحو الجميع. فنحنُ على مثالِ المسيح، أَتَينا لِنخدُم، وإذا طُلِب منّا، نَفدي بِنَفسِنا الجماعةَ الّتي فَداها المسيح، وأوكَلَ إلينا أَمرَ رئاسَتِها وقيادتِها.

 

وفي النّهاية، اِسمعوا الآيةَ جَيّدًا: "أَتَستَطيعانِ أن تَشرَبا الكأسَ الّتي سَأشرَبُها، أو تَقبَلا المعموديّةَ الّتي سَأقبَلُها؟" عن أيّ كأسٍ كان المسيحُ يتحدّث، وأيّة معمودية كان يقصد، سوى كأس الآلامِ والعَذاب، ومعمودية الدّمِ والاستشهاد؟! وبماذا أجابَ التّلميذان: "نَستطيع"! جواب يحمل كثيرًا من التّأكيدِ والإصرار! ولَكن، في بُستانِ الزّيتون، حينَ لَمَعَت السّيوفُ وحُمِلَت العِصيّ، "تَرَكوه كلُّهم وهربوا" (مرقس 50:14)! أَين ذَهَبَ الإصرار، وكيفَ تَبخّرَت الهمّةُ، وتَمزّقت الشّعارات؟

 

الخبرةُ تقول أنْ ساعةَ الشّدةِ والأزمة، هي أصدقُ كاشفٍ لِمَعادنِ المؤمنين، وتُبيّن لكَ فعلًا عمقَ ومدى محبّتهم لِكَنيستِهم، والتفافِهم حول رُعاةِ نفوسِهم. لحظةَ الألمِ تعرِفُ يَقينًا من يَصدقُ الوعد، ومن يَنكُثُ العهد. فالحياة تُعلّمكَ ألّا تَنخدعَ بكثرةِ الشّعارات، لِئلّا تُصابَ بكثيرٍ من خيبات الأمل!