موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢٤ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢١

مِن عَتم المغارة أشرقَ النّورُ الأزلي

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
مِن عَتم المغارة أشرقَ النّورُ الأزلي

مِن عَتم المغارة أشرقَ النّورُ الأزلي

 

أيّها الإخوةُ والأخواتُ الأحبّاء في المسيحِ يسوع. عيدُ الميلادِ لَه نكهةٌ خاصّة وطعمٌ فريدٌ خاصٌ بِنا نحنُ الْمسيحيّين في الكرك. وذلِكَ يعودُ لِسَبَبين اثنين:

 

السّببُ الأوّل يعودُ إلى الرّابطةِ الكِتَابية، الّتي تجمعُ بين أَرضِ مؤاب وبيتَ لحم، مدينةِ داود، حيثُ أشرقَ علينا نورُ الْمسيحِ ابن داود. فَمِن هنا، من أَرضِ مُؤاب، خَرجت راعوتُ المؤابيةُ، تقصِدُ بيتَ لحم (راعوت 22:1)، وهناكَ أَصبَحَت جَدّةً للملكِ دواد (13:4-22). فالعيدُ اليوم ليسَ فقط عِيدًا لبيت لحم، بل هو عيدٌ لَنَا نحن أيضًا بشكلٍ خاص، فحقٌّ لَنا أن نفرحَ أكثرَ من غيرِنا وأن نَفتَخِر. فَمِن أَرضِ كَركِ مؤاب، ومِن بينِ بناتِها، بِنتٌ تَصيرُ جَدّةً لِمَن من نَسلِهَا أَتَى المسيحُ الرّبُّ ابنُ داود، مَن أتَينا لِنُحِييَ يومَ ميلادِهِ المجيد، بأصواتِ النّشيدِ والتّهليلِ والاحتفال.

 

أمّا السّببُ الثّاني فَيَعودُ إلى نَشأةِ كَنيسَتِنا، دُرّةِ كنائسِ الكركِ ومُهْجَتِها. فعيدُ الْميلاد هو عيدُ تكوينِ هذهِ الرّعية. فَهي كالْمسيحِ الّذي وُلِدَ في عَتمةِ مَغارة بيت لحم، وُلِدت هي أيضًا وسطَ عَتمةِ الظّروف وَقَسوةِ التّحدّيات الّتي جَابَهَتها، ولكنّها خَرَجَت نورًا يمحَقُ الظّلمة، ويبثُّ الدّفأ، ويَنشُرُ السّلام. فَفي مثلِ هذهِ الأيامِ الكانونيّةِ من عام 1875، سُمّي الأب اسكندر مكانيو مُرسَلًا إلى الكرك، وَمُؤسِّسًا لهذهِ الكنيسةِ العريقة، الّتي احتَضَنت أبناءَ المنطقةِ كَأُمٍّ حَقًّا، وَسَاهَمت في تَثبيتِ الآباءِ والأجداد في إيمانِهم، وتعزيزِ صمودِهم، من خلالِ دَورِها الفعّال في كلِّ المجالاتِ: الرّوحيةِ والتّربوية. فَالعبرةُ لَيست في كثرةِ الادّعاءِ والكَلام، إنّما في الأعمالِ والأفعال. وأعمالُ هذه الكنيسة تَشهدُ لها.

 

أَيّها الأحبّة، نحتفِلُ بالميلادِ للعامِ الثّاني على التّوالي، وَسَطَ أجواءٍ صَعبَة تُخيّمُ على البشرية. نحتفِلُ به رغمَ الْمخاوفِ والْقلقِ. نحتفِلُ بِه وَوجوهُنا مُكَمَّمَة ومَسافاتُنا مُتباعِدَة، في مَشهدٍ صارَ واقعًا على مَدارِ هَذين العامَين.

 

بِالرّغم من كلِّ ذلك، أَتَينا لِنَحتَفِلَ بِعيدِ ميلادِ السّيدِ المسيح! نحتفِلُ به عيدًا للنّور، آَمِلينَ أن تزولَ من القُلوبِ كلُّ عتمةٍ، ومن الإنسانية كلُّ ظُلمةٍ. نحتفِلُ بالميلادِ عيدًا للرّجاء، مُتَطلّعينَ إلى زوالِ هَذِه الغُمَّة، لِنَنعمَ من جديدٍ بِالصّفاءِ والطّمأنينَة. نحتفِلُ بِهِ عيدًا للسّلامِ والْمسرّة، كَما أنشدت الملائِكةُ في ليلةِ الْميلاد، سائِلينَ اللهَ أَيّامًا مليئةً بالسّلامِ لكلّ الشّعوب، زاخرةً بالْمسرّةِ لكلِّ النّاس. نحتفِلُ بالميلادِ عيدًا لِلمحبّةِ وللوئامِ، عَالِمينَ أَنّنا شعوبٌ وأُممٌ، تَجْمَعُنا جَبْلَةٌ بشريّةٌ واحدة، مُتنافِسينَ في احترامِنا الإنساني بعضُنا لبعضٍ، وإن كُنّا مختلفينَ في أمورٍ عِدّة.

 

كلُّ مِيلادٍ يا أَحبّة هو مَدعاةٌ للفرحِ ومناسبةٌ للاحتفال. ومَن مِنّا لا يُحبُّ أن يَستذكِرَ يومَ مِيلادِه، وأن يُهَنِّأَهُ النّاسُ في ذِكرى ميلادِه؟! وإن كانَ ميلادُ كلِّ واحِدٍ منّا، مناسبةً تجمعُ الكثيرينَ للاحتفال، فَكيف هو الحال عندَ الاحتفالِ بميلادِ المسيحِ الْمَجيد، مَلِكِ الكَونِ وربِّ الكائِنات، مَن أشرقَ على العالمِ فرحًا وسرورًا؟! كيف يكونُ الحال، ونحن نحتفِلُ في هذهِ الّليلةِ الخالدة، بعيدِ ميلادِ كَلمةِ الله الّذي: "صارَ بَشَرًا، فَسَكَنَ بَينَنا، فَرأينَا مَجدَهُ" (يوحنا 14:1).

 

في لَيلةِ الميلاد أَنْشَدَت الملائكةُ قائِلَةً: "المجدُ للهِ في العُلى، والسّلامُ في الأرضِ للنّاسِ، فأنّهم أهلُ رِضاه". نَعم أَيّها الإخوةُ والأخوات، اللهُ مُمَجَّدٌ في عُلاه، وَلَكنَّهُ يَتمجَّدُ أَيضًا في البشرِ الصّالحين أهلِ رِضاه، العَاملينَ بإرادتِه، السّاعينَ إلى تحقيقِ مَشيئتِه. هَؤلاء هم بُناةُ السّلام! ليلةُ الميلاد هي لَيلةُ السّلام. سلامٌ يَبعَثُ الْمُتَخاصمين إلى الّلقاءِ، والْمُتقاتلين إلى نَبذِ العُنفِ وتَبنّي لُغة الحوار. سلامُ الْمسيح في ليلة ميلادِه، يَبعَثُ في القلوبِ سَكِينةً، وفي العقولِ صَفاءً، وفي النّفوسِ راحَة.

 

عيدُ الميلاد يُذِكِّرُنا بِأن نَنبِذَ خلافاتِنا، ونتركَ أحقادَنا، وَاضِعينَ حَدًّا لِلضّغينةِ والرّغبةِ في الانتِقام، ساعينَ للمصالحةِ والمغفرة، بعضُنا لِبَعض. فَإن كانَ للحَربِ والعَداوةِ وَقت، فالآن هو وقتُ إحلالِ السّلامِ ونَبذِ كلِّ خِصام. عيدُ الميلادِ عيدٌ اِنحنَت فيه السّماواتُ مُعانِقةً الأرضَ وَأَهلَها، عِناقَ صَفحٍ ومُصَالحة. فاللهُ صَالَحنا بِكَلِمَتِهِ يسوعَ المسيح، ويدعونا بِكَلِمتِه أيضًا لأنْ يُصالِحَ بعضُنا بعضًا. والمصالحةُ تَتَطَلّبُ من كلّ الأطرافِ فِعلَ انحناءٍ أي عملَ تواضُع، تَيَمُّنًا باللهِ الّذي تنازلَ من عليائِه وصالَحَنا، ونحن على مِثالِه، نَتَنازلُ مع تنازُلِ المسيح في هذهِ الّليلة، لِنَقومَ بِفعلِ مُصالحةٍ، يَئِدُ الخصومات، ويبثُّ في النّفوسِ سَلامًا.

 

أَيّها الأحبّة، مِن الْمَضافةِ خُذوا العِبرة. فَفي لَيلةِ الْميلاد، لَم يَجِد المسيحُ ولا أَبَواهُ، مكانًا في الْمضافَة، يَمكثونَ فيه! إنّما مُنذُ البداية، وَهو في بطن أُمّهِ، لاقى الْمسيحُ الرّفضَ من النّاس! فَكانَ "آيةً مُعرّضةً للرّفض" كما تَنبّأ سِمعان الشّيخ (لوقا 34:2). لَم يُضيفوه، هو الّذي: "جاءَ إلى أهلِ بَيتِه، فَما قَبِلَهُ أهلُ بَيته" (يوحنّا 11:1).

 

أمّا نحنُ: "الّذينَ قَبِلوه، والّذين يُؤمِنونَ باسمِه، فَقد مَكّنَهم أن يَصيروا أبناءَ الله" (يوحنّا 12:1). نحن الّذين قَبِلنا المسيح، صِرنا في المسيحِ أبناءَ الله. في هذهِ الّليلة الّتي نحتفِلُ فيها بميلادِ المسيح، نَراه يأتي إلينا مع أمّه وأَبيه، ينتظِرُ مِنّا مَوضِعًا لائِقًا يولدُ فيه. فَكيفَ لَنا أن نَستَضيفَ المسيح، وقلوبُنا لا تَزالُ مُغلَقةً بالخطيئة، مُقفَلَةً بالزّلة، مَليئةً بالْمعصية، مُتَّسِخةً بكَثرةِ الذّنوب؟! حينَها يكونَ حالُنا كحالِ المضافة، لا يجدُ المسيح فينا لَهُ مكانًا!

 

إذا كان المسيحُ يَبحث في ليلةِ مِيلادِه عن مَوضعٍ يولدُ فِيه، فَسِرُّ المصالحةِ والاعتراف هو أفضلُ طريقة، لِمَن أرادَ حَقًّا أن يُعِدَّ لَهُ هذا الموضعِ، وَيُحضِّرَ هذا المكانَ اللّائِقَ بميلادِه الْمجيد. الْمسيحُ الّذي أَتَانا نورًا يُنير كلَّ إنسان، يريدُ أَن يُنيرَنا من الدّاخل، يَطردَ عَتمةَ الخطيئةِ وبَردَها، ويزيلَ قُبحها ويمحي فَظَاعَتَها. فَما أروعَ هذهِ الليلة لِمَن يَفتحُ قلبَه وكلَّ كيانه لله مَقرًّا يُقيم فيه، وَمَا أَوحَشَها من ليلةٍ لِمَن يُصَمّمُ على البقاءِ بعيدًا عَن الله، مُوصِدًا أمامَه كلّ بابٍ وَمَنفَذ!

 

أيها الأحبة، في ليلةِ الميلادِ دَعونا نُصَلّي لأجلِ الفَرح المفقود، لأجلِ السّلامِ المنشود، ولأجلِ الرّجاءِ الضّائِع. نُصَلّي لأجلِ كلّ الّذينَ ضَلّوا سواءَ السّبيل، وَفَضّلوا ظُلمَةَ الخطيئةِ على نورِ المسيح. نُصلّي في لَيلةِ الميلادِ لأجل الّذين هُم في حاجة لِشفاءٍ وعزاء، لصبرٍ واحتمال، لنورٍ وهِداية. نُصلّي لأجل الْمرضى والسِّقَام، لأجلِ الْمُتعَبين والْمُتَألّمين، لأجل القَلِقين والْمُضطرِبين، لأجلِ البائِسين واليائِسين، لأجلِ ثَقيلي الأحمال، لأجل الحزانى وكَسرى القلوب. نُصلّي لأجلِ شفاءِ البشريّة بِرُمّتِها من هذه الجائحةِ الفَظيعة.

 

نُصلّي لأجلِكم أنتم لِكي يكون ميلادُ المسيح، مُناسبةً تَعود عَليكم بالفرحِ والسّلام والصّفاءِ والسَّكينة. نُصلّي لأجلِ الأحبّة الرّاقدين الّذين سَبقونا إلى الأبديّة بِعَلامة الإيمان، ويحتَفِلون وإيّانا من أمجادِ الْملكوتِ الأبدي.

 

أَختُم عِظتي بشيءٍ مِمّا جاءَ في رسالةِ البطريركِ، يوحنّا العاشِر يازجي، في مناسبة عيد الميلادِ المجيد، يَقول: ((مِن عَتمِ الْمغارة، يَفتح الطّفلُ يسوعُ عَينيهِ على عَتَماتِ عالَمِنَا الحاضر... مِن عَتْمِ المغارة يَطلُّ على عالمٍ لم يَحظَ فيِه حتّى بمنزلٍ... من عَتمِها يُسمِّرُ عَينيهِ في عينيّ العذراء، ويمدّ عِبرها سُبلَ التّعزيةِ، إلى قَلب البشريةِ العَطشى إلى عزائهِ الإلهي.

 

من ضِعَةِ المذود يَطلُّ طفلٌ يَتَوسّدُ مذاوِدَ القلوبِ، لِيُضيءَ عَتمَ مَغاوِرِها بنورِهِ الْمُحيي... مِن عينِ ذَاك الطّفلِ نَظرةٌ إلى كلٍّ منّا، مِن عَينِهِ بريقٌ يَكسرُ أَحزاننا، وعزاءٌ يَشفي جراحاتِنا... مِن قَلبهِ بَلسمٌ يُعزّي الْمحزونين، وَيُهدّئُ من رَوعِ القَلقين... عَلى قَشِّ مِذوَدٍ، وَضَعت مريمُ رَجاءَ البشرية "إلهَ السّلامِ وَأَبَا الْمراحم" له المجد إلى الأبد آمين((.