موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٣ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢١

من التّينةِ خُذوا العِبرة

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
من التّينةِ خُذوا العِبرة

من التّينةِ خُذوا العِبرة

 

عظة الأحد الثّالث والثّلاثون - ب

 

أيّها الإخوةُ والأخواتُ الأحبّاء جميعًا في المسيحِ يسوع. لِفهمٍ أَفضل لهذا النّص، والّذي يَندرِجُ تحتَ بندِ تَعليمِ يسوع الأخروي، وتلكَ الأحداث الّتي تَسبِق مجيءَ ابنِ الإنسانِ في الْمَجد، لا بدَ لنا من العودةِ قَليلًا إلى الوراء. فالفصلُ الثّاني عشر من بشارةِ مرقس الإنجيلي، يَنتَهي مع واقعةِ الأرملةِ الفقيرة، الّتي أَلقَت في خزانةِ الهيكل كلّ رِزقِها. لِيَبدءَ مباشرةً الفصلُ الثّالثُ عشر، مع نبوءةِ يَسوع عن خرابِ ذاكَ الهيكل! وما يُثيرُ العَجبَ والاستغرابَ في نَظري، أن إذا كانَ لبيتِ العبادةِ ربٌّ يحميه! فَلِماذا إذًا نبوءةٌ عن خرابِه ودمارِه؟! هل لأنّهُ تحوّل من بيتِ صلاة، إلى مغارةِ لصوص، ومركزِ تجارة، فيهِ تُظلمُ الأرامِلُ ويُنهَبُ الفُقراء؟!

 

كَثيرونَ حَاولوا تَفسيرَ الأحداثِ الواردِ ذكرها في إنجيلِ اليوم، فَرَاقبوا الظّواهِر الّتي تحدث هنا وهُناك، محاولين تحديد أزمنةٍ وأوقات. فَزَعموا أنّ النّهايةَ ستكون في اليومِ كذا، أو في العامِ كَذا. ولكنَّهم حَمقى، والأشدُّ حُمقًا مَن يُصدّقُهم. "فليسَ لَكم أن تعرِفوا الأزمنةَ والأوقات" (أعمال الرّسل 7:1)، "فَذلِكَ اليومُ وتلكَ السّاعة، مَا مِن أَحدٍ يَعلَمُها" (متّى 36:24) ولكن: "اِجتهِدوا أن تَدخلوا من البابِ الضّيق" (لوقا 24:13)، اِجتَهدوا أن تَثبتوا، لأنّكُم "بِثَباتِكم تكتَسِبون أنفُسَكُم" (لوقا 19:21).

 

نعم يا أحبّة، إنّ كلَّ ما يحدثُ في عالمِنا هو تحقيقٌ لكلامِ يسوع الّذي لَن يزول. في نَفس الوقت، هو دعوة من المسيحِ للاهتمامِ بالأهم، والالتِفاتِ إلى الجوهر، أي أن نهتمّ بالاستعدادِ والتّهيؤ، ونَلتفِتَ إلى التّحضيرِ والإعدادِ الحَسن لِمَجيئِه. وليسَ مُجرّد الانشغالِ بمراقبة الظّواهر، أو ملاحقةِ التّفسيرات والْمُنجّمين والأبراج...

 

نَعم، الرّب سَيأتي. ومَجيئُه يحمِلُ عِدّةَ أشكال. هُنَاك أوّلًا مجيئُهُ الأخروي ديّانًا للخلقِ أجمعين، في يومٍ وفي ساعةٍ لا نعلمُها. وأيضًا هناكَ مجيئُه الخاص إلى كُلِّ مُؤمنٍ يَقبلُه بالقربانِ الأقدس، فَكَيفَ يكونُ استعدادُكَ لِقبولِ الرّبّ وَحضورهِ إليكَ، في هذا السّر العظيمِ الْمبارَك؟ وهُناكَ مَجيئُه ساعةَ موتِكَ وانتقالِك عن هذهِ الحياة، فكيفَ يكونُ استعدادُكَ لهذا المجيء؟ هَل سَتقبلُ الرّبّ فاديًا ومُخلّصًا، أم دَيّانًا عادِلًا، تستحقُّ ما صَنعتَ في دُنياك؟ الرّبُّ آتٍ بِعدّةِ صورٍ وفي عِدّة لحظاتٍ وأوقات. أمَّا طبيعةُ الّلقاء فأنتَ مَن يُحدِّدُها. فَليجتَهِد كلٌّ مِنّا لخلاصِ نفسِه.

 

يقولُ الرّب: "مِنَ التّينةِ خُذوا العِبرَة"! الطّبيعةُ أَعظمُ معلِّمٍ للبشريّة، مِنها يَستَقي الإنسانُ العِبرَ وَيَتَعلّم الدّروس. الطّبيعة سَاعدت الإنسانَ على اكتِشافِ النّار، وأَلهَمَتهُ فكرةَ الطّيران. ويسوعُ اليوم يَدعونا لنتأمّل في الطّبيعةِ، آخِذينَ منها عبرةً تُفيدُنا في أَمرِ خلاصِنا.

 

شجرةُ التّين من الأشجارِ الّتي نُحبُّ زِراعَتها. جُذورُها قَويّة، أَوراقُها كبيرة توفّر قَدرًا من الظّلّ، يحمي من أشعةِ الشّمسِ الّلاهِبة صيفًا. ثمارُها شَهيّة، تُؤكَلُ طازجةً في الصّيف، من حُزيران وحتّى أيلول، ومُجفّفةً في الشّتاءِ أيضًا (القُطّين). أمّا من النّاحيةِ الكتابية، فَشَجرةُ التّينِ من أَكثرِ الأشجار الّتي وَرَد ذِكرها في العهدِ القَديم. وفي العَهد الجديد أيضًا، نَراها في عِدة أماكن. ففي الفصلِ الأوّل من بشارةِ يوحنّا، نسمعُ عن نتنائيل الّذي كان جالِسًا تحتَ التّينة، قَبلَ أن يدعوُه فيلبّس لِمُقابلة يسوع (يوحنا 45:1-51). ويسوع في إنجيل اليوم يُعطينا من التّينةِ عِبرة، ولكنّه في المقابل، كانَ قَد لَعَنَها، عِندما لم يجِد عَليها ثمرًا (مرقس 12:11-14). وبعضُ المفسّرين رأوا في ذلك صورةً عن بيتِ إسرائيل، الّذي لم يُعطي ثمرًا كَما يُفتَرضُ، بل كان شعبًا عقيمًا، رفضَ الإيمانَ بالمسيح.

 

وهُنا أَصِلُ إلى النّقطة الْمحوريّة وهي الإثمار. اِسمعوا جَيّدًا ما يقول يسوع: "مِن التّينةِ خُذوا العِبرة: فإذا لَانَت أغصانُها، ونَبَتَت أوراقُها، عَلِمُتم أنّ الصيفَ قريب". ولكن، لِماذا لم يُكمِل يسوعُ قائِلًا: ورأيتُم ثمارَها؟! أَرى أنّ النّص يَتضمّنُ هَذهِ العبارة، حتّى لو لَم تَرِد صراحةً على لِسان يسوع. فَهو إن كان قَد لَعنَ التّينةَ قبلَ قليل، في الفصلِ الحادي عشر، لأنّه لم يَجِد عليها ثمرًا، بَل ورقًا فَقط. فَهَذا يدلُّ على أنّ يسوع يُريدُنا أن نكونَ تِينةً مُثمرة، لا تينةً عَقيمة، تَزهو فقط بأوراقٍ لا يُستفادُ مِنها. فَكَمَا أنّهُ لا فائدة من تينةٍ بلا ثَمر، كذلِك لا فائدة من مؤمن بلا ثَمر! كِلاهُما مَصدر عُطل!

 

الفرقُ مَهول بينَ حجمِ ورقةِ التّين وحَجمِ ثمرِها، ولكنَّ الفائِدة تَكمُن في الثّمرِ الصّغير لا في الورقِ الكَبير. الفرقُ بَينَهما هو كالفرقِ بينَ مَن يَزعمُ ويَدّعي، وبينَ من يَعمل ويَصنع فِعلًا. فالْمُدّعي وكثيرُ الكَلام هو كالتّينةِ كثيرةِ الأوراق ولكنّها بلا ثمار. "فأرِني إيمانَك من غيرِ أَعمال، أُرِكَ أنا إيماني بأعمالي" (يعقوب 18:2). والإثمار أيضًا هو من أَعمالِ التّوبة: "فأَثمِروا إذًا ثَمَرًا يَدلُّ على تَوبتِكم" (متّى 8:3). فالتّوبةُ لَيست فقط اعترافًا بالزّلات، ولكنّها نهجُ حياة، أي عَمل.

 

وإذا كان يسوع يُخاطِبُنا قائِلًا: "أنا اخترتُكم وأَقمتُكُم لِتذهَبوا فَتُثمِروا ويَبقى ثَمَرُكُم" (يوحنّا 16:15) فهذا يَعني أنّه يطلب مِنّا ثمارًا تدلُّ على اتّحادِنا به، أَليسَ هو الكرمةُ ونحن الأغصان؟! (يوحنّا 5:15). لذلك دعوتُنا صريحةٌ وواضِحة، وهي أن نُثمِر. وحتّى نُثمِر لا بدّ لَنا من الثّبات: "فَمَن ثَبتَ فِيَّ وَثبتُّ فيه، فذاكَ الّذي يُثمِرُ ثَمَرًا كَثيرًا" (يوحنّا 5:15).

 

وكَمَا أنَّ الأشجارَ على أنواع، فَكَذلِك الثّمارُ على أنواع! فَالشّجرةُ الطّيبة تُثمِرُ ثمارًا طيّبة، والشّجرةُ الخبيثة تُثمرُ ثمارًا خَبيثة! فَمِن ثمارِهم تعرفونَهم. ولكن، ككُلِّ شجرةٍ لا تثمِرُ ثمارًا طيّبة وتُعطّل الأرض، كذلِكَ كلُّ مؤمن لا يُعطي أعمالًا صالِحة، تَأتي ساعةٌ فيها يُقطعُ ويُفصَل (راجع متّى 16:7-20)، إذ لا مكانَ للغُصنِ العقيمِ في كرمةِ الْمسيح الْمُثمِرة (يوحنّا 2:15).