موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٧ يونيو / حزيران ٢٠٢٢

من أنا لكم؟

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
من أنا لكم؟

من أنا لكم؟

 

الأحد الثاني عشر (الإنجيل لو 9: 18-24)

 

قال اللاهوتي المرتد الكبير، كارل راهنر (1886 -1968): إنّنا دائما نجد في التوراة ما نبحث عنه. إن فتّشنا عن سرِّ عظيم، نجد جوابًا عظيمًا. إن فتّشنا عن شي تاريخي، نجد هذا الشيء التاريخي. إن فتّشنا عن تعليم مهم، نجد هذا التعليم المهم بين طياتها. ولا نجد شيئًا إن لم نُفتِّش فيها عن أي شيء يهمّنا. فهل نجد في التوراة جوابًا على سؤال يسوع لتلاميذه اليوم؟

 

عادة هو الإنسان، الّذي يسأل عن كل ما يجول بخاطره، ليطّلع على ما هو خفيّ عنه، ومن ضمن السّؤالات طبعًا، السّؤال عن الله. وهذا السّؤال يدوم من ألفي سنة، إذ الناس يريدون أن يعرفوا من هو الله! والجوابات ما نضَبَت بعد، ولن تنضب، هذا والسّوءآلات تبقى مفتوحة خاصة في عالم ما عاد يعطي لذاك الرّجل، الذي سمّى نفسه ابن الله، تلك الأهمية كالأجيال السابقة. أما اليوم فيتفاجأ الإنسان بأن الله يسأل: من أنا لكم؟

 

من غير الممكن لنا أن نعرف إن كان الله موجودًا أو ما هي طبيعته، كما سمعنا في الأحد الماضي، عيد الثالوث الأقدس، إلا إذا أخذ هو المبادرة، وكشف لنا عن نفسه. وللوصول إلى هذا الهدف، فقد كلّف شخصًا، اسمه يسوع، كشف لنا تمامًا من هو الله، وأنّه هو ابنُه. ولد قبل 2000 سنة في إسطبل، في قرية من قرى فلسطين، اسمها بيت لحم، وحتى هذا اليوم يحتفل العالم أجمع بعيد ميلاده.

 

لقد عاش المسيح في صمت حتى بلغ سن الثلاثين، وبعدها بدأ في الخدمة العلنية والتي استمرّت ثلاث سنوات، وكانت خدمته مصمَّمَة لتغيير مجرى التاريخ، بل معه أصبح العالم عالمًا جديدًا. لقد كان شخصًا لطيفًا وأصغى إليه عامة الناس بسرور: "لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان" (متى 7: 29).

 

فمن هو يسوع إذن، الّذي علّمنا من هو الله؟ والّذي كان طيلة تبشيره حجر عثرة للفريسيّين. فهو بعد فترة من حياته العلنية، بدأ يقدم بوضوح، في تعليمه تصريحاتٍ حول نفسه. تصريحاتٍ مذهلة تصدم من يسمعوه، عرّف على نفسه بصورة تفوق المعلِّم أو النبي. وبدأ يقول بصراحة أنه هو الله. قد كانت هويته هي محور تعاليمه. وأن أهم سؤال سأله للذين يتبعونه هو: "من تظنون أني أنا؟"، فأجاب بطرس: "أنت هو المسيح ابن الله" (متى 16: 15 – 16) فلم ينتهره ولم يَنف ما قاله بطرس، بل على العكس، فقد أكد ذلك مادحًا إيّاه.

 

هذا وقد صرّح بشكل علنيّ، أنه الله، مما أثّر ذلك على من هم حوله فيقول الكتاب المقدس: "من أجل هذا كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه. لأنه لم يَنْقُض السبت فقط بل قال أيضًا أن الله أبوه، مُعادلا نفسه بالله" (يوحنا 5: 18). وفي مناسبة أخرى قال: "أنا والآب واحد"، وبعدها أراد اليهود أن يرجموه، فسألهم لاي عمل صالح تريدون أن تقتلوني فأجابوه: "لسنا نرجمك لأجل عمل حسن، بل لأجل تجديفك، فإنك، وأنت إنسان، تجعل نفسك إلهًا" (يوحنا 10: 33).

 

وعندما أتى رجل مشلول يريد منه أن يشفيه "قال له يسوع: يا إبني مغفورة لك خطاياك"، فاحتجَّ القادة الدينيّون وقالوا في قلوبهم "لماذا يتحدث هذا الرجل بهذه الطريقة؟ إنه يجدّف"، إذ الله وحده يمكن أن يغفر الخطايا! فأجابهم يسوع: هذا حتى تعرفوا، أنَّ ابنَ البشر له سلطان أن يغفر الخطايا". ولما سأله فيلبس: أرنا الأب وكفى، أجابه يسوع: هاأنذا معكم زمانًا ولم تعرفني يا فليبس؟ من رآني فقد رأى الأب، فكيف تقول أنت أرنا الأب" (يوحنا 14: 22) هذا وكثير غيرَه كان يسوع قد علّمهم وشرحه لهم. فكانوا قد سمعوه، إذ هم من البداية معه. لكنّه لسبب أو لآخر، فاجأهم اليوم وسألهم: هل تعرفون الآن مَن أنا لكم؟

 

السّؤال وخاصّة الجواب عليه هو ميزان الحرارة، للتفكير البشري حول محتوى السّؤال عن شخص أو شيءٍ مهم. فقبل أن نسمع، إن كان يسوع قد اطمأن، إذ سمع جواب التلاميذ، لنسمع أوّلا كيف يحكم النّاس على شخصيات معروفة. فعلى سبيل المثال، جرى استطلاع في نفس الوقت بين الشبيبتين، في أمريكا وألمانيا حول شخصية البابا الكهل يوحنا الثالث والعشرون، والذي أعلن عقد المجمع الفاتيكاني الثاني على عاتقه. النتيجة في ألمانيا كانت للأسف سلبيّة محزنة ومجحفة، والسبب؟ قالوا الكنيسة لا تتزحزح بموقفها تجاه مشاكلهم: في سؤال الجنس او في عدم التحرّك في مشكلة الطّلاق، التي لم يقبلها يسوع: في البدء لم يكن هكذا. لذا يلزم الرّجل امرأته. ثمّ عن عدم الزواج بعد الطلاق، أو زواج الكهنة أو منع الكهنوت للمرأة، كما وإن الأكثرية وجدت خطاباتٍه متصلِّبة وأحيانا فارغة. بالنتيجة لم يحصل منهم على مكان بين أشهر عشر رجالات العالم. هذه الشبيبة الحديثة، هم فريسيّو زمان يسوع، الّذين ما كان عندهم إلا انتقاد ليسوع ومعاكسته. بينما عام 1994 فقد جرى استطلاع عن البابا يوحنا بولس الثاني، أيضا في كلّ أرجاء العالم، فنال هذا البابا في ألمانيا على 80% من أصوات شبيبتها بالمقام الأول بين أشهر عشر رجالات العالم. بل وأعطوه لقب السوبرمان.، إذ هو في كل ما يقول ويعلم ويصنع، يُماشي العصر وعقليتهم، بل كانوا معجبين بطريقة قيادته للكنيسة.

 

هذا المثل يقول لنا بأي عين تنظر الشبيبة في أوروبا إلى كنيستها وماذا تُفكِّر عنها. فهم يريدون كنيسة أحرى، أقول غير كنيسة يسوع المعروفة، بل يفتّشَ كلٌّ منهم عن كنيسة خاصة تُطابق وتتمشّى مع ميولِه ومصالحه هو. أي لا علاقة لها بالكنيسة الّتي أسّسها يسوع، غير حاوية على محتوى تعليم يسوع الشامل، بل على أفكارهم المُغرضة. بينما شبيبة العالم الثالث فهي لا يخطر على بالها انتقاد الكنيسة بل هي راضية بكل ما تٌقدِّمُه له، فخورة بقيادتها التي تنال كل الاحترام والتقدير. كثيرون من هذه الشبيبة، إن لاحظوا مشكلة أو سوء تفاهم مع الكنيسة، لا يمسكون القلم والقرطاس وينتقدوها بمقال لاذع، بل يذهبون إلى الكنيسة ويصلّون من أجلها. هذا غريب على شبيبة أوروبا أو أمريكا، التي تفتكر أن قوانين وتعليمات الإيمان هي تضييق لحرِّيتهم الشّخصيّة، وللتخلّص من صوت الضمير. وفي مثل هذه الحالة، هم يتعاملون مع الكنيسة كأنّها نادي رياضي، يُقدِمون على إعلان خروجهم منه. لكن أيُّ حلٍّ هو هذا؟ أليس هو خيانةً للدّين والضمير؟ هذا ولفهم موقفهم هذا نسأل: كم كانت ممارستهم بل وشهادتهم للدين في حياتهم اليومية؟ كم منهم كان مواظباً على حضور قداس الأحد؟ فهذه الشبيبة كانت قد تركت الكنيسة من زمان بعيد والان، إعلانها الخروج من الكنيسة، ما هو إلا إعلانها الرّسمي لعدم المُمارسة. إنّ حلّ عقد الإيمان غير هو ممكن، فهو ليس حلّ عقدٍ تجاري: لا أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء، هو صالح لملكوت الله (لو 62.9) الإيمان هو عطيّة من الله، لكنّه مٌلزِمٌ للحياة. هذه الشبيبة لم تعرف المسيح كما يجب منذ طفولتها، وما كانت علاقتها معه متينة كعلاقة الابن بأهله. فالسّؤال من جديد: من هو الفاشل، حتى توصّلت أكثر شبيبة الغرب إلى هذا التّعامل مع الدّين والكنيسة؟ أَهُمُ الأهل؟ أم الكنيسة؟ أم المجتمع؟ ماهاتما غاندي، البوذيُّ الدّين، يبدو أنَّه قرأ الإنجيل أثناء دراسته في لندن، واختلط مع مسيحيها، كان قال مرّة: إنّي مُعجب بالمسيحية لكن ليس بالمسيحيّين. إنّه ينقصنا الاستعداد الدّاخلي، أن نعيش حياتنا حسب تعليم الله ووصاياه، فيبقى إيماننا ضعيفا، ونتصرّف حسب الرّوح المُعاصرة. الرّوح المعاصرة هي ليست الإيمان، وليست وحياّ من الله، بل هي فقط عذرٌ أقبح من ذنبٍ، كي لا يُطلب منّا التزامات وواجبات تجاه أيِّ فردٍ. الحرّية لا تعني التّحرر من القوانين والوصايا العامة، الّتي تأمر بالمعروف وتنهى عن المُنكر. من هنا خيبة الأمل والاستياء من الحياة إجمالا. بينما محبّة الإيمان فتأتي من الداخل، من القلب: لقد خلقتنا لك يا رب، ولن يستريح قلبنا إلا فيك. ماذا تقول النّاس من هو ابن البشر؟ قالوا منهم من يقول إنه نبي، وآخرون إيليا أو يوحنا أو أحد الأنبياء، الّذي قام من القبر. على اختلافها، كلها جوابات صحيحة لا مناقضَة فيها، لكنها بحاجة لتوضيح، فيسأل يسوع: والان، من أنا لكم أنتم؟ أجاب بطرس: أنت المسيح ابن الله (لو 9: 16-18) جواب أعلى من جواب أيِّ لاهوتيٍّ مُحترف ويؤكِّده القائد الرّوماني لثاني مرّة تحت الصليب: بالحق كان هذا ابنَ الله.

 

أنا شخصيّا أسأل نفسي يوميًّا: من هو يسوع لي، لحياتي، للعالم، للبشر حولي؟ إنّ يسوع يحبُّ دائما أن يعرف من كل واحد، من هو له. فماذا نفكّر أنّه هو؟ وماذا يعمل لنا، بل ماذا نعمل نحن له؟

 

نعم أيها المستمعون: من هو يسوع لكم؟ بسؤاله لا يُفتِّش يسوع عن معرفة شعبيّة، بل عن مدى فهم الناس لتعليمه وتأثيره عليهم، لتقوية إيمانهم، إذ مرارا كثيرة، ما كانوا يفهمون ما يقول لهم (متى 11:4). هذا السّؤال جاء من بعد ما عمل يسوع ثلاث عجائب أمام التّلاميذ والحضور حواليه: أوّلها تسكين العاصفة، ثمَّ إقامة تاليتا، ابنة القائد الرّوماني من الموت، وثالثها شفاء المرأة المنحنية الظهر. كلّها عجائب زادت من قربه للبشر ومحبتِهم لهم. كُتُب ومقالات لا تٌحصى، كُتِبَت عن يسوع (البابا الفخري المتقاعد بندكتوس كتب 3 كتب أثناء حبريّته، صارت من أشهر الكتب المعروفة عن يسوع). أفلام تُنتَج عنه، محاضرات لا تُحصى ولا تُعَد، ولكن كلّها نقطة ماء بارد على حجرٍ ساخن، لا تُؤدّي ولا تفي بالواجب. إذ يسوع يُعرف لا من الكتب والأفلام والمحاضرات، لكن من الإيمان. وجود المسيح بين ومع البشر يؤكِّد لنا، أنّ الله ما يئس من البشر بل صار قريباً منهم، صار واحداً منهم، ليساعدهم بالأكثر، وكلُّ أعماله للبشر كانت بالنيابة عن أبيه، الّذي أرسله لخلاصهم. شفى المرضى غفر الخطايا، أقام الأموات، كلُّ ذلك من قوّة أبيه، لكي يعلم النّاس أن ابن البشر له سلطان أن يغفر الخطايا. بعد كلِّ هذا جاء السّؤال: من أنا للنّاس وبالتّالي لكم؟ فما علينا إلا أن نكرِّر إيمان بطرس، الذي هو إيماننا حتى اليوم. فالتلاميذ والأناجيل حينما يتكلّمون عن يسوع، لا يُقدِّمونه كأحد معلّميهم الرّابي، أي أنّه مرَّ مُرورَ الكرام على هذه الأرض، كرز ومات وعاد ذكرى تاريخية فقط، بل يُقدِّمونه إلى اليوم حيّا، أنا معكم كلَّ الأيام! فمن يفتكر بيسوع، يجد فيه مواقف عزاء كثيرة لحياته. هو بالاختصار: المسيح ابن الله. هو الوجه المنظور لله الغير منظور: من رآني، فقد رأى الأب. آمين!