موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٩ سبتمبر / أيلول ٢٠٢١

من أنا لكم؟

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
من أنا لكم؟

من أنا لكم؟

 

الأحد الرّابع والعشرون، مرقس 8: 27-35

 

عالَمُنا ما بقى عالم الله، مثلما طلع من يد الله بعد خلقهن بل لقد لقد دمّرته الخطيئة، لكننا بالتالي من بعض ما يحدث فيه، نكتشف أن صفاتا لا تزال تدل على أن آثار إلهيك عبقريّة تُذكِّنا به. والآن، فكم من شخصيّةٍ مرّت على عالمنا، كم من شخصيّة مشهورة، وُلِدت وعاشت على أرضنا. كم من مفكّرين كم من علماء، كم من قادة جيوش، كم من ملوك، حكموا هذا العالم، كم من رياضيين خلّدهم التاريخ، كم من شاعرٍ، كم من كانب عبقري، كم من فيلسوف غيّروا مجرى التّاريخ في هذا العالم، كم من نبيٍّ أرسل الله لهداية هذا العالم؟ كم من مؤسس ديانة عرفه العالم والتّاريخ، كم من موسيقيّين، خلّدوا آثاراً في هذا العالم؟ فعالمنا إذن محظوظ، أنه حوى مثل هذه الشخصيات. لكن السُّؤال من هو أشهرهم؟ من تقول النّاس أنَّ ابن البشر هو؟ هذه هي السّؤالات، التي تخطر على بالنا، بعد قراءة إنجيل اليوم.

 

نحن نعيش في زمان، يريد كل واحد منّا أن يعرف، ما هي أفكار النّاس عنه، وماذا يريدون من بعضهم؟ فكثُرت الكتب والجرائد والمحطات، التي تهتمُّ بالإستطلاعات عن كل شيء. ومن الجوابات على سؤالات الإستطلاع، يقدر الواحد أن يُعطي حُكما، إيجابيا أو سلبيّا. هكذا الدّعايات أيضا، فهي تلعب دوراً كبيراً، في تعريف سِلع السّوق وتسويقها. فكلُّ ما ترى العين، وكل ما تُنتِجُه الصّناعة، له صفحات في الجرائد والمحطات الإذاعية، تمدحه وتقول للبسطاء، كم هو ضروري لكم امتلاك أو شراء كذا وكذا، فتصبحوا سُعداء، كأن السّعادة تقوم بامتلاك هذا أو ذاك من محتويات السّوق.

 

بطريقة مشابهة، هل يريد يسوع بسؤاله اليوم أن يعمل دعاية لنفسه؟ يسوع ما كان بحاجة لدعاية، فهو، كما يقول المثل الدّارج: أعرَفُ مِمّا يُعرَّف. يسوع كان يسعى لبناء ملكوت الله على الأرض، وهذا يعني، كان يسعى أن يكسب أتباعا، بأقواله وأمثاله وكرازاته، وتحذيراته أيضا، من هنا أفكار النّاس عنه، فهو واحد من الأنبياء المعروفين، ظهر مُجدَّداً بين الشعب. أما هو فلم يكتف بتفكير الناس عموما. ولم يكتفي بأقوال عامة مٌبعثرة، بل قد أراد أن يعرف من تلاميذه مباشرة، ما هي أفكارهم هُمْ عنه؟ فهل تفكيرهم يختلف عن تفكير العامّة؟ وقبل أن نسمع الجواب، ألا يخطر على بالنا نحن، أن نسأل أنفسنا: ما هو يسوع لي؟ بسؤاله لتلاميذه، هو يريد أن يعرف، إنْ كانوا قد استوعبوا شيئا من ملكوت الله، الذي هو في بنائه بينهم، وإن كانوا راضين بما يسمعون ومستعدِّين لأن يعاونوه في نشر هذا الملكوت. فجاء جواب بطرس، المذكور في إنجيل متى: أنت المسيحُ ابنُ الله الحي. فيردّ عليه يسوع بالمكافأة: أنت بطرس الصخرة، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي(متى 18:16)

 

إن جواب بطرس، كان القاسم المشترك، والأساس ليبني عليه يسوع ملكوته. هذا وإن بوسع ملكوت الله أن يقوم، فقط هناك، حيث كل تلميذ يُؤمِن شخصيّاً ويعرف، من هو يسوع. وهذا لن يكون بالهيّن لهم، إذ لاحقا سيصف لهم ما يترقّبهم،.بسبب اعترافهم به.

 

يجب أن يحسبوا حساباً لاضطهادات كثيرة: كما اضطهدوني سيضطهدونكم، وفي الحياة اليومية، لا مناص من حمل الصليب: من أراد أن يكون لي تلميذا، فليزهد بنفسه كل يوم ويحمل صليبه ويتبعني. فهذا الكلام يختلف عن كلام الدّعايات والتّسويق، خاصّةً وأنّنا نجد في مواقع أُخرى تعليماتٍ وتحذيراتٍ مشابهة، مثل التّخلّي عن الرّفاهيات: عن المال والملابس الفاخرة: لا تأخذوا قميصين. لا يستطيع الإنسان أن يعبد ربّين: الله والمال! من لطمك على خدّك فأدر له الثاني. فمن هذه الأقوال وكثيرٌ غيرُها، يُري يسوع لمن يتبعه، كيف يمكنه أن يكون سعيدا في هذه الدّنيا، وذلك ليس بامتلاك الخيرات الدّنيويّة، لكن بالتضحية بالذّات والخيرات المادّية من أجل القريب. بهذا هو لا يريدنا أن نعيش حزانى بل فرحين، إذ الفرح هو علامة المسيحي: إفرحوا مع الفريحين. هذا وإن صدف، ورمانا الدّهرُ بحملٍ ثقيل، فلنا في يسوع أحسن مُعين: تعالوا إلي يا جميع المُتعبين والمثقلين، وأنا أُريحكم. لكنه يريدنا أيضاً أن نكون مستعدّين لحمل صليبنا، وهذا الصليب غالبا ما يكون مُتعدِّد الوجوه، سواء من الدّاخل أو الخارج. فمنه ما يكون المرض المفاجئ الطّويل، أو الحسد في مكان العمل، أو حتّى فقدان العمل، أو هضم الحق من صديق عزيز. لكن لا ننسى أن خلاصنا هو في الصليب. إذ كما يقول الدّعاء يوم الجمعة الحزيمة: في الصليب شفاء ورجاء وحياة

 

منذ قيامة يسوع، يوم أحد، من بين الأموات، والكنيسة تجتمع أحداً بعد أحد للصلاة الجماعية وإعلان الإيمان بهذي الحقيقة وبه. هذا الإيمان ساقه لنا عدة شهود، من الأنبياء، إلى الأناجيل فالرُّسل وخلفائِهم، ومن البابوات والأساقفة، ومن اللاهوتيين وعلماء التوراة والقديسين، هؤلاء كلُّهُم، وصفوا لنا هذا الحادث ودونوه لنا بصلاة الكنيسة: نؤمن بإلهٍ واحد.

 

إن التوراة بدفّتيها وككتاب متكامل، هي المِلَف الكامل، الّذي يشرح للبشر صحة الإيمان ووحيه عن الله وعالمه. فيها نجد مُبعثرة كل حقائق صلاة قانون الإيمان، التي هي صلاة الكنيسة الرسمية، أحداً على أحد، وعلى مدار السنين. فكلمة الإيمان هي من أروع الكلمات التي نجدها في التوراة. إيماننا هو مزيج من نبوآت وتعاليم أنبياء الشعب، هو تعليم يسوع للرّسل، وكرازات وتبشير الرّسل، ثم قرارات المجامع المسكونية وتعليم اللاهوتيين. نعم هذا هو إيماننا، الّذي فيه وُلدنا وقبلناه، ونتناقله من جيل إلى جيل.

 

سمعنا قبل قليل مقطعاً من أهم وأقوى مواقع أساس وموضوع إيماننا: يسوع يسأل التلاميذ عن إيمانهم عنه وعن إيمان الجماهير حواليهم. فهم من سنتين معه يسمعونه يعظ ويرشد ويشفي ويجالس النّاس، حتّى  الخطأة. فما هو فكرهم عنه. من هو لهم؟ هل استطاع أن يُعطيهم فكرة عمّا هو؟ فهل هو فقط النّجار ابنُ يوسف ومريم؟ هل هو فقط مبشّر متنقّل ككثيرين قبله؟ هل هو نبي أو ما شابه ذلك؟ إنَّ فكر النّاس عنه كان دائما منقسِما. فمنهم من كان معه، ومنهم من كان عليه. كما الحالة حتى اليوم. سؤال يسوع ما هو للماضي فقط، بل ولنا أيضا. نعم من هو يسوع لنا؟ من هو هذا الشخص الفريد، الذي نؤمن به؟ يسوع اليوم يُوجِّه السّؤال لكل واحد منّا شخصيّاٌ: من أنا لك؟ فكما بطرس باسمه الخاص، ناب عن الجميع واعترف: أنت المسيح، ابنُ الله الحي، تٌعطي الكنيسة جوابها الدّائم عنّا أبضاً، في صلاة المجد لله في العلى، حيث تقول: أنت وحدك القدّوس. أنت وحدك الرب. أنت وحدك العلي، يا يسوع المسيح! الكنيسة أرادت أن تسهّل الإيمان لنا، فجمّعت هذه العبارات المُكثّفة، في الوقت الّذي كان فيه الإيمان جقيقةً واقعيّةً، ومقبولاً من الجميع. فكم نحن سعيدون اليوم، أنّ لدينا الجواب الصحيح على سؤال يسوع لبطرس. بطرس جاوب بإسمنا جميعاً: أنت المسيح ابنُ الله. فإن قبلنا بفعل الإيمان العلمي اللاهوني هذا، يمكننا أن نتبعه إلى حيث يريد منا.

 

هذا جواب صحيح، لكن الإعترافَ بالفم لا يكفي، بل يجب التطبيق العملي بحياتي الخاصّة. هل أنا مستعد أن أُسامح سبعين مرّةً سبع مرّات؟ هل أنا مستعد أن أُحبَّ قريبي كنفسي؟ هل أنا على استعداد، أن أُضحّي بنفسي ومالي وما أملك لقريبي المحتاج؟ هل أنا مستعد، أن أُطبِّق تعليم يسوع في المواقف والأحوال اليومية الجدبدة حياتي؟ إذ الإعتراف بيسوع، لا يبقى بدون عواقب قعلية. ونَّ الإيمان العملي لا حدود له في الحياة اليوميّة. أما قالت لنا الرسالة الثانية من إنجيل اليوم، من  يعقوب الرّسول: "ماذا ينفع يا إخوتي، أن يقول أحدٌ إنّه يؤمن، إن لم يعمل؟ أبوسع الإيمان أن يخلّصه... فالإيمان، إن لم يقترن بالأعمال، صار ميتاً في ذاته" (يعقوب 14:2 و 18). إذن إيمان بدون أعمال هو أعمال بدون أيمان.

 

فالإيمان هو ليس فقط القبول ببعض الحقائق، بل هو أكثر من ذلك. هو القبول بكلمة الله والعمل بها. كنت جوعانا.. سجينا، مريضا... هذه الأعمال التي نعملها على الأرض، هي بمثابة رأس مال بين أيدينا، له فوائده في السّما، كما قال يسوع: إكنزوا لكم كنوزاً في السّماء، حيث لا يفسد سوس ولا صدأ، وحيث لا ينقب سارقون ويسرقون" (متى 19:6).