موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢٢ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٢

"مسيرة الخروج الإلهي" بين كاتبي نبؤة اشعيا والإنجيل الأوّل

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (اش 2: 1- 5؛ مت 24: 37- 44)

سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (اش 2: 1- 5؛ مت 24: 37- 44)

 

المُقدّمة

 

سنبدأ في الاستعداد لسرّ تجسد الحب الإلهي من خلال زمن المجيء للأربع مقالات اللاحقين بدءاً من هذا المقال. وبهذه المناسبة الطقسيّة نودّ أنّ نستكمل مسيرتنا الكتابية تماشيًا مع الزمن الليتورجي وأيضًا مع خطة الكنيسة الكاثوليكية نحو "كنيسة سينودسيّة – أيّ كنيسة تسير معًا" كأعضاء جسد المسيح الّذي سيولد. لذا رأينا أنّه من المُفضل إتباع خطة كتابية بسيطة من خلال هذه الأسابيع الأربع القادمة في سلسلة القراءات الكتابيّة فيما بين العهدين متبعين فكر الرّبّ ومنهجيته الّتي كشف عنها من خلال كلماته. فرأينا أنّ هناك مسيرة خروج إلهية عظيمة بدأت منذ خروج الله-الواحد والثالوث معًا منذ الخلق إذ خرج من ذاته وتفاعل مع حبه الكامن بداخله وخلق الإنسان. إلّا أنّ هذا الخروج لم يتوقف بعد فاستمر يكشف عن ذاته وبهذا استمرت مسيرة خروجه العظيمة لأجل كلّاً منّا ولأجل أن نكون متحدين به كرأس الكنيسة الّتي هي بمثابة جسده. سنتعمق معًا في هذه المقالات الأربع القادمة بسرّ الخروج الإلهي المستمر نحو تجسد الابن وخروجه من رحمّ الله الآب من خلال نصي اشعيا (2: 1- 5) بالعهد الأوّل ومقطع من الإنجيل بحسب متى (24: 37- 44). هادفين أن تستمر مسيرة خروجنا للقاء الابن الإلهي الّذي لا زال يخرج حتى اليوم للقائنا ولخلاصنا.

 

1. دعوة للَسِيرْ في نورِ الرَّبّ (اش 2: 1- 5)

 

النبي هو الّذي يعيش في زمنين، زمن إلهي من خلال حملّه الرسالة الإلهيّة بينما يحيا زمنه البشري. وهو أيضًا الّذي يعيش في مكانين المكان الّذي يبشر فيه والّذي يرسله الله إليه، وأيضًا المكان الّذي يكشفه الله له، ليرافق الشعب مستقبلاً. إذن النبي هو حلقة الوصل بين العالم الإلهي والبشري في مكانين وزمانين. يحيا النبي رسالته أثناء معايشته خبرة فريدة مع شعبه الّذي أرسله الرّبّ إليه. لذا تأتي كلمات النبي اشعيا في مطلع نبوءته بإعلان إلهام الله له كاشفًا عما سيتحقق مستقبلاً، من تجسد ابن لله، قائلاً بأن جبل الرب سيكون مركز الشعوب وإليه: «وتَجْري إِلَيه جَميعُ الأُمَم، تَنطَلِقُ شُعوبٌ كَثيرةٌ وتَقول: هَلُمُّوا نَصعَدْ إِلى جَبَلِ الرَّبّ إِلى بَيتِ إِلهِ يَعْقوب وهو يُعَلِّمُنا طُرُقَه فنَسيرُ في سُبُلِه لأَنَّها مِن صِهْيونَ تَخرُجُ الشَّريعَة ومِن أُورَشَليمَ كَلِمَةُ الرَّبّ» (اش 2: 2- 3). من خلال هذه الكلمات يكشف النبي عنصرين لّاهوتيين:

 

الأوّل: أنّ مسيرة صعود الشعب من أسفل الأرض إلى أعلى الجبل، تتطلب مجهود لكن هناك يتم اللقاء بالرّبّ الّذي خرج من مجده ليلتقي شعبه. على جبل أورشليم هناك الهيكل الإلهي أيّ مسكن الرّبّ الّذي يحوي "لوحيّ الشريعة". في هذا القول يكشف مسيرة الخروج والصعود الّتي يبذلها البشر هادفين إلى ترك طرقهم الأرضية والصعود نحو الرّبّ الّذي يصير معلمًا وقائداً فيرشدهم الطريق السليم الّذي يسيرون فيه.

 

ثانيًا: هناك مّن يمهد طريق الصعود للجبل أمام الشعب وهو "كَلِمَةُ الرَّبّ" (أش 2: 4- 5). لأن الطريق الّذي يقودهم الرّبّ فيه هو الطريق الّذي يرشدهم إلى اللقاء به من خلال قوة كلمته. وبنهاية المقطع يحمل النبي، من خلال خبرته مع الشعب، دعوة لنا ككنيسة وهي تناسب فكر عصرنا قائلاً: «هَلُمُّوا يا بَيتَ يَعْقوب لِنَسِرْ في نورِ الرَّبّ» (اش 2: 5). هذا هو المنار الجديد الّذي يحمله لنا النبي وهو السير في نور الرّبّ من خلال هذا الزمن المقدس لنصل إلى اللقاء بالنور الّذي سيولد من أجلنا، دون الاعتماد على ذواتنا أو أعمالنا أو أموالنا. مدعوين لقبول هذا النور الّذي يخرج من رحمّ الله، متجسداً حاملاً النور ليضيء ظلامنا الباطني والخارجي.

 

 

2. خروج يسوع (مت 24: 37- 39)

 

على مثال الله الآب الّذي خرج من ذاته معلنًا عن هويته بكلمته الـمُلهمة للنبي كاشفًا النور الّذي دعا الشعب للسير نحوه، هكذا في المقطع الإنجيلي ينطلق يسوع الابن بالقرب من نهاية رسالته الأرضيّة، أثناء خروجه للقاء البشر مُعلنًا تعليم جديد. يُبادر يسوع بربط تعليمه ببعض من أحداث تمت بالماضي، والّتي يعلمها جيداً الجماعة الّتي يكتب لها متى فهي من أصل يهودي، مُنوهًا عن حدث الطوفان (راج تك 9) مُحذرا بأن مجيئه الثاني سيكون بنفس المخطط الإلهي، إذّ سيعتمد على عنصر المفاجأة دون سابق علم من الإنسان ودون توقع هذا المجيء بحسب موعد إلهي محدد (راج مت 24: 37- 39).

 

 

3. القبض والترك (مت 24: 40- 42)

من خلال المثل الّذي يستخدمه يسوع في تعليمه يتكرر استخدام فعلين متناقصين يُتبعا سواء على الرجل أم على المرأة. مما يشير إلى شمولية هذه الخطة الإلهية بين النساء والرجال دون أنّ يتهيأ أو يُحذر من قبل أيّ منهما فيقول: «يَكونُ عِندَئِذٍ رَجُلانِ في الحَقْل، فيُقبَضُ أَحَدُهما ويُترَكُ الآخَر. وتكونُ امرأَتانِ تَطحَنانِ بِالرَّحَى فتُقبَضُ إِحداهما وتُترَكُ الأُخرى» (مت 24: 40- 41). إذن فِعلي القبض والترك بالنص متناقضين إذّ يشير "القبض" على خطف الإنسان حينما يقترب منه الموت بسرّه مُعلنًا نهاية حياته الأرضيّة والانطلاق للحياة الأبديّة فيخرج الخروج الأبديّ للقاء الرّبّ. أما فعل "الترك" فهو الفعل الّذي يشير إلى أنّ هذا الرجل أو المرأة لم يتم اختيارهما للخروج الأبدي. وهذا يعتمد على ما سيكشفه يسوع من تعليم جديد وهو "اليقظة".

 

 

4. اليقظة والسهر (مت 24: 43- 44)

 

 من الألفاظ القوية الّتي تتكرر في زمن المجيء هو السهر أو اليقظة وهذا يعتبر مُتطلب للانتظار لتجسد وخروج الابن من رحمّ الله الآب (راج يو 1: 18). لذا يأتي يسوع هامسًا في أذن كلاً منا، في نهاية أيامه الأرضية، ليقول: «فَاسهَروا إِذاً، لأَنَّكُم لا تَعلَمونَ أَيَّ يَومٍ يَأتي ربُّكم. وتَعلَمونَ أَنَّه لو عَرَفَ رَبُّ البَيتِ أَيَّ ساعةٍ مِنَ اللَّيلِ يَأتي السَّارِق لَسَهِرَ ولم يَدَعْ بَيتَه يُنقَب. لِذلِكَ كونوا أَنتُم أَيضاً مُستَعِدِّين، ففي السَّاعَةِ الَّتي لا تَتَوَقَّعونَها يأَتي ابنُ الإِنسان» (مت 24: 43- 44). في دعوة يسوع هذه وهي تحمل نبرة توسل موصيًاً إيّانا بفعلين أمر:

 

الأوّل: "فَاسهَروا إِذاً" بصيغة الجمع الّتي تشمل كل البشرية. نحن البشر نجهل التوقيت الإلهي ولكننا كمؤمنين نعلم أنّ القلب الإلهي يوصينا منذ اليوم بالاستعداد لهذا اللقاء الذي لا يمكننا أن نحجز تذكرة في ميعاد ولا يمكننا تحديد شهر أو يوم ما لأنّه لا يمكننا أنّ نقرره بل علينا أن نبدأ في تهيئتنا بيقظة قلوبنا وضميرنا لانتظار المسيح الّذي آتي وسيأتي ويستمر في الخروج لأجلنا باحثًا عن كلاً منا، فهلا يجدنا متيقظين له. 

 

الثاني: "كونوا أَنتُم أَيضاً مُستَعِدِّين" نحن مؤمنين هذا القرن الحادي والعشرون مدعوين من خلال تعمقنا في تعليم يسوع أن نبدأ مسيرة هذا الاستعداد الدائم والدؤوب للقاء الرّبّ من خلال الموعد اليومي الّذي نُكرسه للرّبّ، سواء فردي أم أسري أم كنسي. بهذا الشكل العملي تصير يقظتنا للقاء الرّبّ عمليّة وليست نظرية.

 

مدعوين في زمن المجيء بالإصغاء لصوت الرّبّ الّذي يختار أن يتجسد لأجل أن يحملنا معه إلى رحم الآب. وبهذا خروجه من الآب ينال هدفه إذ ننال الخلاص والحياة الأبديّة بخروج الابن السامي. تهيئة القلب هي فرصتنا في زمن المجيء هذا للبقاء مع الرّبّ لنُبدي استعدادنا لانتظاره منذ اليوم فلا نفاجأ بمجيئه العظيم. لذا من خلال هذه الأسابيع الأربع الّتي تسبق عيد تجسد الرّبّ ستكون فترة لتهيئة القلب وللبدء في السهر الباطني كنوع من الاستعداد لمجيء الطفل الإلهي والّتي تُمهد مجيء الرّبّ العظيم ليحملنا معه، فجأة وفي ساعة لا نعلمها. وحتى لا تُثقلنا الساعة المفاجئة فلنحيا حياتنا ببساطة قلب بقدر المستطاع عالمين أن يومنا يمكننا أن نبدأه بالشكر وننهيّه بالشكر بالرغم من التحديات. نعم، رُّوح الشكر تحمل دائما اليقظة لقلوبنا لئلا تنغمس في الشكوى والمشاكل اليوميّة، القلب الشاكر هو اليقظ لحضور الرّبّ أكثر من التحديات بيومه.

 

 

الخلّاصة

 

افتتحنا بهذا المقال مسيرة الاستعداد لمجيء الرّبّ التي ستتكلل بميعاد ثابت سنوي وهو الخامس والعشرون من ديسمبر. ومع ذلك كِلّا المقطعين بالعهدين كشفا لنا أنّ علينا بالخروج من الفكر الأرضي صاعدين نحو هيكل الرّبّ للالتقاء به في كلمته، بحسب رسالة النبي اشعيا (2: 1- 5). ووجدنا يسوع مستمر في خروجه بالعهد الثاني مُعلنًا تعليم الآب الذّي يوصينا باليقظة من خلال السهر والاستعداد لمجيئه العظيم بنهاية الأزمنة. مدعوين أنّ نبدأ بالخروج دون توقف، متيقظين باطنيًا بأعمال الرّبّ العظيمة الّتي لا تنتهي ولا تُحدّ. دمتم في يقظة دائمة أيها القراء الأفاضل.