موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٣٠ يوليو / تموز ٢٠٢٢

مثل الغني الغَبِيّ وموقف يسوع من الطمع

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد الثامن عشر من زمن السنة: مثل الغني الغَبِيّ وموقف يسوع من الطمع (لوقا 12: 13-21)

الأحد الثامن عشر من زمن السنة: مثل الغني الغَبِيّ وموقف يسوع من الطمع (لوقا 12: 13-21)

 

النص الإنجيلي (لوقا 12: 13-21)

 

13 فقالَ لَه رجُلٌ مِنَ الجَمْع: ((يا مُعَلِّم، مُرْ أَخي بِأَن يُقاسِمَني الميراث)). 14 فقالَ لهَ: ((يا رَجُل، مَن أَقامَني علَيكُم قاضِياً أَو قَسَّاماً؟)) 15 ثُمّ قالَ لَهم: ((تَبصَّروا واحذَروا كُلَّ طَمَع، لأَنَّ حَياةَ المَرءِ، وإِنِ اغْتَنى، لا تَأتيه مِن أًموالهِ)). 16 ثُمَّ ضَرَبَ لَهم مَثَلاً قال: ((رَجُلٌ غَنِيٌّ أَخصَبَت أَرضُه، 17 فقالَ في نَفسِه: ماذا أَعمَل؟ فلَيسَ لي ما أَخزُنُ فيه غِلالي. 18 ثُمَّ قال: أَعمَلُ هذا: أَهدِمُ أَهرائي وأَبْني أَكبرَ مِنها، فأَخزُنُ فيها جَميعَ قَمْحي وأَرْزاقي. 19 وأَقولُ لِنَفْسي: يا نَفْسِ، لَكِ أَرزاقٌ وافِرَة تَكفيكِ مَؤُونَةَ سِنينَ كَثيرة، فَاستَريحي وكُلي واشرَبي وتَنَعَّمي. 20 فقالَ لَه الله: يا غَبِيّ، في هذِهِ اللَّيلَةِ تُستَرَدُّ نَفْسُكَ مِنكَ، فلِمَن يكونُ ما أَعدَدتَه؟ 21 فهكذا يَكونُ مصيرُ مَن يَكنِزُ لِنَفْسِهِ ولا يَغتَني عِندَ الله)).

 

 

مقدمة

 

يتناول لوقا الإنجيلي مثل الغَنِيٌّ الغَبِيّ (لوقا 12: 13-21) مُبيّنا موقف يسوع المسيح من خيرات الدنيا بنظرةٍ جديدةٍ في عالم فيه للناس مذاهب وآراء مختلفة في الغِنَى. ويُحذرًنا يسوع من أخطر عدو يمكن أن يصيب المؤمن، ألا وهو الطمع الذي يُهدِّد الجميع فأنه " يُجَفَفُ النَّفْس" (يشوع بن سيراخ 14: 9) ويُنجِّسها (متى 7: 23)؛ ويُبعد الإنسان عن ربه وأخية الإنسان، ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 12: 13-21)

 

13 فقالَ لَه رجُلٌ مِنَ الجَمْع: يا مُعَلِّم، مُرْ أَخي بِأَن يُقاسِمَني الميراث

 

تشير عبارة "رجُلٌ مِنَ الجَمْع" إلى رجل وليس تلميذ، وهو أحد الحاضرين المُستمعين لخطاب يسوع، لكنه من المُهتمِّين بأمورهم الخاصة، إذ يتقدم بطلب ينطوي على الطمع كما يُشير الحوار "تَبصَّروا واحذَروا كُلَّ طَمَع، لأَنَّ حَياةَ المَرءِ، وإِنِ اغْتَنى، لا تَأتيه مِن أًموالهِ" (لوقا 12: 15). ويردُّ يسوع على هذا الرجل، مخاطباً الجموع والتلاميذ معا؛ إن هذه المشكلة تخصُّنا جميعا ولا تخصُّ شخصا واحد فقط.  أمَّا عبارة " الجَمْع " فتشير إلى الرسل والجموع التي تتابع خطاب يسوع؛ أمَّا عبارة "يا مُعَلِّم، مُرْ أَخي بِأَن يُقاسِمَني الميراث" فتشير إلى الرجل الذي يريد استغلال يسوع لمنفعته الخاصّة في فصل الدعوة بينه وبين أخيه.   كان رجال الدين وعلماء الشريعة يحتكمون في مواضيع الوراثة حسب شريعة موسى، لان قسمة الميراث في حق البكرية بُنيت حسب شريعة موسى (تثنية الاشتراع 21: 17). وقوانين الميراث واضحة في الشريعة: البكر له ضعف نصيب إخوته وباقي الإخوة متساوون. ونلاحظ أن المشكلة هي مشكلة طمع: إمَّا الأخ الأكبر طمَّاع ويريد أن يأخذ كل الميراث، أو أن يكون الشاكي، وإمَّا الأخ الأصغر غير راضي عن أن يكون نصيبه نصف أخيه البكر، ويريد أن يقتسمه مع الأكبر. أمَّا عبارة " الميراث" فتشير إلى حق الابن أن يرث ممتلكات والده (1 ملوك 21: 3)، والمستفيد الأكبر من الميراث هو الابن البكر، إذ من حقه أن يأخذ نصيب اثنين سواء أكان ابن زوجة محبوبة أو زوجة مكروهة (تثنية الاشتراع 21: 15-17). وعلى الأرجح إن أخذ البكر نصيبين راجع أصلاً إلى النفقات الخاصة التي كان يتكبَّدها الابن الأكبر في إقامة الولائم العائلية واستقبال الأشخاص الذين كانوا يحلون ضيوفاً على العائلة في خيمته، وفي تقديم الهدايا الباهظة الثمن أحياناً، بصفته ممثلاً للعائلة كلها ونائباً عنها. ولذلك فقد كان للابن البكر مكانة ممتازة في ذلك العصر. وإذا لم يكن للمورث بنون أو بنات أعطي ميراثه لأخوته. وإذا لم يكن له أخوة أعطي الملك لنسيبه الأقرب من عشيرته (عدد 27: 8-11). وكان الميراث، فضلاً عن الأرض، يشمل العبيد وكل ما يملكه أهل البيت والآبار (تثنية الاشتراع 21: 16). وبإدخال القانون اليوناني والروماني دخلت عوائد جديدة وصارت الوصية والموصي أمراً مألوفاً شائعاً بين اليهود (عبرانيين 9: 16 و17).

 

14 فقالَ لهَ: يا رَجُل، مَن أَقامَني علَيكُم قاضِياً أَو قَسَّاماً؟

 

تشير عبارة" يا رَجُل" في الأصل اليوناني   Ἄνθρωπε (معناها يا إنسان) إلى صيغة قاسية من مخاطبة يسوع لهذا الرجل مُوجّها له اللوم بسبب طمعه؛ أمَّا عبارة " مَن أَقامَني علَيكُم قاضِياً أَو قَسَّاماً؟ " فتشير إلى سؤال استفهامي إنكاري معناه انه لم يقمه أحد قاضيا لا إنسان ولا الله. للوراثة قانونها، فيجب أن يلتجئ لا إلى واسطة لكن إلى القانون. لذلك رفض يسوع أن يتولَّى مُهِمّة في شؤون الحياة المدنية، إذ لم يُكلِّفه الله في معالجة أمور الوراثة. إنه لم يُرسل ليفضّ الخلافات المتعلقة بالميراث (خروج 2: 14)، بالرغم من أنّ يسوع أكّد أنَّ له كل سلطان "إِنِّي أُوليتُ كُلَّ سُلطانٍ في السَّماءِ والأَرض" (متى 28: 18). وقال "الآب جعل الدينونة كلها للابن"(يوحنا 5: 22)، انه ملك، ولكن مملكته ليست من هذا العالم (يوحنا 18: 36). انه قاضٍ وديّان، ولكنه لم يُرسل ليُقضي في أمور الميراث لا ليحثَّ الناس على اقتناء كنز في السماء وميراث أبدي. وهكذا يُميّز يسوع نفسه عن موسى النبي الذي أقام نفسه "رَئيساً وحاكِماً أو قاضيا" (خروج 2: 14)، حيث أنَّ يسوع أناط مواضيع الإرث بالنظم والمحاكم المختصَّة. فالمسيحية لم تُشرِّع أي قانون للميراث. وقد تطرَّق المجمع الفاتيكاني الثاني إلى مبدأ استقلالية النظم الدنيوية عن الدينية " لا ترتبط الكنيسة باي نظام سياسي" (فرح ورجاء43، 76). لذلك لا يجوز تسخير الإنجيل في خدمة ضمانات دنيوية أو أن يُوظِّف البشر الله والإنجيل والكنيسة لخدمة رأيهم ومصالحهم. فلا يجوز أن نتنازع مع الإخوة، بل بالحري نرحب بهم حتى وإن أرادوا استغلالنا، إذ يقول: "ومَنِ اغتَصَبَ مالَكَ فلا تُطالِبْهُ به" (لوقا 6: 30). فالمسيح أتى ليجعلنا أن نرث السماء. من هنا تلد الأخوّة الحقيقية التي لا تكتفي بالعدالة في تقسيم الخيرات بالتساوي كما كان يأمل الرجل الذي التجأ إلى يسوع، بل التي تجعل من الهبة المجانية طريقاً إلى الحياة الأبدية التي هي من نصيب جميع الناس.

 

15 ثُمّ قالَ لَهم: تَبصَّروا واحذَروا كُلَّ طَمَع، لأَنَّ حَياةَ المَرءِ، وإِنِ اغْتَنى، لا تَأتيه مِن أًموالهِ.

 

تشير عبارة "تَبصَّروا واحذَروا كُلَّ طَمَع" إلى القناعة وتجنُّب الطمع في تطبيق مواضيع الإرث، لان الطمع ليس بنافعٍ، كما يقول المثل العربي "الطمع ضرّ وما نفع"، حيث أنَّ حياة الإنسان لا تقوم على ممتلكاته. فإن المشكلة بين الأخوين لن تُحل بتقسيم متساوٍ للميراث، بل حين يتحرَّر قلباهما من الرغبة الدائمة في التملّك، وإلا تبقى علاقتهما مهددة دائما ًبشهوة الطمع التي لا يمكن إشباعها. أمَّا عبارة "طَمَع" في الأصل اليوناني  πλεονεξίας(معناها الحصول على الأكثر) فتشير إلى الرغبة الشديدة في الخير الزمني، بل في فيض الخيرات (لوقا 9: 17؛)،.  فالطمع يدلّ على من يملك أكثر من الآخرين، يملك أكثر من الضروري، ويملك ما يفيض عنه. وهو الشعور الدائم بعدم الاكتفاء وبل هو النهم للأرضيات والماديات، والانشغال بالماديات عن الروحيات، وعدم الاهتمام بأن يكون للشخص كنز سماوي وهي تعني في الكتاب المقدس عطش في التملك الذي لا يقف عند حد دون الالتفات إلى الآخرين، بل أحياناً على حسابهم، وهو دليل الرغبة الفاسدة. فالطمع مخالف للوصية العاشرة (خروج 20: 17). ويصف بولس الرسول الطمع "عِبادَةُ الأَوْثان" (قولسي 3: 5)؛ ويُعلق القديس أمبروسيوس "باطل هو تكريس الأموال إن كان الإنسان لا يعرف كيف يستخدمها". أن الطماع ينسى انتمائه للسماء ويظن أنه سيعيش للأبد على الأرض. أمَّا عبارة "لأَنَّ حَياةَ المَرءِ، وإِنِ اغْتَنى، لا تَأتيه مِن أًموالهِ" فتشير إلى المال الذي هو ليس مصدر الحياة، فلا علاقة للحياة الصالحة بالمال والثروة، والحياة غير مشروطة بما يملك الإنسان. فالحياة الصالحة تقوم على علاقة مع الله وعمل إرادته تعالى؛ ويُعلق القديس كيرلس الكبير "إن الطمع لا ينفع شيئًا لأن حياة الإنسان لا تقوم على ممتلكاته". يمكن للإنسان أن يحصل بالمال على كل شيء، لكن لا يعني ذلك أنه سيحصل على الحياة.

 

16 ثُمَّ ضَرَبَ لَهم مَثَلاً قال: رَجُلٌ غَنِيٌّ أَخصَبَت أَرضُه،

 

تشير عبارة "مثل" في الأصل اليوناني παραβολή إلى أسلوب التعليم الذي أكمله المسيح وأعطاه وضعه في الإبداع؛ والمثل واقعي ولد بشكل قصة. وهو منطبق على الحياة وليس غريبًا عنها وان يكن أن هذا الحدث لم يقع بالفعل. وإن أكثر الأمثال التي ذكرها يسوع المسيح موجودة في إنجيل لوقا حيث يذكر منها ثمانية وعشرين من أربع وثلاثون مثلاً. أمَّا عبارة " رَجُلٌ غَنِيٌّ أَخصَبَت أَرضُه" فتشير إلى اقتباس يسوع من سفر يشوع بن سيراخ " ربَّ إِنْسانٍ اْغتَنى بِاْهتِمامِه واْقتِصادِه وهذه هي أجرُته: حينَ يَقول: قد بَلَغتُ الرَّاحة وسآكُلُ الآنَ مِن خَيراتي. وهو لا يَعلَمُ كم يَمْضي مِنَ الزَّمان حتَّى يَترُكَ ذلِكَ لِغَيرِه وَيموت" (يشوع بن سيراخ 18:11-19). ولكن يسوع يعطي الحل للغِنَى والخيرات.

 

17 فقالَ في نَفسِه: ماذا أَعمَل؟ فلَيسَ لي ما أَخزُنُ فيه غِلالي.

 

تشير عبارة " فقالَ في نَفسِه " إلى الأشخاص الذين يُعبِّرون عن فكرهم بكلام حيث يُحدِّث فيه صاحبه نفسه، كما هو واضح في أمثال لوقا (لوقا 15: 17-19؛ 16: 3؛ 18: 4؛ 10: 13). أمَّا عبارة "ماذا أَعمَل؟" فتشير إلى سؤال الرجل الغَنِيٌّ الذي يتصف بالمهارة والدهاء.

 

18 ثُمَّ قال: أَعمَلُ هذا: أَهدِمُ أَهرائي وأَبْني أَكبرَ مِنها، فأَخزُنُ فيها جَميعَ قَمْحي وأَرْزاقي.

 

تشير عبارة "أَهرائي" إلى بيت كبير ضخم يُجمَعُ فيه القمح وغيره من الغِلال. أمَّا عبارة "أَهدِمُ أَهرائي وأَبْني أَكبرَ مِنها، فأَخزُنُ فيها جَميعَ قَمْحي وأَرْزاقي " فتشير إلى تخطيط الرجل الغَنِيٌّ للتمتع بثروته لسنين مديدة قادمة طلبا للأمان والتأمين. إنه يقضي الغَنِيٌّ حياته جاهدًا من أجل ضمان عيش كريم. ويعلق الأمير السعودي وليد، الّذي يحتلُّ منذ سنوات الرقم 4 بين أغنى مئة رجل في العالم "أليس هذا جنونا؟ فماذا يحتاج الغني أكثر من الفقير ليومه؟ " . هل نحاول أن نملئ أهراءنا من صلاة المساكين ودعاء الفقراء لنا، فيكون الله كنزنا الأوحد.

 

19 وأَقولُ لِنَفْسي: يا نَفْسِ، لَكِ أَرزاقٌ وافِرَة تَكفيكِ مَؤُونَةَ سِنينَ كَثيرة، فَاستَريحي وكُلي واشرَبي وتَنَعَّمي.

 

تشير عبارة "أَقولُ" إلى الضمير المفرد "الياء المتكلم "مما يرسم بجلاء نوع شخصية الرجل الغَنِيٌّ المتكلم الذي جعل نفسه مركزا لعالمه الصغير، حيث فكَّر كثيرا في نفسه، لكنه نسي الكثير خارج نفسه، نسى معنى الحياة، وأعتنى بحياته المادية، وأغفل حياته الروحية، أمَّا عبارة "لِنَفْسي" في الأصل اليوناني ψυχή (معناها الشخص (التكوين 12: 5) أو الذات (أشعيا 26: 2) فتشير إلى  الإنسان في كليته، باعتباره منتعشاً بروح " الحياة. فالنفس، بالمعنى الدقيق، لا تسكن جسداً، وإنما تعبّر عن ذاتها بواسطة الجسم، الذي يعتبر هو أيضاً، أسوة بالجسد، دالاً على الإنسان بكليته. وإذا كانت النفس بسبب علاقتها بالروح الأسمى، هي الدليل في الإنسان على أصله الروحي، هذه " الروحانية" تغرس جذورها بعمق "في العالم الملموس. أمَّا عبارة "سِنينَ كَثيرة" فتشير إلى اعتقاد الرجل الغَنِيٌّ أنَّه سيعيش سنوات كثيرة ينعم فيها بالراحة والسعادة الماديَّة بفضل ماله الوافر الذي شدَّدَ قلبه ونزع عن ذهنه فكرة الموت. وهكذا ارتبط الرجل الغَنِيٌّ بالأرضيات على حساب السماويات، لكن يسوع يُذكِّره "ماذا يَنفَعُ الإِنسانَ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّه، وفَقَدَ نَفْسَه أَو خَسِرَها؟" (لوقا 9: 25). الرجل الغَنِيٌّ يَعدّ خيراته وأرزاقه بينما الحكيم يُحصي أيامه، أي أنه يُدرك بأنها محدودة وأن الدنيا باطلة كما جاء في أقوال الرجل الحكيم "علِّمنا كَيفَ نَعُدُّ أَيَّامَنا فنَنفُذَ إلى قَلبِ الحِكمَة" (مزمور 90: 12). كل من يعدّ خيراته وليس أيامه هو غَبِيّ كالرجل الغَنِيٌّ. أمَّا عبارة "فَاستَريحي وكُلي واشرَبي وتَنَعَّمي" فتشير إلى قرار الرجل الغَنِيٌّ الذي يحتفظ لنفسه بأنانية بكُلِّ خيرات أرضه، ليتمتَّع وحدَه بالراحة وملذَّاتِ الحياة، ولم يُلقِ نظرةً إلى من يسكن حوله من محتاجين وفقراء. ولم يدرك كملة الرب القائل"أَشَبعَ الجِياعَ مِنَ الخَيرات والأَغنِياءُ صرَفَهم فارِغين" (لوقا 1: 53).

 

20  قالَ لَه الله: يا غَبِيّ، في هذِهِ اللَّيلَةِ تُستَرَدُّ نَفْسُكَ مِنكَ، فلِمَن يكونُ ما أَعدَدتَه؟

 

عبارة "غَبِيّ" في الأصل اليوناني Ἄφρων (معناها بلا رأس أي أحمق، لامبالي) تشير إلى الجهل ونقصان الحكمة، حيث أنَّ الجاهل هو الذي ينكر وجود الله كما يؤكده صاحب المزامير "قالَ الجاهِلُ في قَلبه: لَيسَ إِله" (مزمور 14: 1)، وهو الذي ينكر الله عمليا، ويجعل اتكاله على المال لا على الله، ولم يُميّز الخيرات الحقيقية، بل يحكم على الأمور حسب ظاهرها؛ ولا يفطن أنَّ المال، مهما كان وافراً، لا يشفع فيه ولا ينقذه من الموت الذي يأتيه في ساعةٍ لا يتوقَّعُها. ولذلك وصفه الله بأنَّه إنسان غَبِيّ دون حكمة " لأَنَّ حَياةَ المَرءِ، وإِنِ اغْتَنى، لا تَأتيه مِن أًموالهِ" (لوقا 12: 15).  يُحذِّر يسوع الغني، كي لا يضلِّ الطريق فيخسر حياته، لان ما يُروي عطشه ليس المال إنما محبّةّ الله. فمن له مال، ولا يفطن للمعوزين والجياع، هو أحمق. مَن يقدر أن يساعِد ولا يساعد هو غَبِيّ.  أمَّا عبارة "في هذِهِ اللَّيلَةِ تُستَرَدُّ نَفْسُكَ مِنكَ" فتشير إلى مناداة الله لهذا الرجل الغَنِيٌّ الغَبِيّ حيث يطلب روحه ليعطي حسابا عن نفسه، ويُعلِّق الأب غريغوريوس الكبير "تُطلب النفس بالليل، هذه التي سلكت في ظلمة قلبها، إذ لم ترد أن تسلك في نور التأمَّل". أمَّا عبارة " تُستَرَدُّ " فتشير إلى عادة العالم اليهودي التي تقوم على مبدأ تحاشي ذكر اسم الله، والمعنى أنَّ الله سيستردّ نفس الغَنِيٌّ، حيث انه سيّد الحياة والموت (1 صموئيل 2: 6)؛ فعلينا أن نعمل بجد ولكن لا ننسى أننا هنا غرباء، قد نترك العالم في أي لحظة. أمَّا عبارة "نَفْسُكَ " فتشير إلى حياة الفرد. أمَّا عبارة "فلِمَن يكونُ ما أَعدَدتَه؟" فتشير إلى سؤال حكيم وساخر يُعبِّر عن غباء مَن يتكل على جَمْع الخيرات والثروات لـتامين مستقبله غي الأرض، ولا يفكر انه يترك كل شيء على الأرض بعد الموت، إذ يقول يسوع " فماذا يَنفَعُ الإِنسانَ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّه وخَسِرَ نَفْسَه؟ "(مرقس 8: 36). يُعلق على ذلك القديس يوحنا الذهبي الفم "إنك تترك كل الأشياء هنا، وتخرج صفر اليدين "؛ وفي هذا الصدد قال سفر الجامعة "إنْسانٌ رَزَقَه اللهُ غِنَى وأَمْوالاً ومَجدًا فلَم يَكُنْ لِنَفسِه عَوَز مِن كُلِّ ما يَشتَهي لكِنَّ اللهَ لم يَدَعْه يأكُلُ مِن ذلِك وإِنَّما يأكُلُه غَريب. هذا باطِلٌ وداءٌ خَبيث" (الجامعة 2:6). إن كل ما يتوقعه الإنسان ويثق يلبي أقل بكثير ما يعد به: إنها كلها أباطيل لا تثبت مثل الدخان أو البخار. وهكذا أبرز يسوع مفهوم المقولة التي وردت في كتاب الجامعة " باطلُ الأَباطيل كل شيَءٍ باطِل" (الجامعة 1: 1). الله يتألم هنا لان الغَنِيٌّ لم يستفد من كلّ الخير الذي أعطاه إياه.

 

21 فهكذا يَكونُ مصيرُ مَن يَكنِزُ لِنَفْسِهِ ولا يَغتَني عِندَ الله)).

 

تشير عبارة "مصيرُ مَن يَكنِزُ لِنَفْسِهِ " إلى أسلوب صرف المال بغباوة دون حكمة، حيث يستخدمه الغَبِيّ بأنانية لذاته ويصبح عبدا للمال، وذلك عكس العاقل الحكيم الذي يُسخّر ماله لله، فيكون كنزه في السماء مُتبعاً إرشادات يسوع المسيح "بيعوا أَموالَكم وتَصَدَّقوا بِها واجعَلوا لَكُم أَكْياساً لا تَبْلى، وكَنزاً في السَّمواتِ لا يَنفَد، حَيثُ لا سارِقٌ يَدنو ولا سوسٌ يُفسِد"(لوقا 12: 33). أمَّا عبارة "لا يَغتَني عِندَ الله" فتشير إلى ذاك المرء الذي يكون غناه موجّه لراحته الشخصيًة وليس لمجد الله. أي إنَّه كان غَنِيٌّاً بمال الأرض، ولكنَّه لم يكن غَنِيٌّاً بأعمال البِرِّ والإحسان التي تؤمِّن له السعادة الأبديَّة. أمَّا عبارة "عند لله" في الأصل اليوناني εἰς θεὸν (معناها حركة انتقال نحو الله) فتشير إلى اتجاه الله وليس لأجل الله؛ وبذلك يوحي بفكرة هامة: لا يقدم الإنسان خيرات وتقدمات لله، بل يستعملها في اتجاهه أي للفقراء والمعوزين، وهو في طريقه إليه. ويُعلق القديس كيرلس السكندري "حقًا أن حياة الإنسان لا تقوم على ممتلكاته خلال ما لديه من فيض، إنما يُحسب مطّوبًا وذا رجاء مجيد من كان غَنِيٌّا بالله". غِنَى الإنسان الحقيقي هو يعمل لمجد الله، في سبيل الله " أو " في نظر الله، وليس لراحته هو شخصيًا. إن الغباء تقوم في الاكتناز للذات لا الاغتناء بالله. يعلم يسوع كيف يدخل الإنسان في المنطق الجديد للملكوت.

 

 

ثانياً: تطبيق النص الإنجيلي (لوقا 12: 13-21)

 

انطلاقا من الملاحظات الوجيزة حول وقائع النص الإنجيلي (لوقا 12: 13-21)، نستنتج انه يتمحور حول الطمع في المال وموقف يسوع منه. وهنا نسأل ما مدى خطورة الطمع في المال؟ وما موقف يسوع تجاهه؟ وما العبرة التي نتخذها من هذا المثل؟

 

1. ما هي خطورة الطمع في المال؟

 

تكمن خطورة الطمع في المال إنَّه يُنسى الإنسان حقائق الحياة الأساسية: الله والناس والأبدية.

 

أ‌) الطمع في المال يُنسى الله

 

وصف الله الغَنِيَّ بانه غَبِيّ، والغَبِيّ في مفهوم الكتاب المقدس هو الجاهل، وكلمة جاهل في الكتاب المقدس تعني من ينكر الله كما يقول صاحب المزامير "قالَ الجاهِلُ في قَلبه: لَيسَ إِله " (مزمور 14: 13). فالجاهل هو الذي يجهل الله في حياته ولا يحسب له حساباً. وعكس الجاهل هو العاقل الذي يلتمس الله كما يصرّح صاحب المزامير " أَطَلَّ اللهُ مِنَ السَّماءَ على بَني آدَم لِيَرى هل مِن عاقِل يَلتَمِسُ الله" (مزمور 53: 3).

 

يظنُّ الإنسان الجاهل أن خيراته تُغنيه عن الله جاعلاً نفسه مركزاً لعالمه الصغير، كما هو حال الغَنِيّ في المثل الذي ضربه يسوع. عُني الغَنِيٌّ بحياته المادية وأغفل حياته الروحية، واستغِنَى عن الله. فكَّر كثيرا في نفسه، إذ قال "أَعمَلُ هذا: أَهدِمُ أَهرائي وأَبْني أَكبرَ مِنها، فأَخزُنُ فيها جَميعَ قَمْحي وأَرْزاقي. (لوقا 12: 17)، لكنه نسي الكثير خارج نفسه، نسى الله. فكَّر في حياة الجسد ونسي حياة الروح فقال " يا نَفْسِ، فَاستَريحي وكُلي واشرَبي وتَنَعَّمي" (لوقا 12: 19). وضع الأكل والشرب والجسد في المرتبة الأولى على حساب الروح. والأخطر من ذلك نسب الغِنَى لنفسه لا لله، وذلك على ذلك بتكرار الضمير المفرد المتكلم "غِلالي وهرائي وقَمْحي وأَرْزاقي"(لوقا 12: 17).

 

ولم يدرك هذا الغَنِيٌّ أن الله هو سّر حياة النفس البشريَّة، ومن يقتنيه في داخله يقتنى الحياة على مستوى أبدي، بل حسبَ أن حياته تقّيم بمقدار غِناه، ويعلّق القديس إقليمنضس الإسكندري بقوله "لا تقوم حياة الإنسان على فيض ما يملكه من الأشياء". لم يعد الغَنِيٌّ يُفرّق بين الهبة والواهب. بل تعلّقت نفسه بالهبة وتركَ الواهب، وهكذا دخلت حياته ليلاً مُظلماً، لأنه أُنكر وجود الله، واعتقد أن بإمكانهِ أن يعيشَ من دونِ الله.  فليس الإنسان بما لديه، بل بما هو عليه.

 

وصف يسوع ذاك الغَنِيٌّ انه طماع "إِنَّهُ لم يغتنِ عندَ الله " (لوقا 12: 21)، لأنه استسلم إلى الأنانيَّة المفرِطة. واحتفظ لنفسه بكُلِّ خيرات أرضه، ليتمتَّع وحدَه بالراحة وملذَّاتِ الحياة، ونسى الله حيث انتصب المال سيداً له بلا رحمة، وأنساه الأمر الجوهري ألا وهو سيادة الله عليه (لوقا 12: 15-21). وفي هذا الصدد يقول يسوع للفِرِّيسِيُّينَ، وهُم مُحِبُّونَ لِلمال " إِمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلَزمَ أَحَدَهما ويَزدَرِيَ الآخَر. فأَنتُم لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِله ولِلمال "(لوقا 16: 13-15). وهنا يصدق المثل القائل " حُبَّ المالِ أَصْلُ كُلِّ شَرّ" (1 طيموتاوس 6: 10)، إذ يبلغ حب المال في عمقه حد الفاجعة عندما يختار الإنسان لنفسه إلهاً كاذبا، فينفصل عن الاله الواحد الحقيقي، فيتعرض لمصير الهلاك "أمَّا الَّذينَ يَطلُبونَ الغِنَى فإِنَّهم يَقَعونَ في التَّجرِبَةِ والفَخِّ وفي كَثيرٍ مِنَ الشَّهَواتِ العَمِيَّةِ المَشؤُومَةِ الَّتي تُغرِقُ النَّاسَ في الدَّمارِ والهَلاك" (1طيموتاوس 6: 9)، كما حدث مع يهوذا الإسخريوطي الطَّماع الغادر (يوحنا 12: 6)، ابن الهلاك (يوحنا 17: 12). " فماذا يَنفَعُ الإِنسانَ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّه وخَسِرَ نَفْسَه؟ (مرقس 8: 36).

 

الطمع يؤدي إلى الهلاك، لأنه يخنق عند الغَنِيٌّ كلمة الله كما جاء في إنجيل متى "يكونُ له مِن هَمِّ الحَياةِ الدُّنيا وفِتنَةِ الغِنَى ما يَخنُقُ الكَلِمة فلا تُخرِجُ ثَمَراً" (متى 13: 22)، ويُعطل الطمع أيضا السير في طريق الكمال أحسن القلوب استعدادا كما حدث مع الشاب الغَنِيٌّ الذي دعاه يسوع لإتباعه " فَلَمَّا سَمِعَ الشَّابُّ هذا الكلام، اِنصَرَفَ حزيناً لأَنَّه كانَ ذا مالٍ كثير"(متى 19: 21-22). ويجعل الطمع اتباعه في عداد الوثنيين كما يصرّح بولس الرسول "أَسلَمَهُمُ اللهُ بِشَهَواتِ قُلوبِهم إلى الدَّعارَة يَشينونَ بِها أَجسادَهم في أَنفُسِهم"(رومة 1: 24)، إذ ينقاد الطَّماع وراء تيار هذا العالم (طيطس 2: 12) فيقع في براثن الشر، لذا يوصي بولس الرسول "أَميتوا إِذًا أَعضاءَكمُ الَّتي في الأَرض بما فيها مِن زِنًى وفَحْشاءَ وهَوىً وشَهوةٍ فاسِدَةٍ وطَمَعٍ وهو عِبادَةُ الأَوْثان" (كولسي 3: 5). فالرب يسوع تكلّم هُنا مُحذراً إيَّانا حتى لا نُضيّع حياتنا في الركض وراء الأرضيات الفانية وننسى في بحثنا عن الله فنخسر بذلك علاقتنا الأبدية معه.

 

نستنتج مما سبق أن المال بمفهوم السيد المسيح هو عدو لمن يريد أن يخدم الله ويغتني به، لأنه يجعل من يخدمه خائنا كما ورد في مثل الوكيل الخائن (لوقا 16: 9)؛ ويُعلق بولس الرسول إن حب المال هو عبادة أوثان بقوله "فاعلَموا أَنَّه لَيسَ لِلزَّاني ولا لِمُرتَكِبِ الفَحْشاءِ ولا لِلجَشعِ (الَّذي هو عابِدُ أَوثان) مِيراثٌ في مَلكوتِ المسيحِ واللّه." (أفسس 5:5). لذا يصرّح يسوع فان التخلي عن المال ضروري لمن يريد أن يتبع يسوع (متى 19: 21). "وهكذا كُلُّ واحدٍ مِنكم لا يَتَخَلَّى عن جَميعِ أَموالِه لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلْميذاً" (لوقا 14: 33).

 

ب‌) الطمع في المال يُنسي الآخرين

 

ينسب الغَنِيٌّ الخير لنفسه، ولا يذكر أن الله أعطاه الكثير ليُعطي من ليس لهم. نسي وجود الآخرين كما قال في نفسه "فأَخزُنُ فيها جَميعَ قَمْحي وأَرْزاقي" (لوقا 12: 17). لقد أحسن جمعَ خيراته وتخزينها لسنين مديدة، لكنه أساء طريقةَ استخدامها.  ويعلق البابا فرنسيس" أتخذ الغَنِيٌّ المال غايةً بحدِ ذاته، فوضعه صنماً يعبده، متجاهلاً حقائق أخرى منها: الإنسان، القريب الذي نحن مسؤولون عليه، ومحبّة القريب هي التي ستُوصلنا للهّ، لأن الإنسان لا يأخذ معه شيءُ إلا ما أعطاه لقريبهِ". (عظة 2013-08-03). المشكلة ليست إذًا في المال أو الخيرات، بل في كيفية التصرّف بها. المال والخيرات وُجدت لخدمة الإنسان وخدمة حياة القريب، وهذا ما لم يفهمه الغَنِيٌّ.

 

ظنَّ الغَنِيٌّ أنَّ عطايا الله تخصُّه وحده، وهذا يدل على أنه طمَّاع وجشع، لان الطَّماع هو من يحاول أن يحتكر ثروته لمنفعته الخاصة، وبالتالي ينكر الأخوة خاصة الفقراء والمرضى والعجزة والبؤساء والمكروبين والمساكين. إنه نسى ما توصي الشريعة بالرفق بالضعفاء (خروج 22: 21-27)، وعدم التشامخ والتعالي على إخوته (تثنية الاشتراع 7: 17)؛ كما نسي ما يوصي به صاحب المزامير "إِنَّ المِسْكينَ لا يُنْسى على الدَّوام ورَجاءَ البائِسينَ لا يَنقَطعُ للأبدِ"(مزمور 9). ولم يأخذ بعين الاعتبار الوصايا الإلهية: "لا تَمنعِ الإِحْسانَ عن أَهلِه إِذا كان في يَدِكَ أَن تَصنَعَه" (أمثال 3: 27)، "لا تُفارِقْكَ الرَّحمَةُ والحَقّ بَلِ اْشدُدْهما في عُنُقِكَ واْكتُبْهما على لَوحَ قَلبِكَ" (أمثال 3: 3). لم يفكّر في توزيع الفائض على الفقراء؛ فالازدراء بالفقير ما هو إلاَّ ازدراء بالله وعدله.

 

الغَنِيٌّ مسؤول عن الفقير، حيث أنَّ من يخدم الله يعطي ماله للفقراء، أمَّا الذي يعبد المال فإنه يحتفظ به للاعتماد عليه، ولا يلقي نظرةً إلى من يسكن حوله من محتاجين وفقراء. أمَّا الغَنِيٌّ الطَّماع فيُضحي بالآخرين في سبيل ذاته، باستخدام العنف إذ ا لزم الأمر " تشتَهونَ ولا تَنالون، تَقتُلونَ" (يعقوب 4: 12)، وقد يجرّد الفقراء في سبيل منفعته "ها إِنَّ الأُجْرةَ الَّتي حَرَمتُموها العَمَلَةَ الَّذينَ حَصَدوا حُقولَكم قدِ ارتَفَعَ صِياحُها، وإِنَّ صُراخَ الحَصَّادينَ قد بَلَغَ أُذُنَي رَبِّ القُوَّات" (يعقوب 6: 4). ولذلك يقوم الغِنَى الحقيقي لا فيما يملك الغَنِيٌّ بل فيما يعطي، لان العطاء يستمطر سخاء الله "السَّعادَةُ في العَطاءِ أَعظَمُ مِنها في الأخذ" (أعمال الرسل 20: 35).

 

الطمع في الأخذ هو الشهوة في المزيد من المال دون الحاجة إليه مما يؤدِّي إلى الهلاك. " من يشتهي المال كمن يشرب من ماء البحر الأجاج، كلما غبّ منه ازداد عطشاً، ولا يفتأ عن الشرب حتى يهلك "؛ لا يرى الغَنِيٌّ من غناه إلاّ متعته، ولا من دنياه إلا َّ لذّته وذاته. إنَّه غنيَّاً بمال الأرض، ولكنَّه ليس غَنِيٌّ بأعمال البِرِّ والإحسان التي تؤمِّن له السعادة الأبديَّة. ويُعلق القديس باسيليوس الكبير بقوله" اعترف أيّها الإنسان بالذي أعطاك تلك الوفرة. فكّر بنفسك قليلاً: مَن أنت؟ إنّك خادم الله الطيّب؛ من واجبك خدمة رفاقك... "ماذا أَعمَل؟" الجواب سهل: "سأُشبع الجائعين، وأدعو الفقراء... تعالوا أيّها الجياع والعطاش، هلمّوا وانهلوا من العطايا الممنوحة من الله والتي تتدفّق كالنبع الجاري".

 

ج) الطمع في المال الذي يُنسى الأبدية

 

لم ينسَ الغَنِيٌّ الغَبِيّ الله والآخرين فقط، بل يُنسي أيضا الزمن. نسى الغَنِيٌّ أنَّ الزمن ليس تحت تصرفه، وحسب أنَّ أمامه " سِنينَ كَثيرة " (لوقا 12: 19). نسي أنَّ الحياة على الأرض فترة انتقالية، وان الثروة زائلة. وكان يفكر في الحاضر، وكأنّه يعيش ابدأ. ولم يفكر أنه في هذه الليلة ستؤخذ نفسه منه. نسي انه على الأرض غريبٌ، وقد يترك العالم في أي لحظة. نسي أن طبيعة الفناء البشري، ونسي الموت. لكن الموت كشف له الحقيقة، وهي أنَّ الثروة التي وضع عليها كل اتكاله لن تنفعه في ساعة موته "في هذِهِ اللَّيلَةِ تُستَرَدُّ نَفْسُكَ مِنكَ، فلِمَن يكونُ ما أَعدَدتَه؟" (لوقا 12: 20). إن المسألة لا تخصُّ الخيرات ولا الثروات ولا التمتع بها، إنما تَخصُّ اعتبار أن جوهر الحياة ومعناها يقومان في اكتناز الخيرات أي اعتبارها المركز والأمان.

 

إن السعادة المؤسَّسة على خيرات الأرض لا تستحقّ أن يجعلها الإنسان هدف حياته ووجوده كما يؤكده صاحب المزامير " اْغتَنى الإِنْسان واْزدادَ بَيتُه مَجدًا فإِنَّه إِذا ماتَ لا يأخُذُ شَيئًا ولا يَنزِلُ مَجدُه وَراءَه" (مزمور 49: 17-18). فحياة الإنسان وديعة من الله يستردُّها ساعة يشاء (يشوع بن سيراخ 11: 18-20). والجاهل بل الغَبِيّ هو الإنسان الذي يتَّكل على غِناه ليؤمِّن لنفسه سعادته الأبدية، انه يفكر ويتصرف كما يفعل الوثنيون (لوقا 12: 30). فحياة الإنسان غير مشروطة بما يملك (لوقا 12: 15). فكل خيرات الأرض هي في خدمة الحياة ولكن الحياة تتجاوزها: إنَّها في علاقات مع الله الذي يعرف ما نحتاج إليه (لوقا 12:30-31). ومن هنا جاءت كلمات يسوع "لا تَكنِزوا لأَنفُسِكُم كُنوزاً في الأَرض، حَيثُ يُفسِدُ السُّوسُ والصَّدَأ، ويَنقُبُ السَّارِقونَ فيَسرِقون، بلِ اكنِزوا لأَنفُسِكُم كُنوزاً في السَّماء، حيَثُ لا يُفْسِدُ السُّوسُ والعُثّ، ولا يَنقُبُ السَّارِقونَ فيَسرِقوا." (متى 6: 19-20).

 

ونستنتج مما سبق أنَّ المال يُغري الغَنِيَّ بنسيانه، وهكذا في ساعة موته، ساعة العبور نحو الحياة الأبدية، تنقلب الأوضاع عليه راساً على عقب كما قالَ إِبراهيم للرجل الغَنِيٌّ " يا بُنَيَّ، تَذَكَّرْ أَنَّكَ نِلتَ خَيراتِكَ في حَياتِكَ ونالَ لَعاَزرُ البَلايا. أَمَّا اليَومَ فهو ههُنا يُعزَّى وأَنت تُعَذَّب" لوقا 16: 25). الغَنِيٌّ الذي له "خيراته" (لوقا 16: 25) وعزاؤه (لوقا 6: 24) في هذا العالم لا يُمكنه أن يدخل الملكوت، كما صرّح السيد المسيح "فَلِأَن يَدخُلَ الجَمَلُ في ثَقْبِ الإِبرَة أَيسَرُ مِن أَن يَدخُلَ الغَنِيٌّ مَلَكوتَ الله" (لوقا 18: 25). لان المال أنساه ونزع عن ذهنه فكرة الموت، ولم يشفع فيه ولم ينقذه من الموت الذي أتاه في ساعةٍ لا يتوقَّعُها. ولم يستطع الغَنِيٌّ أن يتنعّم بخيراته كما خطّط؛ فقد ظنّ أن الغِنَى سيكون له ينبوع سعادة، ولكن هذه السعادة أفلتت منه فجأة. فحياة الإنسان لا تقوم على أمواله، ولا تضمنها هذه الأموال كما صرّح يسوع (لوقا 12: 15).

 

 

2. ما هو موقف المسيح تجاه المال؟

 

بما أنَّ الرجل الغَنِيٌّ نسى الله والآخرين والأبدية بسبب غِناه، أصدر يسوع الحكم عليه بأنَّه إنسان غَبِيّ؛ فصار حُكْمُه مثلا ًفي التاريخ " يا غَبِيّ". إنه غَبِيّ، ذو قلب فاقد الحس (مزمور 119/ 70)، هو غَبِيّ لأنه جهل موقفه من ماله وغده.

 

أولا: جهل الغني موقفه من ماله

 

المال ليس شراً في حدِّ ذاته، إنما هو في حدِّ ذاته وسيلةٌ من وسائل تبادل السلع بين الناس. ويعلق البابا فرنسيس "مازلنا نعاند أنفسنا إلى اليوم ونقول: بالمال نستطيعُ فعلَ كل شيء. نعم المالُ وسيلةٌ لكن متى صارتَ إلهاً قتلتَ إنسانيتنا وإنسانية الآخرين" (عظة 2013-08-03). فاذا استخدمناه في العطاء يكون خيرا، وإذا حمل طمعاً يكون شرا. وفي هذا الصدد يقول الكاتب الفرنسي الشهير ألكسندر دوما "لا تقدر المال بأكثر من قدره أو أقل منه؛ فهو خادم جيد ولكنه سيد فاسد". فالشر هو التذرع بطمع المال وتكديس الثروة. " حُبَّ المالِ أَصْلُ كُلِّ شَرّ" (1 طيموتاوس 6: 10). فالطمع في مفهوم لوقا الإنجيلي يقوم على الرغبة في الاستزادة دائما مما يحوزه أكثر فأكثر ولو على حساب الآخرين كما هو الحال في ذلك الرجل الذي طلب من يسوع أن يكون حَكماً في نزاع بميراث مع أخيه " مُرْ أَخي بِأَن يُقاسِمَني الميراث" (لوقا 12: 13).

 

الطمع هو أيضا التعلق بالخيرات التي هي في حوزته (2 قورنتس 9: 5). فإنه يرى فيما أتاه الله من خيرات، متعة له صادرة عنه، واعتبر جوهر الحياة ومركزها وأمانها في اكتناز خيرات وتكديسها. رفض يسوع مثل هذا الموقف وشجب بشدَّة فائض الخيرات الذي يصاحبه الجشع والطمع والصلف والبخل والمجد الباطل.  ويعلق البابا فرنسيس "إن المالَ والغنى أُعطيا لنا ليكونا وسيلة نُسعِد بها حياتنا وحياة الفقراء والتعساء من حولنا"(عظة 2013-08-03).

 

وفي الواقع، ظن الغَنِيٌّ أنه يملك المال، لكن المال هو الذي امتلكه، لأنه طَمِعَ به، فصار عبداً له. فالطمع في المال هو الشهوة في المزيد من المال دون الحاجة إليه، فيصبح إنسانا شريراً جفّت نفسه (سيراخ 14: 8-9). فأصدر يسوع تحذيرا قويا ضد الطمع بقوله " تَبصَّروا واحذَروا كُلَّ طَمَع" لوقا 12: 15). إن الغباء تقوم في اعتبار أن جوهر الحياة ومعناها يقوم في اكتناز الخيرات لذات واعتبارها المركز والأمان لا الاغتناء بالله. ويعلق القديس غريغوريوس النيصي هناك نوعان من الغنى: واحد ممدوح والثاني مكروه. الغنى بالفضيلة ممدوح أما الغنى المادي والأرضي فهو مرذول، أحدهما اقتناء للروح والآخر تجربة سهلة لحواسنا. لهذا السبب يمنعنا الرب يسوع من اقتناء وتخزين الخيرات الأرضية لأنها معرضة للفساد ونهب السارقين. فهو يطلب منا البحث عن الغنى الذي لا يتفكك ولا يفسد " (الطوباويات التسع، في الطوباوية الأولى)

 

ثانيا: جهل الغني موقفه من غده

 

لم يكن الغَنِيٌّ غَبِيّاً لجهله موقفه تجاه ماله فحسب، إنما أيضا لجهله من موقفه في غده. كان يظن الرجل الغَنِيٌّ أنَّ مستقبله أصبح مضمونا آمنا، ولكنه وجد نفسه على غباه لما طلب الله نفسه "في هذِهِ اللَّيلَةِ تُستَرَدُّ نَفْسُكَ مِنكَ (لوقا 12: 20). رأى عندها أنَّ ماله باق من بعده في الأهراء التي بناها، ولم يبنِ لنفسه عند الله منزلا، وأمَّا ماله الذي اذخره فلم ينفعه في دفع الشدة عنه في مماته. مات غَنِيٌّا بما لدنياه، فقيرا إلى رحمة ربِّه. لأنه لم يسخّر دنياه لآخرته. فغباوته أنه عبدُ ماله إذ "كنز لِنَفْسِهِ" من دون ربِّه "ولم يَغتَني عِندَ ه تعالى"؛ أنه عمل لدنياه من دون آخرته. ولذلك فان يسوع ينبّه الناس إلى أن وفرة الخيرات المادية لا تكفي لتؤمّن حياته وطمأنينة حقيقية. فسلام الإنسان الحقيقي لا يستند إلى الغِنَى وخيرات الأرض إنما بعلاقته بربِّه والآخرين.

 

1. العبرة

 

يدعونا يسوع من خلال المثل الغَنِيٌّ الغَبِيّ عدم نسياننا الله والآخرين والحياة الأبدية في استخدامنا أموالنا كي ندخِّر لنا كنوزا في السماء، ولكي نكون مستعدِّين للوقوف أمام دينونة الله عند موتنا. "بيعوا أَموالَكم وتَصَدَّقوا بِها واجعَلوا لَكُم أَكْياساً لا تَبْلى، وكَنزاً في السَّمواتِ لا يَنفَد، حَيثُ لا سارِقٌ يَدنو ولا سوسٌ يُفسِد" (لوقا 12: 33). علم يسوع الأخوين في صراع على الورثة أن بان الحياة لا تتوقف عل خيرات هذه الدنيا.  طمع كلاهما قسمهم، إذ " قالَ لَهم: تَبصَّروا واحذَروا كُلَّ طَمَع، لأَنَّ حَياةَ المَرءِ، وإِنِ اغْتَنى، لا تَأتيه مِن أًموالهِ" (لوقا 12: 15)، وهو أصل الشرور.

 

يدعونا يسوع أيضا إلى تجنب الطمع يسوع قائلا "تَبصَّروا واحذَروا كُلَّ طَمَع" (لوقا 12: 15). يسوع لا يدين الغِنَى بل الطمع، لان الطمع هو النهم للأرضيات والماديات، والانشغال بالماديات عن الروحيات، والشعور الدائم بعدم الاكتفاء وعدم الاهتمام بأن يكون للشخص كنز سماوي. فالطمع عدو خطير سمَّاه بولس الرسول "عبادة أوثان" (كولسي 5:3)، لأن الطَّمَّاع ينسى انتمائه للسماء، ويظن أنه سيعيش مخلداً على الأرض.  وبالحري يدعونا يسوع إلى طلب ملكوت الله والرب يوفر الباقي، كما أعلن يسوع " اطلُبوا مَلَكوتَه تُزادوا ذلك" (لوقا 12: 31).

 

يدعونا يسوع أيضا لاستعمال المال لخدمة الآخرين. المال ليس شرّاً في حدّ ذاته بل إنه يساعدنا على اقتناء كنزًا في السماء إذا سخَّرناه في خدمة القريب بشكل صدقة أو مساعدة (لوقا 12: 33-34). ولكن المال يصبح خطراً عندما يعرّض الإنسان إلى الطمع والتعلّق به وطلبه من أجل ذاته، أي من أجل تنعّم أرضي أناني مثل الغَنِيٌّ الجاهل (لوقا 12: 12: 16-21) أو مثل الفريسيين (16: 14) أو مثل الغَنِيٌّ ولعازر (16: 19-31). سيأتي يوم تنقلب فيه الأوضاع فيتعزّى الفقير ويتعذّب الغَنِيٌّ (16: 25).

 

يدعونا يسوع أخيراً أن نكون أغَنِيٌّاء في الله (13-31)، لان ليس حياة الإنسان في أمواله. خُلقنا للسماء كما قال القديس أوغسطينوس "إن نفسي تبقى مضطربة إلى أن تستريح فيك، يا الله. لقد خلقتنا يا الله لنفسك، ولسوف تبقى قلوبنا قلقة حتى تجد راحتها فيك". حقاً في استقلالية الإنسان عن الله " لا سَلامَ لِأَحَدٍ مِنَ البَشَر" (ارميا: 12 :12).

 

نحن نقضي فترة على الأرض، ثم نرجع إلى موطننا الأصلي، فلا نكن أغَبِيّاء في أذهاننا ونكنز لحساب هذا العالم وكأننا مُخلَّدون على الأرض، بل لنغتني عند الله كما يوصي السيد المسيح "َلا تَطلُبوا أَنتُم ما تَأكُلُونَ أَو ما تَشرَبونَ ولا تكونوا في قَلَق، فهذا كُلُّه يَسْعى إِلَيه وَثَنِيُّو هذا العالم، وأَمَّا أَنتُم فأَبوكُم يَعلَمُ أَنَّكم تَحتاجونَ إِلَيه. بلِ اطلُبوا مَلَكوتَه تُزادوا ذلك" (لوقا 12 :30-31). ولذلك ومهما يكن من أمر، يجب ألاَّ نضع الأموال المكان الأول في اهتماماتنا، بل علينا أن نشتغل أولاً من أجل ملكوت الله، أي لمجدِ الله وخلاص النفس. فان الغباء في "الاكتناز للذات" لا الاغتناء بالله، ويعلق القديس باسيليوس الكبير "سوف تترك هنا المال ولو مُرغماً، وستحمل معك إلى الله المجد الذي استحققته بالأعمال الصالحة".

 

 

الخلاصة

يُبرز مثل الغَنِيٌّ الجاهل (لوقا 12: 16-21) ما هو الغِنَى الحقيقي، وبالتالي ما هو الموقف الذي يجب أن يتَّخذه الإنسان تجاه خيرات هذا العالم. فيسوع رفض التدخل في الشؤون الدنيوية، لان الطمع في الحياة الزمنية تُنسي الإنسان حياته الأبدية، كما لو كانت حياة المرء تقوم على الأكل والشرب والتنعم. وفي الواقع، انتهت حياة الرجل الغَنِيٌّ وأصبح يتكلم فقط مع نفسه واستسلم ولم يعد يستثمر في أي شيء. لقد توقف الزمن بالنسبة إليه ولم يعد يتحرك.

 

لا يضمن المال مهما كثُر للإنسان الحياة الطويلة ولا العيش الرغيد. فمن الغباء أن يعتقد الإنسان أنَّ ماله الكثير سيوفِّر له السعادة الأرضيَّة والحياة المديدة. ذلك لأنَّ الموت يأتيه حتماً، وبعد الموت تواجهه الدينونة الرهيبة. فإنَّه خيرٌ له أنْ يكون غَنِيٌّاً في عينَيْ الله بالأعمال الصالحة من أن يكون غَنِيٌّاً بأموال الأرض وينطوي على نفسه بالاستسلام إلى مطالب أنانيَّتِهِ التي ترفض خدمة الله والآخرين.

 

ومن استسلم لمتطلبات الملكوت، ظلّ حرّاً أمام التعطش إلى الغِنَى الذي يلازم البشر. فإن الغِنَى ليس خيرًا في ذاته ولا يُحسب شرًا، إنما يمكن توجيه للخير كما للشر، فاذا استخدمناه في العطاء صار خيرًا، وإن حمل طمعًا صار شرًا “، كما يُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " أن الغِنَى ليس شرًا، بل هو نافع إن أُحسن استخدامه".

 

أخيرا يدعونا الإنجيل أن نكون أغَنِيٌّاء في الله، فمهما كان لأحد من الثورة فليست حياته من أمواله. نحن خلوقون للسماء، نقضي فترة على الأرض ثم نرجع إلى موطننا الأصلي، فلا نكون أغَبِيّاء في أذهاننا ونعمل لحساب هذا العالم وكأننا نعيش إلى الأبد، ونحن لسنا أغَنِيٌّاء لله. حان الوقت لنوقف الصراع بين الارتباك لترتيب الاحتياجات الزمنية والطمع والطموح الزائد، وبين السعي لغذاء أرواحنا. لنحاول أن نسعى أولًا لإشباع الروح بحفظ كلمة الله، وبالصلاة وممارسة وسائط النعمة، وعمل المحبة بين الناس، وكل الزمنيات ستزاد لكم. ولا نقلق، لأن أبانا يعلم أننا نحتاج إلى هذه كلها، ويُسر أن يعطينا الملكوت. فيسوع يوجّه للحياة الأبدية كل الذين يقبلون الإيمان به.

 

 

دعاء

 

أيها الآب السماوي، نسألك باسم يسوع ابنك الوحيد، أن تمنحنا الحكمة بان لا نضع اتكالنا على خيرات الأرض وحدَها، مهما كانت وافرة، بل نضع اتِّكالنا عليك تعالى لنعمل على تمجيد اسمك القدوس وبلوغ السعادة الأبديَّة الحقَّة التي خُلِقنا لأجلها على الأرض مردِّدين مع القديس أغناطيوس دي ليولا "خذ، يا رب، وأقبل حريتي كلّها، ذاكرتي وعقلي وإرادتي كلّها، كلّ ما هو لي وكل ما هو عندي. أنت أعطيتني ذلك، فإليك أعيده، يا ربّ. كل شيء لك، فتصرّف فيه بكامل مشيئتك. هب لي أن أحبك، هب لي هذه النعمة، فهذا يكفيني".

 

 

قصة: عِمْلة غير متداولة في السماْء

 

يُروى أن غنيّ دخل الفردوس بعد مماته. فبينما كان يتجول في أسواقها تعجّب من أن البضائع في السماء رخيصة جداً... فوقف في أحدِ المحلات التجارية وأراد أن يشتري أشياء كثيرة. فأخرج نقوده وأرادَ التسوق... فقاطعه أحد الملائكة بقوله: "هذه العملة غير متداولة في السماْء". فسأله الغني: "وما هي العملة المتداولة هنا؟" فأجاب الملاك: "العملة المتداولة في السماء هي الأموال التي أنفقت على الفقراء في الأرض".