موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ١٧ مايو / أيار ٢٠٢١

ما بين "دَمِ يسوعَ" و"دَمعِ مريمَ"

بقلم :
د. أشرف ناجح عبد الملاك - كولومبيا
ما بين "دَمِ يسوعَ" و"دَمعِ مريمَ"

ما بين "دَمِ يسوعَ" و"دَمعِ مريمَ"

 

أنْ يجتمعَ الدمُ والدمعُ معًا فهذا أمرٌ طبيعيّ يحدث يوميًّا، ولا غرابة فيه ولا إندهاش؛ فلا ثمّة غرابة في أن هذا يموت نازفًا وذاك يبكي دامعًا، أو أن هذا ينزف دمًا وتلك تسيل دمعًا! فهذه هي الحياة دماء وأَدْمُع، فواحد ينزف والآخر يبكي وينتحب!

 

ولكنّك تجدنا حائرين أمام هذا المنظر الغريب الذي سنقصّه عليك للتوّ...

 

كان هنالك ذات يوم رجلٌ يتمشى في مدينة جميلة مترامية الأطراف، يطلقون عليها "مدينة السلام"، ومِن المفترض أن تفيض سلامًا على كلّ مَن بداخلها ومَن يدخلها، ولكنّها على العكس مِن ذلك تمامًا: فهي «قاتِلَة الأَنبياءِ وراجِمة المُرسَلينَ إِليها» (لو 13/34). وفي هذه المدينة، وفوق هضبة عالية اكتظت بنوعيات مختلفة مِن الناس، انتصب هناك صليب على شكل هذه العلامة (†)؛ وقد كُتبت عليه عِلَّة الحُكم: «هذا يسوعُ مَلِكُ اليَهود» (مت 27/37). ونرجوك ألَّا تسألنا: أحقًّا كان ملكًا أم لا؟ أهو ملك ككلّ ملوك الأرض؟ لأنّ هذا ليس هو ما ننوي عرضه [1]!

 

ووقف الرجلُ– مذهولًا ومتعجّبًا– أمام الصليب، وكان يُراقب بعينيه وبكلِّ حواسه وكيانه ما يحدث حوله... ويا لَلْهول! فقد رأى دَمًا وماءً يخرجان مِن جنب ذاك المصلوب على آثر طعنة حربة صوّبها بقسوة أحد الجنود في جنب هذا المصلوب (يو 19/34)... إنّه مسكين هذا المصلوب! وخطف بصره امرأة باكية ومفترشة تحت الصليب، تبدو أنها أمُّ هذا المصلوب (يو 19/25)... إنها حقًّا الجميلة بين النساء! لقد قيل له عنها إنها أمٌّ عذراء في آنٍ واحدٍ. ونرجوك ألَّا تسألنا أيضًا: كيف يكون هذا؟ فهذا هو سؤالها بعينه الوارد في بشارة لوقا (لو 1/34-35)، وسؤاله هو أيضًا [2]!

 

أجل، إنه منظر مثير للفكر، وجذاب للقلب، وخاطف للأبصار، أنْ ترى دَمًا ينزف من يسوع ودمعًا ينحدر مِن عيني مريم! والعجب والغرابة لا يكمنان في امتزاج الدم والدمع معًا، أو في اجتماع الموت والبكاء سويًا، وإنما الغرابة– وكل الغرابة– في أنَّ الذي يدمي هو يسوع والتي تدمع هي مريم أمّه!

 

فلماذا تدمي يا يسوع المسيح المصلوب؟ ولماذا تدمعين يا مريم الأمّ الحنون؟ لماذا تنزف دَمًا يا يسوع الناصري، يا مَن كرست حياتك برمتها للبشرية، فكانت دماؤك تنزف يوميًّا في شوارع فلسطين القديمة؟ ولماذا تبكين يا مريم الناصرية، يا مَن هي أطهر نساء العالمين والأكثر حنانًا بين أمهات البشر؟

 

لقد ذهب الرجلُ– مرتجفًا– إلى الدم ليسأله: "لماذا خرجت يا صاح مِن جنب هذا المصلوب الطاهر؟ ولماذا سمحت لنفسك أن تنزف منه؟ لِمَ انفصلت عن شخص لهو أحقّ الجميع بك؟". فلم يجيبه هذا الدم المسفوح الحزين، ولكنّه عطف عليه بنصيحة فحسب، فقال له: "اذهب وسل دمع هذه الأم البتول، لعلّك تجد لديه ردًّا شافيًا للوعتك وراويًا لعطشك وظمأك وحبّك للحقيقة"!

 

وفي لحظات وبسرعة مذهلة، طرح الرجلُ السؤال على هذا الدمع السائل مِن عيني هذه الأم الحنون. فجاءت إجابته مثيرة للدهشة، فقد قال له: "لن أُجيبك، ولكنني سأصتحبك معي في رحلة قصيرة، لعلّها تعود عليك بالفائدة"! وفي لمحة بصر، خرج الرجلُ مِن جسد جسده ولبس روحًا جديدًا؛ ولا ندري على وجه التحديد هل كان روحًا وجسدًا أم روحًا ترك جسده؟! وفي لحظات، دخل هذا الرجلُ بُعدًا آخر لم يعهده مِن قبل، ولم يسمع به سابقًا، ولم يرَ مثله قط في سالف أيامه. لقد رأى عرشًا مثبتًا في الهواء الطلق والمساحات الشاسعة، وحول هذا العرش حشود غفيرة؛ وسمع أصواتًا شجبة تحرك القلوب بهتافاتها. لقد شعر عندئذٍ بروح قوية تهز أركان المسكونة، وجاءت الأصوات قوية ورهيبة جدًّا في أصدائها، فكانت أقوى وأرهب مِن أصوات المدافع والقنابل الكثيرة مجتمعةً. ومِن شدة تأثير هذا الروح وهذه الأصوات عليه وجد نفسه مدفوعًا بتلقائيّة عارمة أنْ يهتف معهم بكلماتهم. أتريد أن تعرف الكلمات التي كانوا يتغنون بها؟ أترغب في سمعها أو ترديدها أنت أيضًا؟ فهاك ما تمنيتَ، لقد كانت هذه العبارات: «أَنتَ أَهلٌ لأَن تَأخُذَ الكِتابَ وتَفُضَّ أَخْتامَه، لأَنَّكَ ذُبِحتَ [سالت دماؤك] وافتَدَيتَ للهِ بِدَمِكَ أُناسًا مِن كُلِّ قَبيلَةٍ ولِسانٍ وشَعبٍ وأُمَّة، وجَعَلتَ مِنهم لإِلهِنا مَملَكَةً وكَهَنَةً سيَملِكونَ على الأَرْض [...] الحَمَلُ الذَّبيحُ أَهلٌ لأَن يَنالَ القُدرَةَ والغِنى والحِكمَةَ والقُوَّةَ والإِكْرامَ والمَجدَ والتَّسْبيح» (رؤ 5/9-10، 12).

 

وعندها، وفي تلك اللحظات عينها، فتح الرجلُ عينيه فوجد نفسه أمام دَمِ يسوعَ ودَمعِ مريمَ مرة أخرى، فنطق بهذه الكلمات، بعد أنْ فهم– ولو قليلًا– مِن سرِّ هذا "الدَم النازف" و هذه "الدموع المنحدرة": «يا يسوع المصلوب، إنَّ دمك كريم وثمين للغاية، فهو الذي شفاني (1 بط 2/24) وفدى حياتي وأعطني الحياة (1 بط 1/18-19). فهو الذي أعلن أنَّ الحبَّ لا يكون حبًّا إلّا بعطاء الذات والتخلّي والتجرّد (فيل 2/6-11)، وأنَّ الحبَّ ينبغي أنْ يُصلب ويتألم (مر 8/31). إنك أنت يا يسوع هو مَن علّمني أنَّ كلَّ مَن وكلَّ ما يولد في الصليب لا يموت أبدًا، بل يحيا إلى الأبد! ومَن علّمني أيضًا أنَّ الحبَّ أقوى مِن الموت والدم والدموع! "اعطني يا مخلِّصي أن أعتبر عذابك كنزي، وإكليل الشوك مجدي، وأوجاعك تنعمي، ومرارتك حلاوتي، ودمك حياتي، وحبك فخري وشكري" [3]. وأمّا أنت يا دَمع مريم النقيّة، لا تتوقف أبدًا عن السقوط بغزارة، لقد كنت بالأمس تبكي دَم يسوع ابن البتول كلية الطاهرة، وأريدك اليوم أن تبكي ما آل إليه عالمنا. فليتك تبكي الدَم النازف ليس مِن الأجساد فحسب، بل ومِن العقول والقلوب والنفوس المريضة بداء الخطيئة. وليتك تبكي وتكون شاهدًا لعالمنا وشهيدًا فيه! انظر أيّها الدمع الحزين ذاك الدَم النازف مِن جرح البشرية العميق، فلا تتوقف لأنه لا خلاص ولا مناص لهذا العالم الدامي إلّا دَم يسوع وإياك»!

 

وعندما انتهى الرجلُ مِن نطق هذه الكلمات، أحسّ بضوء الفجر وأشعة الشمس يدخلان مِن نافذة الحجرة المطلة على حديقة منزله، والتي كان نائمًا فيها. فبدأ يسمع كالعادة ضوضاء الحركة الصادرة مِن هنا وهناك، فاستيقظ مسرعًا مِن نَومه ورُقاده ليكمل مسيرة حياته اليومية ويُرافقه حلم "دَم يسوعَ ودَمع مريمَ"!

 

 

[1] إنَّ يسوع المسيح هو "ملك الملوك وربُّ الأرباب"، و«سيِّد ملوكِ الأرض» (رؤ 1/5)، و«ملكُ السماء» (دا 4/34؛ عب 1/8-13)؛ ولكن لا ينبغي أنْ يُفهم ملكوته على أنّه مجرّد نظام أرضيّ زمنيّ. فعندما وقف أمام بيلاطس البنطي ليحاكم منه، قال له: «لَيسَت مَملَكَتي مِن هذا العالَم. لَو كانَت مَملَكَتي مِن هذا العالَم لَدافعَ عَنِّي حَرَسي لِكي لا أُسلَمَ إِلى اليَهود. ولكِنَّ مَملَكَتي لَيسَت مِن ههُنا» (يو 18/36). فهو لم ينكر عن نفسه– ولو للحظةٍ– لقب "ملك"، وإنما أراد أنْ يُنبِّهه وينبِّهنا نحن أيضًا بألَّا نخلط ملكوته بأيّ ملكوت أرضيّ أيًّا كان. وقد أراد أيضًا أنْ يؤكد له ولنا أنَّ أصل ملكوته ومصدره ليس العالم، وإنّما إلهه وأبيه السماوي: «فلَيس مَلَكوتُ اللهِ أَكْلاً وشُرْبًا، بل بِرٌّ وسَلامٌ وفَرَحٌ في الرُّوحِ القُدُس» (روم 14/17).

 

[2] إنَّ سرَّ "حبل مريم العذرائي بيسوع" ينتمي– على غرار "سرّ القيامة"– إلى الخوارق الفائقة الطبيعة، والتي لا يمكن شرحها بالعقل البشري المجرَّد فقط، وإنّما تحتاج إلى "إصغاء ديني" و"إيمان عميق"!

 

[3] الخولاجي المقدس وخدمة الشماس، إعداد القمص إيسيذوروس البراموسي، مكتبة مارجرجس، شبرا، مصر، 1994، 259.