موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٥ مايو / أيار ٢٠٢١

ما بالُكم مُضطربين

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
ما بالُكم مُضطربين

ما بالُكم مُضطربين

 

ما بالُكم مُضطَرِبين؟! الاضطرابُ حالةٌ من عَدمِ الاستقرار وغيابِ الاسْتِتباب. حَالةٌ مِن القَلق والخوف، ومِنَ الفَوضى والبَلبَلة. تُصيبُ الأشّخاص، والْمُجتمعات، والطّبيعة أيضًا. البِحارُ ساعة العَواصِف تَهيجُ مياهُها. الأرضُ ساعة الزّلازِل تَتزعزعُ صُخورُها. الصَّاروخُ الصّيني الّذي كانَ هائِمًا، في الفَضاء سابِحًا، خَلَق حالةً من الاضِطراب والهَلع عِندَ سُكّانِ الْمَعمورة، لخوفِهم من سقوطِه فوقَ رُؤوسِهم. الأوضاعُ في الأراضي الْمُحتَلّة مُضطَرِبة ومُلتهِبة للغاية. الكورونا أَوجَدَت حَالة شاملةً من الاضطرابِ النّفسي والصّحي والاقتصادي والتّعليمي، بالإضافة إلى نَشرِهَا الْفَزعَ بينَ البشر. أمّا في بشارةِ متّى، فَخَبَرُ ميلادِ "مَلِكِ اليهود"، خَلقَ الاضطرابَ بدلَ الفرح، عند هيرودس وشعبِ أورشَليم، إذ شعرَ بتهديد مباشر لِعرشِه ولإركان مُلكِه (متّى 1:2-3).

 

إذا، هي حالةٌ عَامّة من الاضطراب وغيابِ الهُدوءِ والسّلامِ. تمامًا كحالِة التّلاميذِ في إنجيل اليوم، إذ هم مُصابون باضطرابٍ وفَزَع وخوف، ورُبّما بنوعٍ من الْهَذَيان، إذ أَصبَحوا يَتوَهّمون ويُهيَّأُ لَهم، واختلطَ عَليهم واقع الأمور. فهل هُم يَتَخيّلونَ فعلًا، أمْ أنَّ مَا يَرونَه هو حقيقة وواقع؟!

 

وهنا يأتي دورُ المسيحِ القائم، أوّلًا لِيُلقي السّلامَ عَليهم وفي نفوسِهم الْمُضطرِبة، ويردَّ السَّكينَة إلى قُلوبِهم الفَزِعَة. ثمُّ لِيَبُثَّ فِيهم عِلمَ اليَقين، ويُبدِّدَ كلَّ شَكٍّ تَولّدَ عِندَهم، ويؤكّدَ لهم أنّ الّذي يرونَه ماثِلًا أمامَهم، لَيسَ وهمًا ولا شبحًا ولا نسجَ خيال، بل: "أنا هو بِنَفسي"! أنا هو المسيح، الّذي عَرفتُموه وعَاينتُموه، في حياتِه ومعجزاتِه وعِظاته، وأيضًا ساعةَ عذاباتِه وصلبِه وموتِه: "أنا هو بِنَفسي، إلْمِسوني وانْظُروا".

 

بحسبِ مَنشورٍ على موقع (منظّمة الصّحة العالَميّة)، فإنّ العلاماتِ والأعراضَ الْمُصاحِبة للاضطراب، تكون عبارة عن تَولُّدِ مجموعةٍ من مشاعر الحزن والخوف والقلق، بالإضافة إلى تَشوّشٍ في الفِكر، فالاضطراب يَشلّ قدرةَ الشّخص على التّفكير الواضِح، ويُعجِزُهُ عن التّفكير الْمَنطِقي والسّليم. وقد يُصبِح الأمرُ اكتئابًا مُزمِنًا بحاجة إلى علاج.

 

وهنا، يَأتي الْمسيح، لِكي يُهَدِّئَ من رَوْعِ تَلاميذِه وصَحبِه، ويُعيدَ إليهم السّلامَ والرّجاءَ الّذي فَقَدوه لِتَوِّهم. فَبَعدَ كلِّ تِلكَ الأحداثِ الْمُفجِعة، أُصيبَ التّلاميذُ، باضطرابٍ نَفسي وقلق عارِم، وبشعورٍ من الإحباطِ والقُنوط! فَكُلّ أحلامِهم وتطلّعاتِهم الّتي بَنوها على هذا الشّخص، الّذي يُدعَى يسوع، تَداعَت وسَقطت أمامَ مَشهد الصّلب الأليم، وموتِ المعلّم الشّنيع. فَتِلميذا عِمَّاوُس الّلذان يَرويان للتّلاميذِ ما جَرى مَعهُما في الطّريق، وكيفَ عَرَفا يسوع عِندَ كَسرِ الخبز، هما التّلميذان الّلذان كانا قبل ذلِك، كباقي التّلاميذ: "يرجوانِ أنّ يسوعَ النّاصري هو الّذي سَيفتدي إسرائيل" (لوقا 21:24)، في جملةٍ تَدلُّ على اليأسِ الشّديد وفُقدانِ الأمل!

 

إنّ أكبرَ مَرضٍ قَد يُبتَلى به الإنسان، هو فُقدانُ الرّجاءِ والإصابةُ باليأس! والتّلاميذُ كانوا على شَفير الإصابة بِه، لَولا قيام المسيح بينَهم. فَهم كانوا بحاجةٍ ماسّة إلى مَن يُداوي ويَشفي. وظهورُ المسيح، مَنحهم هذا الشّفاء من بؤسِهم، وَخَلّصهم من كَآبَتِهم، وحُزنهم الشّديد، الّذي كادَ أن يفتِكَ بهم.

 

أحيانًا نَيأس من الوضعِ الرّاهن الّذي يبدو أن لا علاجَ له. أحيانًا نيأسُ من أشخاصٍ أو جماعة نتعامل معها، خصوصًا عندما نَرى لا تجاوب ولا تعاون ولا بوادِر تَحسُّن. أحيانًا نَيأس من أنفُسِنا، بسبب فَشلِنا وإخفاقِ مُخَطّطاتنا، أو انسدادِ الأُفق أمامَنا، وغياب الحلول لِمْشاكِلنا. واليأس من الذّات، بالمحصلة يقود إلى اليأسِ من الحياة، وفقدانِ أيّ معنى لهدف الوجود. وفي النّهاية قد يقودني كلّ هذا، إلى اليأس من الله أيضًا، إذ لا أرى فِيه سوى إلهًا بعيدًا محتجِبًا، تركني وتخلّى عني، لا يُصغي ولا يُراعي، أو مُجرّدَ مجموعةٍ من الأوهامِ! وعندها، قد يُمسي الانتحارُ حَلًّا لإنهاءِ فصول معاناةِ النّفسِ البشرية!

 

يا أحبّة، صَلّوا لأجلِ المرضى النَّفسيين، لِلْمُكتَئبين والْمُحبَطين، للّذين يُعانون من اِضطرابَاتٍ عَقليّة واختلالاتٍ عَصبيّة. صلّوا لأجل كلّ إنسانٍ أَدمَنَ الكُحول أو المخدّرات أو أدوية، محاوِلًا نسيانَ ما هو فيه من مَصائبَ وبَلايا. صلّوا لأجل كلّ إنسانٍ مُصاب بالقَلق وفُقدان الشّهية والأرقِ واضطرابِ النّوم. صلّوا لأجلِ كلّ إنسانٍ فِكرُه مُشوّش، مَزاجُه مُعَكّر، أَضاعَ وضوحَ الرّؤيا، واسْوَدّت الدُّنيا أمامَ نَاظِريه. صَلّوا لأجل كلّ إنسان دُموعُه أَحرَقَت عَينيِه، وحزنُه فَطَرَ قَلبَهُ، وَمَزّقَ حَشَاه. صلّوا لأجلِ كلّ إنسان باتَ في شدّة، ويَشعرُ بِضيقٍ، وَصَدرُه مُثقلٌ بِجَبَلٍ من الهموم، وفؤادُه يعتَصِرهُ الألمُ والأسى. صلّوا لأجلِ كلّ إنسانٍ تَكتنِفُه المخاوف، وتملؤه الأوهام. صلّوا لأجلِ كلّ إنسانٍ حَطَّمَهُ الفشلُ الذّريع، وأرهَقتُه الضّغوطاتُ الهائِلة، حتّى وصلَ إلى طريقٍ مَسدود، وبَلغَ أُفقًا مُظلِمًا. صلّوا لأجل كلّ إنسانٍ فقدَ الأمل وخلعَ الرّجاء، وأُصيب باضطراب في إيمانِه، وأزمةٍ في علاقتِه بِرَبِّه، وتوشَّح بثوبِ اليأس. صلّوا لأجلِ كلّ إنسانٍ بَات لا يُفكّر سوى بلحظةٍ أو وسيلة، يُنهي فيها حياتَه، ويُسدِل السّتارَ عن فصول أَلَمِهِ ومعاناته.