موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٤ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٣

لَقَد دُمِّرَ شَعبي لِعدمِ الْمَعرِفَة (هوشع 6:4)

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
الأب فارس سرياني

الأب فارس سرياني

 

عظة الأحد الثّاني من زمن السّنة-أ

 

أَيُّهَا الأحبّةُ جَميعًا في الْمَسيحِ يَسوع. بَعدَ أنْ أَنْهينَا الزَّمَنَ الْمِيلادي، هَا نَحنُ نَعودُ مُجَدَّدًا لِزَمَنِ السَّنَةِ العَادي. وَفي هَذَا الأحدِ الثَّاني كَمَا في الأحَدِ الأوّل، نَحنُ عِندَ نهرِ الأردنِّ، حَيثُ كَانَ يُوحنّا الْمعمَدان يُعَمِّد. وفي الأحدِ الثَّاني كَما في الأحدِ الأوَّل، يَقْصِدُ الْمَسيحُ يُوحنَّا، لِيَعتَمِدَ عَنْ يَدِه.

 

نَهرُ الأردنِّ الصَّغيرُ في حَجْمِه، العَظَيمُ في أَحدَاثِهِ وَمَدْلُولاتِه. فَمِنْ هُنَا بَدَأ عَهدُ يَشوعَ بِن نون، خَليفةِ موسى كَليمِ الله، والّذي (يشوع) قَطَعَ مَع الشَّعبِ مِيَاهَ النَّهرِ، عابرينَ إلى الأرضِ الَّتي أَعَدَّهَا اللهُ لَهم مَسكنًا (راجع يشوع بن نون 14:3-17). وَمِن هُنا، انْتَهى عَصرُ إيليا النّبيِّ العَظيم، مُؤَقَّتًا، وانْتَقَل إلى السَّماءِ، وَبَدَأَ زَمَنُ تِلميذِه أليشاع (راجع 2 ملوك 1:2-14). وَهُنا أَيضًا حَصَل شِفَاءُ نَعمانَ السُّوري، وَبَرِأَ مِن بَرصِهِ بِأَمرِ أَليشاع، عِندَمَا انْغَمَسَ في مِياهِ الأردُنِّ سَبعَ مَرات (راجع 2 ملوك 1:5-14).

 

أَمَّا الحَدَثُ الأعظم، فهوَ لِقاءُ أَعظَمِ مَواليدِ النِّسَاء، يُوحنَّا الْمَعمَدَان، إيليّا الْمُنتَظَرُ رُجوعُهُ، بِحملِ اللهِ الَّذي جَاءَ يحمِلُ خَطيئةَ العالَم. فَعِندَ مِياهِ الأردن، بِدايَةُ عَهْدٍ جَديد، هَوَ عَهدُ النِّعمَةِ وَالحقِّ، الَّلذين أَتَيَا عَن يَدِ يَسوعَ الْمَسيح، الحقِّ كُلِّه، وَالّذي مِنْ مِلْئِهِ نِلْنَا بِأَجمَعِنا، نِعمَةً عَلَى نِعمَة (راجع يوحنّا 16:1-17).

 

﴿رَأَى يُوحَنّا يسوعَ آتيًا نَحوَه فقال: "هوذا حَمَلُ الله الّذي يحمِل خطيئةَ العالم"﴾ (يوحنّا 29:1). مَا هي خطيئةُ العَالم؟! وَلِمَاذا هِيَ بالْمُفردِ وَلَيسَتْ بِالجَمع؟! أَلا يَرتَكِبُ الواحِدُ مِنَّا كُلَّ يومٍ مَجموعَةً مِن الخطايا؟ أَرَى أنَّ خَطيئةَ العَالم، تَكمُنُ في عَدمِ مَعرِفةِ الله: ﴿كانَ في العَالم، وَبِهِ كانَ العالم، والعَالمُ لَم يَعرِفهُ﴾ (يوحنّا 10:1). وَعدمُ الْمَعرِفَة، أَي الجَهل، يَقودُ بالتّالي إلى رَفْضٍ وَعَدمِ قُبول: ﴿جَاءَ إلى بَيتِهِ، فَمَا قَبِلَهُ أَهلُ بَيتِه﴾ (يوحنّا 11:1). وَعندَمَا يُرْفَضُ الله، يُصبِحُ كُلُّ شَيءٍ مُبَاحًا، حَيثُ لا وازِعٌ يُرشِد، ولا رادِعٌ يَمنَع! ذَلِكَ: ﴿أنَّ النّورَ جاءَ إلى العَالم، فَفَضّلَ النّاسُ الظّلامَ على النّور﴾ (يوحنّا 19:3).

 

في صَلاتِهِ الكَهنوتيّة، يُصَلّي يَسوعُ قائِلًا: ﴿والحياةُ الأبديّةُ هيَ أنْ يَعرِفوكَ، أنتَ الإلهَ الحقَّ وَحدَك، وَيَعرِفوا الّذي أرسَلتَهُ يسوعَ الْمسيح﴾ (يوحنّا 3:17). فَحَالَةُ الجَهلِ والتَّطرُّف الْمُتَزايِدَة، وَارتِفاعُ نَبرَةِ خِطابِ الكَراهية الفِكريّ والسَّمَعي، وَالَّلفظي والْمَكتوب، والّتي بِتْنَا نُعاني مِنها كَثيرًا كَمَسيحيّين، هيَ جُزءٌ مِن الجَهلِ بِيَسوعَ الْمَسيح، الّذي لا شريعةَ تَسْمو عَلَى شَريعَتِه، شَريعةِ الْمَحبَّةِ والرَّأفَة، حتّى نحوَ الجُهّالِ الحاقِدين، وَالعُذّالِ الِّلائِمين!

 

نَقرَأُ في فاتحةِ الْمَزمورِ الرّابعِ عَشر: ﴿قالَ الجاهِلُ في قَلبِه: "لَيسَ إله". فَسَدَت أعمالُهُم وَقَبُحَت، وَليسَ مَن يَصنَعُ الصّالِحات﴾ (مزمور 1:14). إنَّ أسوءَ أَنْوَاعِ الجَهَلَة هم الجَهلةُ الْمُتَدَيّنون! فالْمُشكِلةُ لَيسَتْ مَع الْمُلحِدِ وَالَّذي يُنكِرُ وجودَ الله، بِقَدرِ مَا هِيَ مع "الْمُتَدَيّن" الّذي يَدَّعِي مَعرفَةَ الله، وَأَعمالُهُ سَيّئةٌ وَقَبيحَةٌ وَمُضِرَّة! فَإنْ كَانَ تَدَيُّنُكَ يَحثُّكَ عَلَى نَبذِ وَكُرهِ غَيرِكَ مِنَ البَشر، وتَحقيرِهِم وَتَكفيرهِم وَتَرهيبِهم، وَقَدْ يَصلُ الأمرُ حُدودَ قَتلِهم، فَعَنْ أَيِّ إلهٍ أَنْتَ تَتَحَدَّث؟!

 

فَالْمَعرِفةُ يَا أَحِبَّة، لَيسَت مُجرّدَ حَفظِ آَيات، بَل هي عِشْرةٌ طَيّبَةٌ مَع الله، تَقودُ إلى عَلاقَاتٍ سَليمَةٍ وَحَسَنَة مَع سَائِر النّاس، قَائِمَةٍ عَلَى مَبدَأ الإنسانيّةِ الْمُشتَرَكَة، حَتّى وَإنْ كَانوا مُختَلِفين! وَمِن هُنا نَقول أنَّ مَا حَدَثَ في الآونَةِ الأخيرةِ، عَلَى السَّاحَةِ الْمَحَلَّية، لَشَيءٌ مُعيبٌ وَمُخزي. وَمَا آَلَمنَا أَكْثَر الْمُوقِفُ الصَّامِت، لِأصحَابِ السَّعَادةِ وَالسَّيادَةِ والحَضَرات، وَالَّذينَ عَوَّدونَا أَنْ يَطِلّوا عَلَينا، عبرَ شَاشَاتِ التَّلفَزةِ وَالْمَنَصَّاتِ الإلكترونيّة، في الوَقتِ الّذي كانَ يجبُ أَنْ تُقالَ كَلمَةُ حقٍّ وخِطابُ تَقويَة!

 

مُجتَمَعَاتُنا بحاجةٍ إِلى مَعرفةِ الله! الله الّذي يَدْعُونَا إلى الْمَحبَّةِ وَالرَّحمَة، إلى الرّأفةِ وَالشَّفَقَة، إلى الْمَغفِرةِ والْمُسَامَحة، إلى الُّلطفِ والّلين، إلى الاحترامِ والسَّلام، إلى الصِّدقِ والإنسانيّة. فَمَا الفَائِدةُ مِن كَثرةِ التَّدين في داخلِ بُيوتِ العِبَادَة، والخارِجُ يَعُجُّ بِمَظاهِرِ النِّفَاقِ والازدِواجِيّة، والغِشّ وَالفَساد، وَالكَراهيةِ والتَّحقير، وَالسَّبِّ وَالشَّتمِ وَالَّلعن!

 

يَنْعَتونَ الغَربَ بِأَنّه "كافِر"، في الوقتِ الّذي صَارَ فيهِ كَثيرٌ مِن الْمُؤمنين في شِرقِنا العَزيز، يَبْحَثونَ عَن وَسيلةِ هِجرةٍ لِبلادِ "الكُفَّار"، لِعِلمِهم أَنّهم يجدون هُناكَ مَلاذًا، فيهِ يَسْتَطيعونَ العَيشَ بِسَلامٍ وَأَمَان! فَعَن أَيَّ كُفْرٍ يَتَحَدَّثون، في الوَقت الّذي يُفترَضُ بالإيمانِ أَنْ يَدفَعَ إلى احتِرامِ إِنْسَانِيَّةِ الإنْسَان!

 

يَقولُ هوشعُ النّبي: ﴿لَقَد دُمِّرَ شَعبي لِعدمِ الْمعرِفة﴾ (هوشَع 6:4). فَما دَامَ الجَهلُ سائِدًا، سَتَظلُّ هذهِ النّكبَةُ والْمُصيبَة وَالطّامّةُ الكُبرى. فَالجاهِلُ لَيسَ عَدوَّ نَفسِهِ فَقط، بَل عدوَّ غيرِه أيضًا. وكَمَا يَقولُ مِيخائيل نُعيمة: "مَا مِن مُصيبَةٍ إلا الجّهل؛ فالْمُصيبَةُ تَثقُلُ عَلَى قَدْرِ جَهلِنَا مَصدرِهَا وَمَعناهَا، وَتَخِفُّ عَلَى قَدرِ فَهمِنَا مَعناهَا وَمَصدَرِهَا". وَحَتّى ذلكِ الحين، كانَ اللهُ في عونِ كُلِّ عاقِل، وكانَ اللهُ في العَونِ على كُلِّ أرعَنٍ جَاهِل!