موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٦ مارس / آذار ٢٠٢١

لا أَدعوكم عبيدًا

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
يسوعُ كان مُولَعًا بالتّحدّيات، بل كان عِشقُه أن يقفَ في وُجوه الطّغاة، الّذين نَصّبوا من أنفسهم على الآخرين أربابًا

يسوعُ كان مُولَعًا بالتّحدّيات، بل كان عِشقُه أن يقفَ في وُجوه الطّغاة، الّذين نَصّبوا من أنفسهم على الآخرين أربابًا

 

مَشهدُ يسوع والتّلاميذ في إنجيلِ هذا الأحد، وهم يمرّون من بين الزّروع، هو مَشهدٌ رَبيعيٌّ أَلِفَهُ الكثيرون منّا، مِمَّن عاصروا الأيّامَ الجميلة الخوالي، قبل دخول عصر التّقنياتِ الرّقمية، والّذي خَطفَ كثيرًا من عاداتنا الجميلة، وَحَرم الأجيال الجديدة منها! يوم كُنّا مع آبائِنا، ساعةَ الغروبِ وعند انكسارِ أشعّة الشّمس، نجتازُ حقول القمح أيّام الرّبيع، في سهولِ مادبا الخَصيبة، والّتي بالمناسبة كانت تُعدّ من سِلال قمح الإمبراطوريّة الرّومانية. والنّسماتُ المسائية تجعلُ من السّنابل الخضراءِ، أمواجًا تتراقصُ على مدِّ البصر، قبل ابيضاضِها للحصاد. كنّا نقلعُها من الأرضِ الحمراء، ونفركُها بأيدينا، ثمّ ننفخُ عليها لِنُزيلَ قُشورَها، ونلتهمُ بعد ذلك حبّاتِها الطّريةِ الطّيبة. مشهدٌ له ذكرياتٌ في النّفس لا تَغيب.

 

هذا المشهدُ الودّي يدلُّ على الأُلفة والمحبّة، الّتي كانت تجمعُ بين المسيحِ وتلاميذِه. مشهدٌ هادئ هانئ، لم يُعَكّر صَفوَه سوى أولئك الفرّيسيين المُزعِجين، الّذين لا يحلو لهم أن يروا استقرارًا وسلامًا بل نزاعًا واضطرابًا، وفي كلّ مكان تسودُه السّكينة والوئام، يحاولون زرع القلقةِ والخصام!

 

في إنجيلِ الأحدِ الماضي أَتاهُ بعضُ النّاسِ الْمَدسُوسين، يَلومونَه على مخالفةِ تلاميذِه لشريعةِ الصّوم، ولَمّا بَاءَت محاولَتُهم بالفشل، أتوه الفرّيسيون يُقرّعونَه من جديد، على مخالفةِ تلاميذه لشريعة السّبت هذهِ المرّة، فَهُم يفعلونَ في السّبت ما لا يحلُّ فعلُه! وهذهِ من الكبائرِ عندَهم، فَلِسّبتِ حُرمةٌ يمنعُ تجاوزُها، حتّى لو كانَ ذلك على حسابِ الإنسان نفسه! ولكنّ المسيحَ ابنَ الإنسان، سيّدُ السّبت، يُعطي السّبت معناهُ الأثيل، كما أعطى الصّوم أيضًا معناهُ الأصيل. فالسّبت جُعِلَ في خدمة الإنسان، ولَم يُجعَل الإنسانُ في خدمة السّبت. فشريعةُ المسيح يا أحبّة هي شريعةُ حريةٍ للإنسان، تُنادي بالعِتقِ من أسبابِ عُبوديّته، فالمسيح لا يَدعونا بعد اليومِ عبيدًا بل أحبّاء. (يوحنّا 15:15)

 

يسوعُ كان مُولَعًا بالتّحدّيات، بل كان عِشقُه أن يقفَ في وُجوه الطّغاة، الّذين نَصّبوا من أنفسهم على الآخرين أربابًا. فَنراهُ لا يكتفي فقط بحادثةِ قَلعِ السّنبل، لكي يحرقَ رؤوسَ خُصومِه، إنّما صنع معجزة شفاءٍ لرجل أشلِّ اليد في السّبت أيضًا، أمام عيونِهم الّتي كانت تَرقُبُ كلَّ حركة يقوم بها، ومُرادهم أن يُهلِكوه! ولكنّه لم يَكتَرث لِمراقبتهم إيّاه، ولَم يَجبُن أمامَ الفِخاخِ والحَبائل، ولَم يخنع ويُذعُن لِلوَعيد والتّهديد، إنّما ظلّ مُصِرًّا على أنّ الإنسان هو القيمة العُظمى في نظرِ الله وليسَ السّبت، فالإنسان هو تتويج الخليقة الّذي، "بالمجدِ والكرامة كلَّلتَهُ، وعلى صُنعِ يَديكَ وَلّيتَهُ، وكلُّ شيءٍ تحتَ قَدميه جَعلتَه" (المزمور 7:8-8)، وللإنسانِ يحلّ صُنع الخيرِ كلّه، في أي زمان كان.

 

كَم هم قُساةٌ أولئك الفرّيسيون! لم يَأبَهوا لأمرِ ذاك الرّجل المعذّب، الّذي كان ينتظر الفرجَ من وضعِهِ الْمُزري، والحلَّ من رباط يَدِه المشلولة. كان كلُّ هَمِّهِم ألّا يُجري يسوع معجزةً يوم السّبت لِئلّا يكسرَ القاعِدة. يسوع يبحث عن خير الإنسان، في السّبت وفي غير السّبت. وقَد تعامل مع المشلول بدافع من الرّحمة والشّفقة، تلكَ التّي جفّت من قلوب الفرّيسيين، لا بدافعٍ من القانون. يَدُ الرّجل كانت مشلولة، ولكن قلوبَ الفرّيسيّين وعواطفَهم لم تكن مشلولة فقط، إنّما كانت مُتيبّسة متحجّرة، وأحفوريّة من عصر ما قبل الدّيناصورات.

 

أُنظروا يا أحبّة إلى كمّية القسوة الرّهيبة الّتي تعتمرُ قلوبَهم، حين يُبادر المسيحُ إليهم بالسّؤال: "أَعَملُ الخيرِ يحلُّ في السّبت أم عملُ الشّر؟ أَتخليصُ نفسٍ أم قَتلُها؟". وماذا كانت الإجابة: "ظلّوا صامتين". هذا الصّمت المطبِق، ما هو إلّا هو جوابٌ بَليغ، على عدم وجوبِ عمل الخير يوم السّبت، على قتل النّفس لا تخليصها، على استمرار العذاب البشري وهلاكِ الإنسان، في سبيل أحكام وقوانين!

 

هناك بشرٌ يَفتَخِرون بقسوتِهم، يَتَلذّذون بَعذابات الآخرين، لا يرِفُّ لهم جفن ولا يَرقُّ لهم قلب، يشمتون بمصائب الغَير، لا يُحرّكون ساكنًا لنجدتِهم أو مساعدتِهم، يعتقدون أنّ القسوة نوع من الرّجولة والمهابةِ والقوّة، ولكنّها بالأحرى جُبن وسادية مريضة، تحتاج إلى علاج!

 

قوّة المسيح كانت في رحمتِه. سُلطانُه كان في تَحَدّيه لمظاهرِ القَسوة والسّطوة. جُرأَتُهُ كانَت في قدرتِه على صنع الخير للإنسان، غيرَ آبهٍ برضى النّاس أو عَدمِه. صلابةُ المسيح تجلَّت في نُصرتِه للحَقّ، للضّعيف، للمظلوم، للعاجز، للمسكين، للمُصاب، لكلّ مَن هم بحاجةٍ إلى نجدةٍ ومعونة. لَم يُراعي المقامات ولا أصحاب الذّوات، إنّما وضعَ نُصبَ عَينيه فقط خير الإنسانِ جسدًا ونفسًا. وكان على استعدادٍ بأن يُخالِف المحرّمات (Taboo) في سبيل خلاص الإنسان ومنفعتِه.

 

ففي سبيل تخليصِ نَفس، أَكَل داودُ وَصَحبُه من الخبز الّذي لا يحلُّ أَكلُه إلّا للكهنة. يسوع بذلِك لم يقصد إهانة المقدّسات أو الاستخفاف بها، بقدر ما يريد أن يُعِلّمَنا أن القُدسَ الأوّل وبيتَ الله الأوّل وهيكلَهُ الأوّل يَكمُن فينا، "فنحنُ هياكلُ الله، وروحُ الله حالٌّ فينا" (1قورنتوس 16:3). يُريد المسيح أن يُصحّحَ مَفَاهيمنا المغلوطة، الّتي أحيانًا تُقدّس الحجر وتُحقِّرُ البشر. تألّه القوانين والأحكام وتُسَفِّه وَتُشيطِنُ الإنسان. تبحثُ عن منفعةِ فئة وتزدري الخيرَ العَام.

 

أُريد يا أحبّة، أن أعودَ في عُجالةٍ لِمَوقف النّاس حين ظَلّوا صامتين! كان يَرون ألم المشلول ومع ذلك ظلّوا صامتين، مُفَضّلينَ أن يبقى سجينَ أَلَمِهِ وحبيسَ عَذابِه، على أن ينطِقوا بكلمة حقٍّ لِصَالحه.  البعضُ يعتمد سياسة الصمت على قَول الحق، من بابِ عدم رغبة الخوض في مشاكل، أو التّدخل في نزاعات، أو فتح أبواب تُدخِلُك في حلبة صراع، مع هذا وذاك. يرون الظّلمَ والأذى، ويعلمون عن الفساد والشّر، ومع ذلك يختارون الصّمت، كموقف هؤلاء الجبناء قساة القلوب.

 

 الصّمتُ أمامَ الشّر والضّررِ الّلاحق بالآخرين، والسّكوتُ عن الأذى والظّلم الصّريح، الواقع على الآخرين، لأشدُّ وأنكى من الشّر والظّلم نفسِه! هذه هي الدّناءَةُ والخِسَّةُ بِعَينها. أَنْ تَعلمَ أنّ لغيرِك حاجة وتظلّ صامتًا، أن تدركَ أن شرًّا أو فسادًا يحدث هنا وهناك، وتظلّ ساكِتًا، متّخذًا لذاتِك ذرائع ومبرّرات، أكثر فسادًا من الفساد نفسِه!

 

يسوع عندما سألَهم، أَراد أن يَستَحضِر ضَمائرهم وقلوبَهم من قبرِها وفسادِها، ولكنّها بَقيت مُنتِنة دون حِراك! وبقي المسيح وحدَه يُصارع في الميدان. هذهِ خبرةُ من يَشهدُ للحق، ومن يُقاتِل لأجل الحق، ويحارِب في سبيل قضية عادلة شريفة. يحاول أن يستنهِضَ عزائِمَ الناس، أن يستنطقَ ألسنةَ النّاس، أن يُوقِظَهم من سُباتِهم! ولكنّه عبثًا، يجد نفسه كَمَسيحِيه يحارب وحيدًا في الميدان.

 

ولكن لا يهم! فإن كان ربُّ القوّات مَعنا، فلا يَهمّني بعد ذلك شيء، فالله مَعي. وليَرضى من يَرضى، وَليَغضب من يغضب! أَتراني أَتوخّى مشيئة الله، أم رِضى النّاس وموافقتهم؟! فالله أَولى وأحقّ بالطّاعة من النّاس.