موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٣٠ يوليو / تموز ٢٠٢٢

لأنَّ حُبَّ الْمالِ أَصلُ كُلِّ شَر

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
لأنَّ حُبَّ الْمالِ أَصلُ كُلِّ شَر

لأنَّ حُبَّ الْمالِ أَصلُ كُلِّ شَر

 

عظة الأحد الثّامن عَشَر من زمن السّنة العادي

 

﴿يا مُعلِّم، مُر أخي أَنْ يُقاسِمَني الْميراث﴾! مِن هذه الجُملَةِ نَستَشِفُّ أَنَّ الأمورَ كانَت مُحتَدِمَةً بَينَ الأَخَوَين، وَعَلى مَا يَبدو أَنَّ واحِدًا اِجترَّ وهَضَمَ الْمِيراثَ كُلَّه، تارِكًا أَخاهُ مُعدَمًا لا شَيءَ لَهُ! لِذلِك، نَرى هَذا الرّجُلَ يأتي إلى الْمسيحِ ((فارِعًا دارِعًا))، يَطلُبُ مِنهُ التّدخُّلَ والانْصَاف. لا نَعلَمُ لِمَاذا ذَهَبَ الْميراثُ لِوَاحِدٍ فَقط، وَلَكنَّنَا نَشعرُ بِأنَّ هذا الرّجل هو صَاحِبُ قَضيّةٍ، وَيَطلُبُ مِن الْمَسيحِ تَحقيقَ العَدَالة. وَمع ذلك، يَرفُضُ الْمَسيحَ التّدخُل في هَذَا النِّزاع، وَيَأخُذ جَانِبَ الحياد! ﴿يَا رَجُل، مَن أَقامَني عَلَيكُم قاضيًا أَو قَسَّامًا؟﴾. وَعِوضًا عَن البَتِّ في هذهِ القضيّةِ الشّائِكة، يُعطي دَرسًا وَمثلًا وَخُلاصَةً: ﴿تَبصَّروا واحْذَروا كُلَّ طَمَعٍ، لأنَّ حياةَ الْمرءِ، وإنْ اغتَنَى، لا تَأتيهِ مِن أموالِه﴾. (لوقا 15:12).

 

أيّها الأحبّة، يَقولُ الرّسولُ بُولسُ مُخاطِبًا تِلميذَهُ طيموتَاوس: ﴿لإنَّ حُبَّ الْمالِ أصلُ كُلِّ شَر﴾ (1طيمو 10:6). لِمَاذا؟ لأنّكُم بِبسَاطَة: ﴿لا تَستطيعونَ أَن تَعمَلوا اللهَ وَلِلْمال﴾ (متّى 24:6ب). إذْ أنَّ سَيِّدَينِ اِثْنَين لا يَستَويانِ عَلى نَفسِ العَرش، فَمَن تَربَّع في قَلبِهِ الْمَالُ سِيّدًا ورَبًّا، وَضَعَ نفسَهُ تِلقائيًّا في خِدْمَتِهِ وَعِبادتِه! وَعِندها يَتَحَوّل الأمرُ لِطَمَعٍ مُستَدَام، ولا يَنتَهي إلّا بالْمَوت: ﴿فَيا غَبي، في هَذهِ الّليلة تُسْتَرَدُّ نَفسُكَ مِنك، فَلِمَن يَكونُ مَا أَعدَدتَهُ؟﴾ (لوقا 20:12).

 

قَد تَقول: (إنّي أُعِدُّ لِأبنائي وَبَناتي...). جَميل، وَلكِن لِنَرى إنْ كَانوا سَيحفظونَ الْمَعروف، ويَظلّونَ لَكَ ولَكِ أَوفياءَ شَاكرين عَلَى هَذا الْمِيراثِ، بَعدَ مَمَاتِكَ، وَلَو بِزيارةٍ وَاحِدةٍ سَنَويّة، لَيسَ فَقط لإضاءَةِ شَمعَة وفَحمَة وبخور، وَتَضيف غْرَيبه وَقهوة، إنما لِلعِناية بِقُبورِكما وَتَنظيفِهَا وَإيلائِها بَعضَ الإكرام.

 

كَم هو نافِعٌ عِندَما يكونُ الإنسانُ حَكيمًا، يُعْنَى بِجميعِ الأشياءِ والأمور! فَكَمَا أَنّ لَكَ حاجاتٍ دُنيويّة وماديّة هامّة يجبُ أَن تُلَبّى، كَذلِكَ هُناكَ حَاجَاتٌ روحيّة، يجبُ أنْ تُعطَى الاهتِمامَ الّلازِمَ في حَياةِ كُلٍّ مِنّا، وَهذا مَا دَعَاهُ الْمَسيح: الاغتِناءُ عِندَ الله! تَخيّلوا لَو أنَّ اللهَ عِندهُ مَصرِفٌ (بنك) عَلى الأرض، ولِكُلِّ إِنْسَانٍ حِسَاب، يَا تُرى كَم سَيبلُغُ رَصيدُكَ؟! البَعضُ سيكونُ مُفْلِسًا، والبَعضُ سيكونُ لَديهِ رَصيدٌ جَيّد، مِن تَقوَى وإيمان وَعطاء وَأَعمالِ خيرٍ ومحبّة!

 

لَيسَ خَطأً أن تملِكَ الْمال بِصُوَرِهِ الْمُتَعَدِّدَة، وَتعيشَ عِيشَةً مُريحة، فالْمالُ سببُ استقرارٍ زَمَني. وَلكنَّ الخطأَ والخطورة تكمُنُ عِندَمَا يُعميكَ الْمَال، ويُصبِح شُغلَكَ الشّاغِل، ويُقسّي قَلبَك، ويجعلُكَ طَمَّاعًا بخيلًا كَذَّابًا غَشَّاشًا، ويُبعِدُكَ آَخِرَ الأمرِ عَنِ الله والاغتِناءِ مِنَ الله! لِذلِك، الاستقرارُ الحَقيقيّ والأبديّ هو استقرارٌ واسْتِثمارٌ في الله، فَأَنا وَأَنتَ وَنحنُ كُلُّنا سَنَموتُ، فَكَم يا تُرَى سيكونُ رَصيدُك عِندَ الله؟! هل قُمتَ بِفَتحِ حِسَابٍ أَصلًا؟! أَمْ أَنَّ أَرصِدَتَكَ مُقْتَصِرةٌ فَقَط على العربي والإسكان والأهلي والاتحاد والقاهرة عَمّان، وبعضُ البِيوتِ والْمخازن، ودُنماتِ القَمحِ والشّعيرِ وَأَشجارِ الزّيتون!

 

﴿يَا رَجُل، مَن أَقامَني عَلَيكُم قاضيًا أَو قَسَّامًا؟﴾! يا أحبّة، الْمالُ لا يُقسَّمُ فَقط بل يُقسِّم! إنّهُ قادِرٌ بِسهولَة عَلَى أَنْ يُفرّقَ وَيُشتِّتَ وَيُمزّق! كَم هي العائِلاتُ الْمُجَزّأة بِسَببِ نِزَاعَاتٍ وَخِلافَاتٍ حَولَ الْمِيراثِ وَأمورٍ ماليّة؟ إخوةٌ وَأَخَواتٌ وَأقرِباءٌ وَأَصدقاء، مُتَخَاصِمونَ منذُ عُقود. الْمالُ قادِرٌ على إشعالِ نيرانِ الحقدِ وَالغيرةِ والحَسد، وَإيقاظِ مَشَاعرِ السُّخطِ والكُرهِ وَالغَضَب، خصوصًا عِندما تُهضَمُ الحقوق، وَمِن هُنَا نَدعو الإخوةَ لِلرّأفة بالأخوات، والتَّصرُّفِ مِن مُنْطَلَقٍ مَسيحي إنساني، لا قَانوي جَامِد وأحيانًا بِلا رَحمة! الْمالُ عَبدٌ مُطيعٌ وَجَيّد، ولكنّه سَيّدٌ ظالِم ومُتَعَسِّف. إنّهُ بِبَسَاطَةٍ نَبَعٌ قَد يجري فَيَصنَعُ خَيرًا وَصَلاحًا، ونهرٌ قَد يَفيضُ وَيَصنَعُ دَمارًا وهلاكًا.

 

كَتبَ الأديبُ الرّوسي لِيو تُولستوي قِصَّةً بِعنوان: (كَم يحتاجُ الإنسانُ مِن الأرض؟)، تَعبيرًا عَن طَمعِ الإنسانِ الْمُهلِك. تَقول القصّة أنَّ فَلاحًا لَدَيه مَا يَكفيهِ مِن الأرزَاق وَيعيشُ عِيشَةً مُمتازَة، وَلِكنَّهُ يَرغَبُ بِالْمزيد! وفي يومٍ مِن الأيام، أَتَاهُ أَحَدُهم بِعَرضٍ سَخيٍّ لِلغَاية، قائِلًا لَهُ: "مُقابِلَ أَلفِ روبِل، يُمكِنُكَ أن تأخُذَ مِن الأرضِ، مَا يُمكِنُكَ أن تَقطعَهُ خَلالَ مَسيرِ يَومٍ واحد، شريطةَ أن تَعودَ إلى نُقطةِ البدايةِ عِندَ غُروبِ الشّمس".

 

رَاقَ العَرضُ لِلفلّاح، فَاسْتَيقَظَ مُبَكّرًا وَبَدَأَ بالْمَسيرِ بِخطُىٍ سَريعة ومتواصِلة دونَ توقُّف، لِيَكسَبَ مِنَ الأرضِ ما يَستَطيع. وَعِندَمَا انتِصَفَ النّهار، قرَّر أَنْ يَستَمِرَّ في الْمسير، مُعَلِّلًا أَنّهُ سَيُسرِعُ أَكثر أَثنَاءَ عَودَتِه، لِيَضمَنَ الوصولَ عندَ الْموعِد! وَلَمّا انْتَصَفَت الظّهيرة، كَانَ قَد مَشى مَسَافةً عَظيمة، فَأَدرَكَ أنَّ الوقتَ لَيسَ في صَالِحِهِ، وإنَّهُ سيخسَرُ كُلَّ هَذهِ الأرض، إذا لَم يَعُدْ إلى نُقطةِ البدايةِ عندَ الغروب!

 

فَأخذَ يَعدو ويركُض كالْمجنون مُحاوِلًا الوصول على الْموعِد! وَبِمجرّدِ أنّ أخذتَ الشّمسُ في الاختفاءِ خَلفَ خُطوطِ الأُفق، كانَ قَد اقتَربَ جِدًّا مِن حَيثُ بَدأ. فَقسى عَلى جَسدِه الْمُنهَكِ لِلغَاية، وأخذَ يبذِلُ مجهودًا انتحاريًّا، لِلوصول خلالَ ما تَبقّى لَهُ مِن دقائِق! وبِخطواتٍ مُترنِّحة نَجَحَ في الوصولِ إلى نُقطةِ البداية، ولكنّه انْهارَ تمامًا عِندَهَا، وَمَاتَ مِن الإرهاقِ الحاد. فَأتى عَبدُهُ وحفرَ لَهُ قبرًا طُولُه مِتْرينِ وَعَرضُه مِترٌ واحِد! فَهذهِ هي الأرضُ الّتي يحتاجُها كُلٌّ مِنّا آخِرَ الأمرِ، وَلَو بَعدَ حين!

 

في قصيدتِه ((تائِهٌ في غُربةٍ)) كتبَ البابا الرّاحِل شنوده الثّالث يقول: