موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٢

قُدّوسٌ، قُدّوسٌ، قُدّوس

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
قُدّوسٌ، قُدّوسٌ، قُدّوس

قُدّوسٌ، قُدّوسٌ، قُدّوس

 

عيد جميع القدّيسين

 

عيدُ جَميعِ القِدِّيسين، هَذا العيدُ الّذي نَحتفِلُ بِه مَع بِدايةِ شَهرِ تِشرينَ الثّاني، وَقَد أَخذَ الخريفُ يُلَمْلِمُ أَورَاقَ الشَّجَرِ الْمُتَساقِطَةِ عَنْ فُروعِ أُمَّهاتِها! وَفي هَذَا رَمزٌ، أَنَّ عُمْرَنَا وَحَيَاتَنا البَشَريّة، مَا هِيَ إِلّا فُصولٌ مُتعاقِبَة؛ تَبدَأُ بِقوّةٍ وعُنفوانٍ وَنَشَاط، وَلَكنَّهَا إِجمَالًا تَنتَهي بِضعفٍ وَهَرَمٍ ثُمّ انْقِضَاء. وَكَأنّنا كَأوراقِ الشَّجر، نَسْقُطُ عَن فِرعِ الحَياةِ، لِنعودَ إلى الأرضِ الّتي مِنْهَا أُخِذْنَا! فَاذْكُر يَا إنسانُ أنَّكَ تُرابٌ، وإلى التّرابِ تَعود!

 

وَإنْ كَانَت عَودَتُنا إلى التّرابِ، لَيسَت سِوَى مَسألَةَ وَقت، فَبِأيِّ حَالٍ سَوفَ نَعود؟ قِدّيسينَ أَبرارًا أَطْهَارًا، أَمْ مُدَنَّسينَ فَاسِدينَ آثِمين! تَذكّروا أنَّ يومَ غَدٍ، الثّاني مِن تِشْرينِ الثّاني، هوَ ذِكرَى جَميعِ الْمَوتى الْمُؤمنين، فَعيدُ جَميعِ القِدّيسين وَذِكرى جَميعِ الْمَوتَى الْمُؤمنين، مُتَرابِطان. فَإذَا كَانَ لا مَفَرَّ مِنَ الْمَوت، حَقيقةِ الكائِناتِ الْمُطلِقَة، فَبِأيِّ حالٍ سَنَموت؟! برائحةِ القَداسةِ وَعِطرِ النَّقاوَة، أَم بِنَتَانَةِ الخَطيئَةِ وَالنَّجَاسَة؟!

 

يَا صَديقي، القَدَاسَةُ لَيسَت خوارِقَ ولا مُعْجِزاتٍ بَيِّنَات. هَذهِ هِبَاتٌ اِسْتِثنَائَيَّة يمنَحُها اللهُ لِمَن يَشَاء. القدَاسَةُ أُمورٌ بَسيطَة، مِنْ خِلالِها نَعيشُ الإنجيل ونُمارِسُ الوَصَايا. وَتَضمَنُ لَنا حياةً نَظيفَةً شَريفَة، نَحيَاهَا بِاسْتِقَامَة، مُزيَّنَةً بِالفَضَائلِ، مِنْ محبَّةٍ وَحِكْمَةٍ وَقناعَةٍ، وَصِدقٍ وَأَمانَةٍ وَعَطاء، وسُموِّ أَخلَاقٍ ومَخَافَةٍ للهِ تَعَالى!

 

إنَّ الأنفَ البَشَريّ قَادِرٌ عَلَى تمييزِ الرّوائِح؛ مَا كانَ مِنْها طَيِّبًا، وما كانَ مِنْها قَذِرًا! مَا كانَ مِنها زَكِيًّا يَتَعَلَّقُ بِه، وَمَا كانَ مِنها كَريهًا يَنفُر مِنه. فَمَا أَطيَبَ أَريجَ القَدَاسَةِ وَمَا أَعذَبَهُ، وَمَا أَحسنَ صَاحِبَهُ. وَما أَبشعَ رائحةَ الرّجاسَةِ وَما أَنْتَنَها وَمَا أَقْذَرَها، وَكمْ صَاحِبُها هوَ مِسكِينٌ ضَال، حَتَّى وَلَو اعتقَدَ خِلافَ ذلِك!

 

دَعوَةُ اللهِ لَنَا يَا أَحبَّة مُنذُ البِداية، هيَ دَعوَةٌ إلى القَدَاسَة. فَفي سِفرِ الأحبارِ يُخاطِبُنا اللهُ عَلى لِسانِ كَلِيمِهِ مُوسَى قائِلًا: ﴿كونوا قِدِّيسين، لأني أنا الرّبَّ إلهَكُم قِدّوس﴾ (أحبار 2:19). وَيُذكِّرُنا بطرسُ في رِسالتِه الأولى، فَيَقول: ﴿كَمَا أنَّ الّذي دَعاكُم هوَ قُدّوس، فَكَذلِكَ كُونوا أَنْتُم قِدّيسينَ، في سِيرَتِكُم كُلِّهَا﴾ (1بطرس 15:1).

 

وَالقَدَاسَةُ صِفَةُ اللهِ العُظْمَى! فَفي سفرِ أَشعيا النّبي، يُسبِّحُ جَوقُ الْمَلائِكَةِ اللهَ قائِلين: ﴿قُدّوسٌ، قُدّوسٌ، قُدّوس، رَبٌّ القوّاتِ، الأرضُ كُلُّها مَملوءةٌ مِن مَجدِه﴾ (أشعيا 3:6). وهي ذاتُ التّسبِحَةِ الّتي تُعادُ في سفرِ رؤيا القدّيسِ يُوحنَّا: ﴿قُدّوسٌ، قُدّوسٌ، قُدّوس، الرّبُّ الإلهُ القَدير﴾ (رؤيا 8:4). وَهِيَ فِعْلُ الحَمدِ والتَّمجيدِ الّذي نَرْفَعُهُ في كُلِّ قُدَّاس، اسْتِعدادًا وَتَهيِئَةً لِذَبيحةِ الْمَسيحِ الخَلاصِيَّة. فَأنَا وَأنت وَنحن، عِندما نحيا القَدَاسَة، إنّما نحيا عَلَى مِثالِ اللهِ نَفسِه، القدّوسِ الأسمى!

 

تَختَلِفُ طُرُقُنا في الحياة، تَتبايَنُ دَعَواتُنا، وَلَكنَّهَا تَتَّفِقُ وتَتَّحِدُ عَلى دَعوةِ القَداسَة. فُكلُّنا مَدْعُوّن لِنَكونَ قِدّيسين، وَجَميعُنا مَدْعوّن للسّيرِ في طريقِ القَدَاسَة وانْتِهاجِ نَهجِهَا، كلٌّ بحسبِ مَوقِعِه وظُروفِه! فَلا دعوَةَ أَسْمَى مِن هَذهِ الدّعوةِ الشَّامِلَة. فَفِي الكَنيسةِ نماذجُ قَدَاسَة مِن مُختلَفِ الفِئَات؛ فَنَجِدُ آَباءً وَأُمَّهاتٍ قِدّيسين، أَطفالًا وَشبّانًا وَشَابّاتٍ قِدِّيسين، رُهبانًا وَراهبات، كهنَةً وَأساقِفَةً وَبابَواتٍ قِدّيسين! هؤلاءِ أَعلَنَتهُم الكَنيسةُ قِدّيسين شُفعاءَ لَنا.

 

وَفي الْمُقابِل، يوجدُ كثيرونَ، مِنهم مَن عَرَفنَاهُم، عَاشوا ويَعيشونَ حَياةَ قَدَاسَةٍ، وَسيرَةً نَقيّة. وَليسَ شَرْطًا أن تُعلِنَ الكَنيسَةُ قَدَاسَتَهم، وَهُم يَحيَونَها فِعلًا، بِالفِكرِ وَالقَولِ وَالعَملِ والْمَثَلِ الصّالِح! فَ: ﴿كونوا بِلا لَومٍ وَبِلا شائِبَة، وأبناءَ اللهِ بِلا عَيبٍ، في جيلٍ ضالٍّ فاسِدٍ، تُضيئونَ فيهِ ضياءَ النّيراتِ في الكون﴾ (فيلبّي 15:2)