موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
عظة الأحد الرّابع من زمن المجيء-ج
قَامَت مَريم فَمَضت مُسرِعةً! ما أجملَ هذهِ الصّورة لأُمّنا مريم، في هذا الأحدِ الرَابعِ والأخير من زمنِ المجيءِ الْمُبارَك، قبلَ الاحتفالِ بميلادِ الرّبّ الْمَجيد، بعدَ بضعةِ أيّام! مريم هي أفضلُ وأكمل صورةٍ لاستعدادِنا هَذا. فَمن أقربُ إلى الْمسيحِ مِن أُمّه؟ ومَن أفضلُ مِنها لِيَدُلّنا إليه؟
مريمُ تَقوم، والقيامُ فِعلٌ يَدُلُّ على الحياة. ونحن نقول: قُمتُ من النّوم. وكأنَّ النّومَ مَوتٌ، والقيامُ مِنْهُ عَودةٌ إلى الحياة. والحياةُ تَعني حَركة، والحركةُ تدلُّ على الهمّةِ والنّشاط. قيامُ مريم يا أحبّة، وحركتُها وخطواتُها السّريعة نحوَ بيتِ زكريّا، لِمُلاقاةِ أليصابات، هي عبرةٌ لَنا جميعًا! فَفي هذه الأيّامِ الأخيرة، ونحن نَدنو شيئًا فشيئًا من الاحتفالِ بميلادِ الْمسيح، دَعوتُنا هي كمريم: القيامُ بحركةٍ صَوبَ الله ونحوَ القريب. دعوتُنا هي أن نمضي لِلقاءِ الربّ ولقاءِ القريب.
حَركتُنا صوبَ الله ولقاؤنا معه، هو نَدَامةٌ وطلبٌ لِلغُفران. ولذلِكَ هذهِ أيّامُ تَوبةٍ بامتياز، تَحثُّنا فيها الكنيسةُ على التّقرّبِ من سرِّ الْمُصالحة، ومُلاقاةِ الرّبِّ الحنّانِ مانِح الغُفران في كُرسيِّ الاعتراف. وأيضًا حَرَكتُنا نحوَ القريب ولقاؤنا مَعَهُ هو مُصالحةٌ ومسامحةٌ وصفحٌ وتجاوزٌ عن الزّلات وطلبٌ للمغفِرة، مع أَشخاصٍ تجمعُنا بهم عَداوةٌ أو خصومةٌ أو أحقاد أو خلافاتٌ أو سوء مواقِف. وإن لم يَكُن كَذلِك، بَقيَ استِعدَادُنا ظاهريًّا شكليًّا، بَعيدًا عن الجوهرِ العَميقِ لهذا الزّمن.
يا أحبّة، قَد يكونُ الّلقاءُ مع الله الّذي لا نراه، في هكذا ظروف، أَسهلُ مِنَ الّلقاءِ مع القريبِ الّذي نَراه، خُصوصًا عِندَمَا يَكون الجُرح عَميقًا، أو الضّررُ جَسيمًا، أو الألمُ كبيرًا. لِذلِك، قَد أقولُ كلامًا لا يؤيّدني فيه البعض: إن لم تَكُن مُستعِدًّا بَعد للقيامِ بحركةٍ جَسَديّة لِلقاءِ القريب، فهذا طَبيعي في نَظري. فَالجراحُ العَميقة تحتاجُ إلى وقتٍ لِكي تَلتَئِم، والذّكرياتُ الأليمة لا تَتعافى بسهولة. ولكن عَلى الأقل اِجعَل في نفسِكَ حركةً باطنيّة، يَعلَمُها الله، تدلُّ على نِيّةٍ لَدَيكَ في الصّفحِ والْمُسامَحة عندما يحينُ الوقت. أَحيانًا قَلبُ بعضِ الصّفحاتِ أمرٌ ضروري وحَتمي، ولكن دونَ أَحقادٍ دَفينة.
قَامَت مريم مُسرِعةً. لَيسَ دائمًا في العَجَلةِ النّدامة، وفي التّأنّي السّلامة! السّرعةُ مطلوبةٌ في مواقف وأحيانٍ كَثيرة. لأنْ مَن لا يُجاري الوقت، يُداهِمُه الوقت، لِذلِك هو كالسّيفِ قَاطِع. اللهُ، الْمُحرّك الأوّلُ والجوهريّ في الوجود، يُريدنا مؤمنين نُشطاء فاعلين، مُمتلِئينَ حَيويّة وهِمّة، مَصابيحُنا مُتّقِدَة، مُستَعدّين دومًا لِلقائِه! لا يوجد أَبشَع من الْمؤمن الخامل الكسول، لا لِمرض أو عِلّة، إنّما لِطَبعٍ وسُلوك! اللهُ حركة، والحركةُ حياةٌ وبركة، وهكذا يريدنا اللهُ أن نكون. يُحرّكنا الإيمان، يَدفعُنا الرّجاء، تُشعِلنا الْمحبّة.
لَم تَقُم مريم وتمضي مُسرعةً فَحسب، بل قامَت مسرعةً إلى الجَبل! والجبلُ له دلالات ومعان. في العهدِ القديم، يَرمُز الجبل إلى مَكانِ الالتقاءِ مع الله. فموسى صَعِدَ جبلَ سيناء لِيُلاقي الرّبّ وَيَستلِمَ الشّريعة (خروج 12:24-13). وإيليّا صَعِدَ جبلَ حوريب أيضًا لِيلاقي الرّب (1ملوك 8:19-14). ويسوعُ نفسُه كانَ يصعدُ الجبلَ في عِدّةِ مُناسبات: لِيُعلّم الجموع كَما في التّطويبات (متّى 1:5-2)، أو ليُصلّي مُنفرِدًا في العُزلَة (متّى 23:14)، أو لِيُظهِرَ مجدَ ألوهيّتِه أمامَ تَلاميذِهِ مُتَجَلٍّيًا (متّى 1:17-2)، أو لِيرتفِعَ على الصّليبِ فوق جبلِ الجُلجلة للبشرِ فاديًا ومُخلِّصًا، وأخيرًا ليصعدَ إلى السّماءِ، وعيونُنا كالتّلاميذِ شاخصةٌ إلى هُناك حيثُ هو يَنتَظِرُنا (أعمال الرّسل 9:1-10).
صعودُ الجبل يا أحبّة يَتَطَلّب قوّةً بَدَنيّة، وطاقةَ تحمُّل، واستعدادًا للتّعاملِ مع تَضاريس صَعبة، تَحمِلُ كثيرًا من الخُطورة. هكذا هي حياتُنا كمؤمنين: إمّا جبل عالٍ وإمّا وادٍ سَحيق. جبلٌ عالٍ يَتَطلّب مِنّا مجهودًا كبيرًا لكي نجتاز عَقباتِه وَنَتَخَطّى صُعوباتِه، فَنَصعده ونَلتقي آَخِرَ الأمرِ مع اللهِ في القِمّة، عندما تَدنو ساعةُ الانتقالِ والّلقاء.
وإمّا وادٍ سَحيق، نَسقُط فيِهِ بِكلِّ سهولة، إذ أنّ السّقوطَ لا يحتاجُ لمجهودٍ يُذكَر، مُلاقين هلاكَنا الْمُحتّم وموتَنا الأبديّ في القاعِ، بعيدًا عن الله في القمّة. لِذلِك كلُّ مؤمن لا يصعد يسقطُ ويَهوي، وكلّ مؤمنٍ يَتَهيّبُ صُعُودَ الجبالِ، يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَينَ الحُفَر... (إرادةُ الحياة/ أبو القاسِم الشّابي)