موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٦ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٢

فَرَأينا مجدَه

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
فَرَأينا مجدَه

فَرَأينا مجدَه

 

عظة عيد ظهور الرب

 

أَيّها الأحبّة، عيدُ الظُّهورِ الإلهي أو ما دَرُجَ عَلى تَسمِيتِه بِعيدِ الغطاس، والأصحُّ أن يُقالَ: عِيدُ الظهورِ الإلهي. فَالغطاسُ كَتَعبير مُرتبطٌ بعيدِ مَعموديةِ الرّب، وَنُزولِهِ في مِياهِ الأردن. أَمّا هذا العيد، فَهو يُحيي ظهورَ الرّبّ لِلأمُمِ الوَثنية، الْمُمثّلةِ في أَشخاصِ الْمجوسِ الثّلاثة. فميلادُ المسيح، وظهورُ كَلِمَة الله في الجَسد، لِم يِكُن ظُهورًا حَصرِيًّا لآلِ بَيتِ المسيحِ أَي اليهود، بَل كان ظهورًا لِكُلِّ مَن قَبِلَه وآَمَن به، مِن أيّ لِسَانٍ وأُمّةٍ كَانَت.

 

ظهورُ اللهِ بَينَ البَشر هو أَهمُّ ركائِزِ العَقيدة المسيحيّة. فَكِتاباتُ العهدِ الجَديد، والتّي عَليها يَستَنِدُ إيمانُنا، الّذي تَبَلوَرَ مع المجامعِ المسكونيّة الأولَى، تَتَمَحور حولَ هذا الحَدثِ الأساسيّ. فَمَثلًا نَقرأُ في مُقَدِّمَةِ الرّسالةِ إلى العِبرانيّين: "إنَّ الله، بَعدمَا كلّمَ الآباءَ قديمًا، مَرّاتٍ كثيرةً بِوجوهٍ كَثيرة، كَلَّمَنا في آخِرِ الأيّام هَذِه، بابنٍ هو شُعاعُ مَجدِهِ وَصورةُ جَوهَرِهِ" (عبرانيّين 1:1-3).

 

ثُمّ في رِسالةِ القدّيسِ بولس الرّسولِ الأولى إلى تِلميذِه طيموتاوس، نَسمعُه مخاطِبًا إيّاهُ قائِلًا: "ولا خِلافَ أنَّ سِرَّ التّقوى عَظيم: قَد أُظهِرَ في الجَسدِ، وأُعلِنَ بارًّا في الرّوح، وتَراءَى للملائكة، وبُشِّرَ بِه عِندَ الوَثَنيّين، وأُومِنَ بِه في العَالَم، وَرُفِعَ في الْمَجد" (1طيموتاوس 16:3). وأبْرَزُها مَا جاءَ في فاتِحةِ إنجيلِ البَشير يوحنّا: "والكَلِمَةُ صارَ بَشرًا، فَسَكنَ بينَنا، فَرَأينا مَجدَه" (يوحنّا 14:1).

 

عِيدُ الظّهورِ يا أحبّة هو عِيد تَرائي الله لَنا. هو العِيدُ الّذي فيه أَبصَرنا، نحنُ الْمَؤمنين، اللهَ في عيونِ الّذين شَاهَدوه وأَخبَرونا عَنه! وفي ذلِك يكتبُ يوحنّا في رسالتِه الأولى قائِلًا: "ذاكَ الّذي كانَ مُنذُ البَدء، ذاكَ الّذي سَمِعناه، ذاكَ الّذي رأيناهُ بِعَينَينَا، ذاكَ الّذي تَأمّلناه وَلَمَستْهُ يَدانا... نُبشِّرُكُم بِه أَنتُم أيضًا، لِتكونَ لكم أيضًا مشاركةٌ مَعنا" (1يوحنّا 1:1-3).

 

في إنجيلِ اليوم الّذي تُلِي على مَسامِعنا، أُنظروا كَم مرّة وردَ الفِعل (يَرَى) ومُشتقّاتُه: رَأَينَا نَجمَه في الْمَشرِق/ وإذا النّجمُ الّذي رَأوه في الْمشرِق/ فَلَمّا أَبصَروا النّجمَ/ وَدَخلوا البيتَ، فَرَأوا الطِّفلَ مَع أُمِّهِ مَريم. فِعلُ الرّؤيِة هذا، هو الّذي أَشعَلَ في نُفوسِ الْمَجوسيّين هَذهِ الرّغبة، لِيَذهَبوا وَيَتفحَّصوا الأمرَ عَن كَثب. والرّؤيةُ في البداية، وخلالَ مسيرتِهم في الطّريق، هي الّتي قَادَت هؤلاءِ الْمَجوس في النّهاية، إلى السّجودِ لهذا الطّفل كَمُحَصّلَةٍ نهائية.

 

الرّؤيةُ ضَروريّة للإنسان، لأنّها تَقودُ لِليقين. واليَقينُ عَكس الشَّك والالْتِباس. وفي الّلغةِ نَقول: (فُلان اِلْتَبَست عَليه الرّؤية). أي لم تكن واضِحة بشكلٍ كامِل. أَيّها الأحبّة، ألا يُصيبُنا مرّات كَثيرة التباس في رُؤيتِنا لله، أَي اضطرابٌ فيما نُؤمِن، وارتيابٌ فيما نعتقِد؟! نحن لَم نَرى الله، وَلكنّنا نؤمِنُ بناءً على شهادةِ غيرِنا، هَذهِ الّتي توارثتها الأجيالُ وتَناقَلتها حتّى وَصَلت إلينا، ومِنّا سَتَنتَقل للّذين سيأتونَ من بعدِنا.

 

ولكن أحيانًا، وبالرّغمِ مِنَ الرّؤيةِ الّتي لا تَقبَلُ أَيّ الْتِباسٍ وتشكيك، يكون هناك جحودٌ ونُكران! فَكم من الجموعِ الّتي شَاهَدَت ما فَعَلَ يسوع، وانْتَفَعَت بما صَنَع من آَياتٍ عِظام، رَفَضتهُ ولم تُؤمِن به؟! فَالرّؤيةُ لَيسَت دومًا شَرطًا أَسَاسيًّا للقبولِ والإيمان.

 

حَتّى على مُستوى العلاقاتِ الإنسانيّة بين النّاس، على سَبيل المثال نَعلمُ أنّ فُلان إِنسان خَيّر وكريم ومِعطاء وبيتُه مفتوح للجميع، وَصاحب خُلق رَفيع، ومع ذلك تَجِدُ فئةً تُنكِرُ كُلَّ ذلكَ عَليه، بِسَببِ غيرتِها وحَسدِها وحِقدِها، مع أنّ بَعضَها قد انْتَفَعت مِن خَيرِه، وَأَكَلَت من زَادِه! وهذا ما يُدعى الجحودُ والإجحافُ والعُقوق، الّذي هو ليسَ فَقط موضوعًا مُتعلِّقًا بالإيمانِ في الله، بِقَدرِ ما هو شيءٌ نَختَبِرُه مِرارًا في عَلاقاتِنا اليوميّة، بعضُنا مع بعض، مَع ناكري الجميل وجاحِدي المعروف. فإذا كانَ البَعضُ يُريدُ أَن يَرى الله لِكي يؤمن، أَقولُ لَه: أُنظُر كَيفَ نُنكِرُ نحنُ ما يُرى، قَبلَ أَنْ نُؤمِنَ بِما لا يُرى!

 

الرّؤيةُ وَسيلةٌ قَد تَقودُ للإيمان، فَهي لَيسَت قاعدةَ قياس تَصِحُّ دومًا. دعونا نعودُ مثلًا إلى بداية الرّسالة إلى أهل رومة، حيثُ نسمع القدّيس بولس يقول في الأُممِ الوَثنيّة: "فقَد ظَهَرَ غَضَبُ اللّهِ مِنَ السَّماء، على كُلِّ كُفْرٍ وظُلْمٍ يأتي بِه النَّاس، لأَنَّ ما يُعرَفُ عنِ اللهِ بَيِّنٌ لَهم، وظاهِرٌ للبصائِر في مخلوقاتِه... فَلا عُذْرَ لَهم إِذًا... قَدِ استَبدَلوا الباطِلَ بِحَقيقَةِ الله، واتَّقَوُا المَخلوقَ وعَبدوهُ بَدَلَ الخالِق" (راجع رومة 18:1-25).

 

لَن أخوضَ أَكثَر في هذا الأمرِ الفَلْسَفي الّلاهوتي، وَلَكن دعوني أَتَسَاءَل وإيّاكم: مَاذا يَعني لَنا عيدُ الظّهورِ الإلهي؟! مُناسبة أُخرى لتوزيعِ الحلوى/ العوّامة، وَتَبادل التّهاني، الّتي أَصبَحت أحيانًا شيئًا مُرهِقًا، لِكَثرةِ ما يَرِدُكَ إلكترونيًّا من الصّورِ والعبارات، فتَتشكّل عِندكَ مُعضلة: فَإمّا شَطبُها جميعًا وعدمُ الإجابة، وإمّا الرّدّ عَليها جميعًا! هذا موضوع آخر.

 

عيدُ الظّهور يُعيدني إلى كلماتِ الْمَزمور الخامِس والثّمانين: "أَرِنا يا ربُّ رَحمتَك، وَهَب لَنا خلاصَك" (7:85). عيدُ الظّهور هو عيدُ رحمةِ الله، الّتي ظَهَرَت لَنَا في شَخصِ الكلمةِ الْمُتَجَسّدِ والمولودِ من مريمَ العذراء: يسوعُ المسيح. كلُّ مؤمِنٍ فِينَا يَبحَثُ عن رحمةِ رَبّه، يَطلبُ خلاصَ الله. بِكُلِّ تَأكيد: مَشَاكِلُنا، تَعقيداتُنا، مَآسينا، أَمراضُنا، أَوجَاعُنا، آلامُنا، أحمالُنا، مخاوِفُنا، مَصائِبُنا، تُرهِقُنا وتجعلُ مِن رؤيةِ الله أَمرًا في لُبْسٌ وَارتياب، فَوَسطَ الضّبابِ يَتَقلّصُ مَدَى الرّؤية، حَسَبَ كَثَافَتِه. نُصلّي ألّا يَنتَهي حالُ البعضِ بكارِثة.

 

يا أحبّة، عيدُ الظّهور هو عيدُ مُعَايَنةِ الخلاص، كَما أعلنَ سمعانُ الشّيخِ قائِلاً: "الآنَ تُطلِقُ يا سَيّدُ عبدكَ بِسَلام، فَقَد رَأَت عينايَ خلاصَكَ" (لوقا 29:2). إنّي أَومِنُ بأنّ عيدَ الظّهورِ الإلهي، هو الّلحظةُ السّابِقةُ للموت، والّتي فيهَا تكونُ كَسِمعان الشّيخ، مُستَعِدًّا وجاهِزًا لِمُلاقاةِ الله، وَرُؤيتِه بِسَكينةٍ وسلامٍ دون خوفٍ، وبلا قَلق وارتياب.