موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٢ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٢

في البدءِ وتمَّ كلّ شيء

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
في البدءِ وتمَّ كلّ شيء

في البدءِ وتمَّ كلّ شيء

 

عظة الأحد الثاني من زمن الميلاد المجيد-ج

 

أَيّها الإخوةُ والأخواتُ الأحبّاء في المسيحِ يسوع. في الأحدِ الثّاني من زمنِ الميلاد المجيد، نَقرأُ الْمُقدِّمَةَ الّلاهوتيةَ العَميقة للقدّيسِ يُوحنّا الإنجيلي. نَسمَعُهُ يَتَحدّثُ فيها عن صفاتِ اللهِ الكلمةِ الّذي بِه كانَ كلُّ شيء. اللهِ الحياةِ واهبِ الحياةِ لِكُلِّ حَيّ، اللهِ النّورِ الحَقِّ الآتي إلى العالمِ، لِيُنيرَ كلَّ إنسان. اللهِ النّعمةِ الّذي من مِلْئِهِ نِلنَا بِأَجمعِنا نعمةً على نِعمة.

 

ثُمّ أَنَّ يُوحنّا يَستَهِلُّ مُقدِّمَتَه هَذه قائِلًا: "في البدءِ"!، لِيُدَلِّلَ على أنَّ الله هو بدايةُ كلِّ شيء، فَهو الألفُ وهو الياء، هو البدايةُ وهو النّهاية، له الأزمنةُ ولَهُ الدّهور، في يَدِيِهِ مَقاليدُ كلّ شيء، هو الضّابِطُ الكُل. وإن كانَ اللهُ البداية، فَحَتمًا هو الغايةُ والنّهاية لِكلِّ إنسان. فاللهُ يا أحبّة هو مُبتَغَانا الّذي نَسعَى كلُّنا لبلوغِه والوصولِ إليه يومًا، بَعدَ انقضاءِ هذهِ الغُربةِ الأرضية.

 

وإن كانَ يوحنّا قد استَهَلَّ بِشَارتَهُ بهذهِ الجملة "في البدء" (يوحنّا 1:1)، فذلِكَ لِكي يَصِلَ بِنَا وَمَعنا إلى جملةِ يسوعَ فوقَ الصّليب، حينَ قال: "تمّ كلُّ شيء" (يوحنّا 29:19). فَجَميعُ الكلماتِ والجُمَلِ، والّلحظاتِ والأحداثِ بين هاتينِ الجُملَتَين، ما هي إلّا لحظةٌ واحدة، هَدفُها وغايتُها واحدة، إلا وهي بُلوغُ الخلاصِ، الّذي ابْتَدَأَ وتمَّ مع الكلمةِ وفي الكلمةِ، يسوعَ المسيح.

 

بينَ هَاتينِ الجُملَتين أَحداثٌ كَثيرة تَمّت، آياتٌ عَديدة حَصلَت، تعاليمٌ كَثيرة قِيلَت، شَخصيّاتٌ مُؤيِّدَة وأُخرى مُعارِضَة، مِنها مَن وَقَفَ مع الكلمةِ شاهِدًا، كَشَخصيّةِ يوحنّا المعمدان، مَن جاءَ من الله مُرسَلًا يشهَدُ للنّورِ الحَق، سابِقًا يُعدُّ طَريق الرّب. وَمِنها من تآمرَ عَليه مُفتَريًا مُتواطِئً، أَهل بيتِه مَن يُفتَرضُ بهم أن يَقبَلوه، ومع ذلِك رفضوه واضطَهدوه حتّى قَتَلوه.

 

ولكن يا أَحبّة هُناكَ أيضًا شَخصّياتٌ أُخر، ضَمَّنَها النّصّ بِشكلٍ واضِح، ولكنَّ الأمر يَتطَلّبُ قِراءةً مُتأنّية، لِكي نَكتَشِفَ تِلكَ الشَّخصيات. هُم أولئِكَ الّذين قَبِلوا نُورَ الكَلِمة، وَآَمنوا باسمِه، والّذين بِقُبولِهم إيّاه، مَكّنَهم أن يَصيروا أبناءَ الله، فهم لم يولَدوا مِن ذي دَمٍ، ولا مِن رغبةِ رَجُل، بَل من الله وُلِدوا!

 

أُنظروا وَتَلمّسوا مِقدارَ العَظمةِ والرّقيّ في هذهِ الآيات. أُشعروا بِسُموِّ دَعوَتِنا وَتَأمّلوا بجمالِها، فَنَحنُ من اللهِ وُلِدنا، واللهُ هو أبونا. فَمَن له فُخرٌ كَفَخرِنا؟! لإن "مَن افْتَخَرَ، فَلْيَفتَخِر بالرّب" (2قورنتوس 17:10).

 

وَلأنّنا آَمَنّا بالكلمة ونورِ ضِيائِه الحق، فَحَقّ لنا أن نفرحَ ونَبتهجَ أيها الإخوةُ والأخوات. نَفرحُ لأنّنا نَنعمُ بنورِ الإيمانِ بالمسيح، الّذي أشرقَ لَنا وأضاءَ علينا، في ليلةِ ميلادِه المجيد، ذَلكَ لأنَّ "النّور يُشرقُ في الظّلمات، ولَم تُدرِكه الظّلمات" (يوحنّا 5:1). فنورُ المسيح يَمحَقُ كُلّ ظُلمَة، إذا قَرَّرَ الإنسانُ أن يَفتَح نَفسَه أمام نورِ المسيح. ولَكن مِن النّاسِ "مَن فَضَّلَ الظلامَ على النّور" (يوحنّا 19:3) فَظلّوا سُجَنَاء ظُلمتِهم وظلامِهم، رافِضين التّوبةَ والدّخولَ من بابِ الخلاص. وهذا هو الإصرارُ على الشّر ومُقاومةُ الحَقّ الواضِح، وهو خَطيئةٌ مُضادّةٌ لروحِ الله القُدس واهبِ الغُفران، إذ رَفَضوا التّوبة عن سبق إصرارٍ وقناعة.

 

إيمانُنا بالمسيح يَدعونا أن نكونَ على مِثالِ يوحنّا شهودًا للنورِ الحَق. ولأنّنا شهودُ النّور، فأعمالُنا يجب أن تكونَ دومًا مصنوعةً في النّور. وَمَن يَعملُ في النّور لا خوفَ مِنه ولا خوفَ عَليه. أمّا مَن يَعمل تحتَ جُنحِ الظّلام، فهو يَطلب ستارًا لأنّ أعمالَه سيّئة، ولا يُريد لها أن تُكشَف. وفي هذا الخصوص يقول يوحنّا: "فَفضّل النّاسُ الظّلامَ على النّور، لانّ أعمالَهم كانت سيّئة. فَكلُّ مَن يعملُ السّيئات يُبغِضُ النّور، فلا يُقبِلُ إلى النّور لِئلّا تُفضَح أعمالُه. وأمّا الّذي يعملُ لِلحق، فيُقبِلُ إلى النّور، لِتظهرَ أعمالُه وَقَد صُنِعت في الله" (يوحنا 19:3-20).

 

يا أحبّة الصّراعُ بين الخيرِ والشّر، بين النّورِ والظّلام، بينَ الحقِّ والباطل، صراعٌ مُستَمر ما دَامتِ البشريّةُ مُستَمرّة. هو صِراعٌ يَوميّ يحياهُ كلٌّ مِنّا في حياتِه الخاصّة، في قَرارتِه، في أفكارِه، في أقوالِه، في أفعاله، في علاقاتِه، حتّى في نظراتِه. وهو صراعٌ يَنتهي دائِمًا بِغَلبةِ طرفٍ واحدٍ فقط، وهو الطّرف الّذي أنَت مَن يُقرِّرُ أن تُغذّيه وتَقِفَ إلى جانِبِه. ولكن اِعلَم جيّدًا أن لا مُساومةَ بينَ الطّرفينِ نهائِيًّا، فَمن اختارَ الظّلام، تِلقائِيًّا أبغضُ نورَ المسيح.