موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢٥ مارس / آذار ٢٠٢١

عَسى اللهُ أبونا أن يُنعِمَ علينا بعزاءٍ أبديٍّ ورجاء حَسن

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
نحن في وادي الدّموعِ، فلا تُهملينا يا مريم، بل تحنّني علينا أجمعين

نحن في وادي الدّموعِ، فلا تُهملينا يا مريم، بل تحنّني علينا أجمعين

 

أيّها الإخوةُ والأخوات الأحبّاء في المسيح يسوع. عيدُ البشارة أهمّ الأعيادِ مَع عيدِ الفصحِ والقيامة وعيدِ الميلادِ وظهورِ الرّب! فهو البدايةُ لكلّ ما سيتم ويكتمل في المسيح من فِداء وخلاص جاء يحملُه إلينَا. وهو عيدٌ سيّديّ بامتياز، أي أنّه عيدٌ مرتبط ارتباطًا مباشرًا بسيّدنا يسوعَ المسيح. وهو العيد الّذي فيه جبريلُ مُرسَلُ العليِّ، جاءَ يَزفُّ البُشرى إلى فتاة شريفةٍ، في ريعان شبابِها، من فتيات النّاصرة العفيفات الكريمات. جاءَ البَشيرُ يُخبِرها بأنّ الله قد اصطَفاها وزكَّاها واختارَها فوق نساءِ العَالَمين قاطبة، وأولاها فخرًا مُنيفًا وأَلبَسَها مجدًا رفيعًا، لا يُضاهيه فخرٌ ولا يُسَاويِه مجد.

 

عيدُ البشارة هو عيد تجسّد ربّنا يسوع المسيح في حشا البتولِ مريم. فإن كان القدّيس لوقا في إنجيل البشارة، قد أوردَ لنا تَسلسُل الأحداث وقصّ مُجرياتِها عَلينا، فها هو القدّيس يوحنّا في بدء بشارتِه، يُعطينا جوهرَ الحدثِ ومعناه الكامل: "فالكلمةُ صارَ بشرًا، فَسَكنَ بينَنا، فرأينا مجدَه، مجدًا من لَدُنِ الآب لابنٍ وحيد" (يوحنّا 14:1)

 

أيّها الأحبّة، البشارة في المفهوم الإنساني تَعني الفرح بحدثٍ تمّ أو سيتم، أو الانبساطَ بخبر أَفعَمَنا بهجة. حتّى أنّ الْمَلاك، حسب بعض التّرجمات، يخاطب العذراء، قائِلًا: "اِفرَحي، أّيتها الْمُمتلِئةُ نعمة!" وفي مفهومِنا الشّرقي أيضًا، البشارة أو البُشرى مرتبطة بتوزيع (الحلوان)، لأنّ الجوّ هو جو حُبورٍ وسرور.

 

ولكن، في هذا العام كما في العامِ الماضي، نحتفِل بعيد البشارة، ضمن أجواءٍ خانقة قاتِمة، يَنتفي عنها الفرح، ويغيب منها طعم الحلاوة، حتّى أضحت الْمَرارة طبقًا يوميًّا نحتَسيه! فالأوضاع صعبَة، يَشوبها كثيرٌ من الخوف والاضطراب، ويعتريها جمٌّ من التّوتّر والشدّ النّفسي، بالإضافة إلى ضغوطٍ معنوية وصحيّة وماليّة هائِلة، يرزح تحت وطأتِها السّواد الأعظم من النّاس.

 

حتّى أنّ أخبارنا صارت مجموعة من (سمّات البدن)، ففي كلّ صباح صرنا نستفيق على خبر عزيزٍ مُصاب، أو صديقٍ يرقد في المشفى مُضنًا بالآلام والأوجاع، أو قريبٍ انتقل إلى رحمة ربّه جرّاء المرض! وفي نفس الوقت، تُغلَق أبوابُ الكنائِس، أمامَ مؤمنين ربّما أرادوا الاختلاء في لحظات من الصّمت والصّلاة، وربّما البكاءِ والتّفريغ والعتب لربّ البّيت! فحتّى هذا الملاذ صار مُغلَقًا، ولم يعد مُتاحًا بسهولة.

 

صحيح أنّ البشارة بتجسّد المسيح تَعني فرحًا، ولكنّ الواقع قد لا يعكس بالضّرورة فرحًا! فالعذراء أمّه وَجَدت نفسَها في وضع لا تُحسد عليه، فقد كانت مَثار شك في لحظة ما، حتّى أنّ خطيبَها قد عزم على أن يُطلّقها سرًّا. وحياة العائلة المقدّسة كانت محفوفة بالمخاطر، فهناك مَن يريد هلاكَها وإبادتَها! وهي أيضًا قد اختبرت معنى الهروب، ومعنى الّلجوء من بقعة إلى أخرى، بسبب الخوف على الحياة.

 

هذا يعني أنّ الحياة تستمر، حتّى إبّان الاضطراب وعدم الارتياح. تستمرّ وسط تقلّبات الدّهر الحاضر، وعند أحلكِ الظّروف، وأكثرها مدعاةً للإحباط والكآبة. واقعنا اليوم، كواقع يسوع وعائلتِه في الأمس، قد لا يعكس أفراح البشارة ولا الميلاد ولا القيامة، ومع ذلك دعوتنا الآنيّة، أن نَحيا بصبر وإيمان على الأقل، إن لَم يكن بفرح الآن، مع أنّ المسيحي الحقيقي لا شيءَ باستطاعتِه أن يَسلبَه الفرح الحقيقي، لأنّ قلبَه مفعم رجاء بالله الّذي يخلص (روما 24:8)

 

أيّها الأحبّة، عيد البشارة هو عيد الالتقاء! فالّلقاءُ الّذي أوقَفَه آدم وحوّاء ساعةَ التّمردِ والخطيئة، أعادَه المسيحُ والعذراء إلينا ساعةَ النّعمةِ والتّجسّد! هذا العيد، بطاعة مريم، فتح الباب على مِصرَاعيه من جديد، فأضحت كلّ لقاءات الخلاص ممكنة بعدَه. هذا العيد هو ذكرى دخول كلمة الله في حياتنا الإنسانية وفي واقعنا البشري، ومُخاطَبتِه إيّانا، بل و(مُخَالَطتِه) إيّانا، دون كَمائِم ولا قُفَّازات ولا تباعد، بل بشكل شخصيٍّ ومباشر ولَصيق، ذلك بأنّ: "اللهَ، بعدَما كلَّمَ الآباءَ قديمًا، مرّاتٍ كثيرةً، بوُجوهٍ كثيرة، كلّمَنا في آخرِ الأيّام هذهِ، بابنٍ جعلَه وارِثًا لكلِّ شيءٍ، وبِه أنشئَ العالَمين. هو شُعاعُ مجدِه وصورةُ جَوهَرِه" (عبرانيّين 1:1-3)

 

في يوم البشارة، ساعةَ حيّا الملاكُ مريم بتحيّة الفرحِ والسّلام، خالَجها فَيضٌ من الخوف، وَدَاخَلَها كثيرٌ من الاضطراب. فَأتَتها مباشرة كلماتُ التّعزية من مُرسل الرّب الأعظم، أن "لا تَخافي يا مريم"، مبدّدةً كلّ قلقٍ وتخوّف وانزعاج. ونحن بدورِنا اليوم، وفي خضمِّ هذه الأزمة العارمة والموجة الجارفة، تَعتَرينا كثيرٌ من مشاعر الخوفِ والقلقِ والاضطراب. إن لَم يكن على أنفُسِنا، فَعلى أحبّتِنا، كبارًا وصغارًا، على صحّة الضّعفاء منّا، على بيوتِنا وعائِلاتِنا ومستقبل أولادِنا وبناتِنا. على هذا الوطن، وما يُخفيه المستقبل من أيام، لا ندري ماذا يكون فيها، ولكنّنا نسأل الله خيرهَا للجميع.

 

دعونا أيّها الأحبّة في عيد البشارة، نطلبُ من الله أبي المراحم وإله كلّ تعزية، أن يَتَحنّنَ على عالمِنا الإنساني المتألّم والمتضرّر والمتخبّط. أن يَرأفَ بِنا وأن يُشفِق علينا، لِما آلَت إليه أوضاعنا وأحوالُنا، من بؤس وتعس، وعناء وشقاء. أن يرحمَنا ويشفينا ويخلّصنا من دائِنا وبلائِنا. أن يسكبَ في قلوبنا بلسمَ عزاء، وينفخَ فينا نفحةَ أملٍ ونسمةَ رجاء، وسط لسعات الواقعِ القارِصة.

 

نحن في وادي الدّموعِ، فلا تُهملينا يا مريم، بل تحنّني علينا أجمعين. نصرخُ إليكِ يا أمَّ الرّحمة والرّأفة والمعونة، يا حياتَنا وحلاوتَنا ورجاءَنا، يا سلوتَنا ومصدرَ عزائِنا. نصرخُ إليكِ نحنُ الْمنفيّين أولادَ حوّاء، وسطَ الدّاء والبلاءِ، نائحين باكينَ محزونين! قَد نالَنا الكربُ، وَأَخذَنا الغَمّ، وأغرقَنا الهمّ، والحشا منّا اضطرب!

 

تحنّني علينا يا عذراءُ يا قدّيسة، ميلي إلينا يا أمّنا يا مريم، بنظركِ الحنون الرؤوم. أنظري إلينا يا شفيعتَنا، يا أختنا، يا بنتَ أرضِنا، وأرينا بعد هذا المنفى، يسوعَ ثمرةَ بطنِكِ المباركة، يا حنونة، يا رؤوفة، يا حلوة، يا مريم البتول.