موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٩ يناير / كانون الثاني ٢٠٢١

عيد عماد الرب

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
عيد عماد الرب

عيد عماد الرب

 

عنكَ رَضيت

 

أيّها الأحبّة، إخوةً وأخواتٍ أَعزّاء في المسيحِ يسوع. مع عيدِ عِماد الرّب، نَطوي صفحةَ الزّمنِ الميلادي ليتورجيًّا، دونَ أن نَطوي طبعًا حقيقةَ حلولِ كلمةِ الله يسوعَ المسيحِ فينا. بل على النّقيض مِن ذلك، ففي حدثِ معموديتهِ ومعموديّتِنا، الحقيقة توطّدَت أكثر فأكثر، فَبِه نحن أَصبَحنا أَبناء للآبِ السّماوي، يَصحبُنا ويؤيّدنا الرّوحُ القدس، جاعِلًا منّا هياكلَ عبادة ونعمة. وفي حدثِ العماد، حقيقة الله الّتي ظَلّت محجوبةً، صارت لنا معروفة بصوتِ الآب الّذي هبطَ من العُلى، وبصورةِ الابنِ المنغمسِ في مياهِ الأردن، وبهيئةِ الرّوح القدس النّازل عليهِ، يشقّ حجابَ السّموات.

 

والأهمُّ مِن ذلك، أنّه هو الآن مَعنا بشكل مباشر وشخصي: "فالله، بَعدَما كَلَّمَ الآباءَ قَديمًا بِالأَنبِياءَ مَرَّاتٍ كَثيرةً بِوُجوهٍ كَثيرة، كَلَّمَنا في آخِرِ الأَيَّام هذِه بِابْنٍ جَعَلَه وارِثًا لِكُلِّ شيء وبِه أَنشَأَ العالَمِين" كَما تُخبرُنا بذلك الرّسالةُ إلى العبرانيّين (1:1-3).

 

في حَدثِ المعمودية، مَن هو ماءُ الحياة ينزلُ في مياهِ الأردن، لِيُعلِنَ أمامَ الملأ افتتاحَ عصرِ الرّسالة، وإيذانًا ببدء عهد النّعمة والملكوت. قُضي الأمر، وانتَهى عهدُ موسى والشّريعة، وبدأَ عهدُ النّعمةِ والحق بيسوع المسيح. في حدث المعمودية، الله يُكلّمنا بشكل مباشر، دونَ قَنواتٍ وبلا وسطاء. يكلّمنا بابنه الحَبيب، شعاعِ مجدِه وصورةِ جوهره، كلمتِه الّذي صار بشرًا وسكنَ بينَنا. في حَدث المعمودية، الروحُ القدس يهبط عَلينا، يقدّسنا ويُكرّسُنا، ويجعل منّا هياكل الله الحي. المعمودية حدثٌ عَظيم! لَيسَ بقوّة الماء الّذي سُكِبَ علينا أو انغَمَسنا فيه، بل بقوّة الله الآبِ والابنِ والرّوحِ القدس، الّذي فيه اعتمدنا وبه أَصبحنا مسيحيّين. هذه نعمةُ النّعم لمن يَعي ويُدرِكُ ويفهم.

 

في حَدثِ المعمودية نسمعُ مجدّدًا، ما أَنشَدَته جوقةُ الملائكةِ ليلَة الميلاد مسبّحةً تقول: "والسّلامُ في الأرضِ، للنّاس فإنّهم أهلُ رِضاه" (لوقا 14:2). نسمعُ هذا الأمر، اليوم مرّةً أُخرى، بصوتِ الآب قائِلًا: "عنكَ رَضيت". فكلُّ واحدٍ منّا يوم اعتمدَ في الماءِ باسم الثّالوث، صار لله ابنًا، وبالتّالي أَصبحَ كلٌّ منّا موضوع رضى الله. ورضى الله، يكون بطاعتِنا له طاعةَ الأبناءِ لأبيهم، يكونُ بِتَحقيقِنا مشيئتَه تعالى، وَعَيشِنا لإرادةِ العليّ، وَعَمَلِنا بحسب وصاياه. عندها نكون فعلًا أبناءَ مَرضيّين لدى الآبِ السّماوي.

 

المعموديةُ قبل أن تكونَ مَدعاةً للاحتفال، أو مناسبةً اجتماعية لالتقاط الصّور ولبس الثياب، أو دعوةً لإقامة وَليمة، هي بالأساس حدثُ إيمان، بل هي المفتاحُ الّذي بِه نفتحُ ونلِجُ باب الإيمان، وفيه نخطو الخطوةَ الأولى في دَرب الإيمان. المعمودية اليوم مع كلّ أسف، أضحَت بشكلٍ واسع، مُجرَّدَ مناسبة مجرّدة من معظمِ معانيها الإيمانية، بَل أُفرِغَت من مَدلولاتِها الرّوحية الأصيلة. صَارت حركاتٍ بلا روح، مظاهِر بلا مَعنى، وربّما بلا قيمة أيضًا. لِذلك البعضُ يدخلُ بيتَ الله طفلًا محمولًا على الأذرع، ولا يُعيد الكَرّة إلّا على قَدميه واقفًا، أو على الاكتاف مُسجًّا! مَن المُلام، لستُ أدري؟! ربّما الكهنة، ربّما الشّعب، اِسألوا لَبيبة.

 

المعمودية سرٌّ واحد يُمنح لجميع المعتمدين. ولكنّ مَدى تأثيرِها يختلِف من شخصٍ لآخر. يختلِف من أهل إلى أهل، قبل أن يختلِف من طفل إلى طفل. وأعتقدُ أنّ مفاعيلَ للمعمودية يجب أن تُصيبَ الأهلَ، قبل أن تُصيب الطّفل. البعضُ قَد يسأل: ما الفائِدة إذًا من المعمودية؟ كلُّ الفائدة في المعمودية! فالخَلَل لا يكمُن في السّر، بل في رَفض التّفاعل مع نعمة السّر، أو في دَفن الوزنةَ المعطاة والهِبة الممنوحة. لذلك اكتسبَ العمادُ عند كثيرٍ من العائلات والأُسر طابًعا اجتماعيًّا بحتًا، واصطبَغَ بصبغةٍ مغلوطة تقومُ على مظاهر واحتفالاتٍ وولائِم، مُهملين الحقائِقَ الّلاهوتية والإيمانية والرّوحية الجمّة الكامنة في هذا السرّ العَظيم. مرّة أُخرى، مَن المُلام، لستُ أدري؟! اِسألوا إيليا أبو ماضي.

 

دعونا نُعرّجُ قليلًا على وَضعِنا الرّعوي الخاص. عام 2020 كانَ عامًا صعبًا! ليسَ فقط لأنّ الكنيسةَ أُغلِقت أسابيع وأشهر. بَل لأنّ الجائحة ضربَت أيضًا حياةَ الكنيسة الأسراريّة، على مستوى رعّيتِنا هنا في الكرك! فأثناءَ تَفقّدي لسجلّاتِ المعمودية، وَتَعبأتي للأوراق الخاصّة بالمعلومات الرّعوية، الّتي نُرسِلها بعد ذلك إلى دار البطريركية، وَجَدت أنّ العام الماضي 2020 كان عقيمًا وجافًّا، على غير العادة، كهذهِ المربعانية الجافّة. في ذلك العام الموبوء، لَم نمنح المعمودية ولا حتّى لطفل واحد! سنة عقيمة فعلًا. لم نُنجِب للإيمان أحدًا. شيءٌ مؤسفٌ فعلًا! نسألُ الله أن تكونَ هذهِ السّنة خصبة بمؤمنينَ ومؤمنات جدد، ينضمّون إلى شعب الله وكنيسته.

 

يا أحبّة، في مشهدِ المعمودية انفتحت السّموات، وسُمِع صوت الآب، وهبطَ الروحُ على الكلمة من العُلى. وخلالَ تساعية الميلاد صَلّينا مُرنّمين: يا ليتَكَ تشقُّ السّمواتِ فتنزِل! فَمَشهدُ المعمودية هو تحقيقٌ للنّبوءة، وإنجازٌ للوعد. في مشهد المعمودية، السّموات تنحني وتُعانقُ الأرضَ، وإلهُ السّموات ينزل مُتحنّنًا على أهلِ الأرض. في مشهد المعمودية يعود الاتّصال المقطوع بينَ الإله والبشر. لذلكَ سرُّ المعمودية هو سرُّ مغفرة، يُزيل كلَّ خطيئة ويمحو كلّ أثرٍ للخطيئة. فإن كانت الخطيئة انقطاعٌ وموتٌ عنِ الله، فالمعموديةُ هي حياةٌ واتّصالٌ بالله.

 

في يومِ المعمودية، نطقَ الأهل والأشابين والحاضرون جميعًا باسمنا نهارًا جهارًا، كافرين بالشّيطان وبكلّ شَر، ومؤمنين بالله وبكلّ عقائد الإيمان. دعونا اليوم، ونحن نحتفل بذكرى عماد الرّب، نُجدّد مواعيدَ معموديّتنا، مُستذكرين ذلكَ الحدثَ العظيم الّذي فيه دُعينا أبناءَ الرّضى وإخوةَ الرّب وهياكلَ الرّوح الحي.

 

الكاهن: أتكفرون بالشيطان؟  الجميع: نعم نكفر.

الكاهن: وبجميع أعماله؟  الجميع: نعم نكفر.

الكاهن: وبجميع أباطيله؟  الجميع: نعم نكفر.

الكاهن: أتكفرون بالخطيئة، لتعيشوا في حريّة أبناء الله؟  الجميع: نعم نكفر.

الكاهن: أتكفرون بالاعتقادات الباطلة والسّحر؟  الجميع: نعم نكفر.

 

الكاهن: أتؤمنون بالله الآب القدير، خالق السماء والأرض؟  الجميع: نعم نؤمن.

الكاهن: أتؤمنون بربنا يسوع المسيح، ابنه الوحيد الذي ولد من مريم البتول، وتألم وماتَ وقُبر وقام من بين الأموات، وهو جالسٌ عن يمين الآب؟  الجميع: نعم نؤمن.

الكاهن: أتؤمنون بالروح القدس، وبالكنيسة الكاثوليكية المقدسة، وبشركة القديسين، ومغفرة الخطايا وقيامة الجسد والحياة الأبدية؟ الجميع: نعم نؤمن.

 

هذا هو إيماننا. هذا هو إيمان الكنيسة. هذا هو الإيمان الذي نُعْلنُه بافتخار، في المسيح يسوع ربّنا.

 

آمين