موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢٩ يونيو / حزيران ٢٠٢٢

عيد الرّسولين بُطرس وبولس: شَاهِدان وَشَهيدان

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
عيد الرّسولين بُطرس وبولس: شَاهِدان وَشَهيدان

عيد الرّسولين بُطرس وبولس: شَاهِدان وَشَهيدان

 

لِكُلِّ بِناءٍ يرتفِعُ أَسَاسَاتٌ يَرتَكِزُ عَليها. وَكلُّما كانَ الأساسُ قَوّيًا، كانَ البِناءُ راسِخًا وَمَكينًا. وَمِنَ الأساسِ تقومُ أَعمِدَةٌ ثابِتة، عَليها وَإِلَيهَا تَستنِدُ جُدرانٌ وأَسقُفٌ، تَجعَلُ البِناءَ كامِلًا مُكتَمِلًا! أَمّا الْمسيحُ فهوَ أساسُ الكَنيسةِ الْمَتين. وأَمّا الرّسلُ فَهُم أَعمِدةُ الكَنيسةِ الْمُحكَمَة، الّتي قامَت مِن الْمَسيحِ الأساسِ الوَطيد، وعَليها يَقوم بِناءُ الإيمانِ والبِشَارة! وَأمّا بَطرُسُ وَبولس، فَلَهُما مكانَةٌ خَاصَّةٌ وبارِزَةٌ بينَ جميعِ رُسُلِ الْمَسيحِ وتَلاميذِه!

 

فَبُطرسُ "Petrus" في الّلاتينيّة، وكيفا في الآرامية، والّذي اسمُه يَأتي بِمعنَى صَخرة، جَعَلَ مِنهُ الْمسيحُ، صَخرةَ الكَنيسَة، إذ مَنَحَهُ هذا السّلطانَ عِندَ نَواحي قَيصريّة فِيلبُّس، شمالِ بحيرة طَبريّا، قائِلًا: ﴿أَنتَ صَخرٌ، وَعَلى الصَّخرِ هذا سَأَبني كَنيسَتي، فَلَن يَقوى عَلَيها سُلْطانُ الموت﴾ (متى 18:16-20). لَيس ذلِك فَحسب، بَل أنَّ الْمسيحَ، وَبالرّغمِ مِن مَعرَفَتِهِ بِضعفِ بطرس وَبِنُكرانِه الّذي سيحدُثُ ثلاثَ مرّات، إلّا أنّه لَم يَفقِد ثِقَتَه بِهِ، بَل أَوكَلَ إليه مَهمَّةَ رِعايةِ إخوتِهِ التّلاميذ، فَأَوصَاهُ قائِلًا: ﴿وَأَنتَ فَثبِّت إخوَانَكَ مَتَى رَجِعتَ﴾ (لوقا 32:22). وبعدَ قيامتِهِ الْمَجيدَة وَقبلَ صُعودِهِ السّماواتِ الُعلَى، عَاتَبَهُ عِتَابَ الأحبّة، جاعِلًا مِنهُ في نَفسِ الوَقت، رَاعٍ أَوَّل لِلخِراف، ثلاثَ مرّاتٍ أَيضًا، فَخاطَبَهُ قائِلًا: ﴿إِرعَ خِرافي﴾ (يوحنّا 17:21). وَها نَحنُ نُصغي إِليهِ وَنَراهُ يَتَقدَّمُ الأحدَ عَشر، يُخاطِبُ الجموعَ بِكُلِّ جُرأةٍ وَحَماسَة، بعدَ حَدَثِ العَنصرة، يَدعوهم إلى الإيمانِ بِيَسوعَ النَّاصِريّ مَسيحِ الرّب. وَعَن كَلامِه هذا، قَبِلَ الإيمانَ آلافُ النَّاس! (راجع أعمال الرّسل 14:2-41).

 

وبولس "Paulus" في الّلاتينيّة، والّذي اِسمُهُ هَذا بعدَ الاهتداءِ عَلى طريقِ دِمشق، يَعني الصّغيرَ أو الْمُتَواضِع. وقبلَ الاهتداء "شاول" أي الّذي طُلِبَ أو سُئِلَ مِن الله. فَهوَ رسولُ الأممِ، الّذي انطلَق بِكلِّ قُوّةٍ وَعزيمة، يُبشّرُ الأُممَ على اختِلافِهَا، وَيكتبُ رسائِلَ إلى الجماعاتِ الّتي أسَّسها، بَلَغَ عَدَدُها ثلاث عَشرةَ رِسالة، وَبَعضُ العُلماءِ والْمُفسرين يَنسبُ إليهِ أيضًا الرّسالةَ إلى العبرانيين، مُثَبِّتًا تلكَ الجماعاتِ في الإيمانِ، كاشِفًا لها الحَقائِقَ بإلهامٍ مِن روحِ الله! بولسُ رسولُ الأُمَمِ بِامْتياز، وفي رحلاتِه التَّبشيريّةِ الثَّلاث، جابَ أَصقَاعَ الإمبراطوريّة الرّومانيّة، حامِلًا رايةَ الْمسيح، اِنطلاقًا مِن أورشليم وَبلادِ الشّام، مُرورًا بآسيا الصّغرى، وصولًا إلى روما، يُبشِّرُ وَيَعِظ اليَهودَ والوَثَنيين، دُونَ تمييزٍ أَو انحياز.

 

بُطرسُ بِدعوَة الْمسيح اِنقلبَ مِن صيّادٍ كَان يُلقي شباكَهُ في مِياهِ بحرِ الجَليل، إلى صيّادٍ يُلقي شَبَكةَ البِشارة، فَيربَحَ النّفوسَ لِلمَسيح. وبولسُ صانِعُ الخيَم (راجِع أعمال الرّسل 3:18)، أصبحَ باني كنائس ومُؤسّسَ جماعات، بَعد لِقائه الْمسيحَ الحيّ! حتّى أنَّ مِهنَتَهُ أَثَّرَت في أُسلوبِ بِشارتِه، فَكتبَ قائِلًا: ﴿وَنَحنُ نَعلَمُ أنَّهُ إذا هُدِمَ بَيتُنا الأرضيُّ، وَما هو إلّا خَيمة، فَلَنا في السَّمَواتِ، مَسكِنٌ مِن صُنعِ الله، بَيتٌ أبدي لَم تَصنَعهُ الأيدي﴾ (2قورنتوس 1:5).

 

أَضِفْ إلى ذلِك، أنَّ بولسَ بالرّغمِ مِن جَدّهِ واجتهادِه، إلّا أنّه ظلَّ مُدْرِكًا بِأنّه أداةٌ اِختارَها الْمسيحُ ليكونَ مَسؤولًا عِن التّبشيرِ باسمِهِ، أَينما ذهب وحيثُما حَل. وَلَم يُنكِر يَومًا مَعنى اسمِه، بالرّغمِ مِن كُلّ ما عَمِلَ وعلَّم، بَل كتبَ يقول: ﴿أَنا أصغرُ صِغار القدّيسينَ جَميعًا، وُهِبَت لي هَذِه النّعمة﴾ (أفَسُس 8:3).

 

بُطرسُ يُمثّلُ السّلطَةَ والرّئاسةَ في الكنيسة، وَالْمُستَمَدَّة من الْمسيحِ نفسِه. وبولسُ يُمثّلُ شُعلَةَ الَحمَاسَة والإقدامَ في إعلانِ البِشارة. وَهَذانِ دَورانِ مُكَمِّلانِ بَعضُهُما لِبَعض! فلا كَنيسةٌ دُونَ بِشَارة، وَكنيسةٌ بِلا تَنظيمٍ وَرِئاسة، تُضحي فَوضَى واضْطِراب! في نَفس الوَقت، عَلى كُلِّ رَئيسٍ في الكَنيسة وَصَاحِبِ مَسؤُوليّة، أَنْ يَعي جَيّدًا أنَّ الرّئاسةَ والْمَسْؤولِيَّةَ الْكَنَسيّةَ لَيسَت كَتِلكَ الدُّنيَويّة، كبرياءٌ واسْتِعراض وَتَجَبُّر، بَل هي خِدمَةٌ وَعِنَايةٌ وتواضُع، وَما خُفِيَ مِنها أَعظَمُ مِمّا ظَهَر. وَلكي لا يَنسوا ذلك، نَنْصَحُهم بكتابةِ الآياتِ التَّالية فَوقَ أَسرَّتِهم، وَعَلى أَسْطُحِ مَكاتِبِهم:

 

1) ﴿لأنَّ ابنَ الإنسانِ لَم يأتِ لِيُخدَم، بَل لِيَخدُم وَيفدي بِنفسِه جماعةَ النّاس﴾ (مرقُس 45:10)

 

2) ﴿لا تَطمَعوا في الْمعالي، بَل مِيلوا إلى الوَضيع﴾ (رومة 16:12)

 

3) ﴿وَالْبَسوا جَميعًا ثَوبَ التّواضُعِ في مُعامَلَةِ بَعضِكُم لِبعض﴾ (1بطرس 5:5)

 

أَخيرًا، لِنَقُل شيئًا عن تاريخِ هَذا العيد. نَشأَ عيدُنا قُرابةَ العَام 258 ميلادية، جامِعًا أبرزَ قُطْبَين، بطرسَ وبولس، في احتفالٍ واحِد. وَقَد وقعَ الاختيارُ على التّاسعِ والعِشرين مِن شهرِ حُزيران، لِيَحُلَّ مَكانَ عيدٍ وَثني، كان سائِدًا عندَ الرّومان. فَفي مِثل هذا اليوم، كان الرّومانُ يَحتَفِلون بعيدِ الأَخوينِ (Romulus et Remus)، والّلذين يُعتَبَرانِ مُؤسِّسَيّ مَدينةِ روما، مَركزِ الإمبراطورية الرّومانية، سنة 753 قبل الميلاد. فَجاءَ عيدُ بطرس وبولس، إحياءٍ لِذكرى الرّسولينِ العَظيمينِ، الأخَوينِ في البشارةِ وفي الاستِشهاد، مُؤَسِّسَي كَنيسةِ روما!

 

على أَيّام بطرس وبولس بدأَ عَصرُ التّنكيلِ والاضطهاد. وكلٌّ مِنهُما نالَ نَصيبَه! فَنَعم، هُما رأسين في الكَنيسة، ولكنُّهما عُضوَين مع باقي الأعضاءِ أي الْمؤمنين، وَيشتَرِكان في نَفس الْمصير، وهُنا تَكمُن عَظَمَةُ القِيادَة، في القائِد الّذي يكونُ مَع جَمَاعَتِهِ وَبَينَهم، وَحينَ يَلزم يتقدَّمهم في سَاحةِ الوَغى: ﴿فإذا تَألّمَ عُضوٌ، تَألَّمت مَعَهُ سائِرُ الأعضَاء﴾ (1قورنتوس 26:12).

 

نالَ بُطرسُ سُعفةَ الاستشهاد مَصلوبًا بالْمَقلوب، أيّام الطّاغية نيرون، نحو عَام 64 للميلاد. وَدُفِنَ في تلّة الفاتيكان (Mons Vaticanus)، وَالّتي فَوقَها شُيِّدَت بازيليكا القدّيس بطرس. أَمّا بولسُ وَلِكَونِه مُواطِنًا يحملُ الجنسيّةَ الرّومانيّة (راجِع أعمال 25:22-29)، فقد اِستُشهِدَ بِقَطعِ الرّأس، أيّامَ نيرونَ أيضًا نحوَ سنة 65 للميلاد. ودُفِنَ خارِجَ أسوارِ مدينة روما، حيثُ شُيِّدت كنيسةٌ فَوقَ قبرِه. لتكُن شفاعتُهما معنا دائِمًا