موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٨ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٢

عمّاد يسوع

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
ولمّا اعتمد الشعب كلّه، اعتمد يسوع أيضا

ولمّا اعتمد الشعب كلّه، اعتمد يسوع أيضا

 

الإنجيل لوقا 3: 15-22


في عظة آخر كلِّ سنة، جرت العادة المُتَّبعة أن يُقدِّم كهنة الرّعايا، إحصائية مفصَّلة عن رعاياهم: عدد أفراد الرّعيّة. عدد الوفيات، الزّواجات، عدد العمّادات، عدد أواد أول مناولة أو التثبيت، وهذا شيْ حسن ولا انتقاد عليه. لكن ما نلاحظه، وهذا تقريبا في كل رعية، النقص في أعداد المواليد وطبعا في عدد المُعمّدين، الّذي دفع بعض الكهنة، أن يبدأوا بتعيين يوم واحد في الشهر، لمنح سرِّ العمّاد، كما قلت لقلَّةِ المواليد.

 

اليوم تحتفل الكنيسة بعيد عُمّادِ يسوع الّذي تُؤَكِّده لنا الأناجيل الأربعة، سمعنا وصفها اليوم من الإنجيلي لوقا: وبعد أنِ اعتمد كلُّ الشعب، إعتمد يسوع أيضا، وإذا صوتٌ من السّماء يُعلنُه، أنّه ابن الله: "أنت ابني الحبيب! عنك رضيت". فهذا هو الإعلانُ الرّسمي، الذي منه نعرف: من هو يسوع؟ من البداية وإلى النّهاية. لوقا يريد أن يؤكِّد لنا، ما دور يسوع في التّاريخ، وأن نعرف، بأنه في يسوع، وايس في يوحنّا، تمّت كلُّ النّبوآت. يوجنا لم يدَّعِ أنّه هو الن ّبيُّ المُنتظر، با ذاك سيأتي بعدي، وأنا لا أستحقُّ أن أحُلَّ سير نعله. في ذاك النّبي نجد كلَّ الصفات، الّتي ذكرها الأنبياء عنه.

 

هذا تأكيد واضح من الآب، أنه سيقف إلى جانب حياة إينه يسوع الكاملة. وهذا قد تجاوب مع أبيه، حيث في بداية حياته قال: إنَّ غذائي هو أن أعمل إرادة أبي" (يو 34:4) وعند مماته، وقبل أن يُسْلِم الرّوح على الصليب، كانت آخر كلماته: يا أبتي! بين يديك أستودعُ روحي (لو 46:23). وبين هذا الحدث وموت يسوع، أمضى هذا حياته مع الّذين أرسله لهم الله أبوه، أي ليعمّد النّاس بالرّوح القدس والنّار، وبالأخص ليهتمَّ بالمرضى، إذ المرضى، على أنواعهم، هم الذين يحتاجون إلى الطبيب".

 

هذا ولأنّه ادّعى أنّه ابنُ الله، فقد جلب على نفسه غضب روؤساء الكهنة وطالبوا بموته، إذ من يدّعي أنه الله، هومستحِثٌّ الموت: موتاً يموت!. نعم هو مات، لا لأنّه قاوم الإستعمار وثار عليه كالشّعب، فهذا لا مذكور عنه ولا هو معروف، ولكن لأنه لم يَحِد عن الخطّ، وبقي دائما يُدافع عن حقّه ويعترف بأن الله هو أبوه. لذا يذكر لوقا أنه أيضاً حينما كان يصلّي، كان دائماً يناجي الله أباه. فأُعْجِبَ التّلاميذ بهذا النّوع من الصّلاة، وطلبوا منه أن يعلِّمهم كيف يُصلُّوا؟ ومن جديد، وضع أباه كمركز الصلاة: إذ الصلاة هي قبل كل شيء تسبيح الله وتمجيده، قبل أن نبدأ بعرض طلباتنا، وبالتالي نشكره على ما يُنعمُ به علينا.

 

قلت: الكنيسة ،التي احتفلت قبل أسابيع قليلة، بعيد ميلاد يسوع، تحتفل اليوم بعيد عمّاده. وهذا يُذكِّرُنا بعمادنا الشخصي. فماذا نفهم تحت كلمة عُمّاد، وما هي مفاعيله لحياتنا؟. حتّى نفهم العمّاد، علينا أن نعود بالتاريخ إلى قصّة الخلق وسقوط الإنسان في الخطيئة، التي أُغْلَقَت باب السّماء في وجهنا. أمّا السّماء في التوراة، فهي ليس فقط إسم، بل تعني العلاقة مع الله. فلن يتمَّ فتحُ باب السّماء المُغلق من جديد، إلا بإرسال المُخلِّص الموعود، وهو سيُعيد لنا علاقتَنا مع الله الآب، وسيُعلِّمنا ماذا علينا أن نفعل، كي تبقى علاقتنا معه دائمة ومتينة.

 

إذن بمجيء المخلّص، أي بميلاده، ابتدأت حياة جديدة بين الله والبشر. لكن لكي نشعر بحقيقة هذه العلاقة، فقد ربطها يسوع بعلامات خارجية، تؤكِّد ما تعني. منها: قبول الأسرار التي ما كانت موجودة ولا معروفة. لكن مفعولها كبير جدّاً لنفوسنا، إذ هي تضع نعمة الله فينا، أو تجدِّدًها، حسب الأسرار الّتي نقبلها، في كلِّ مراحل حياتنا. فقبولها من الكنيسة، يعني علامة ارتباط حقيقية مع الله. ففي صلاته الكبيرة، قال يسوع: لقد أتيت لكيما تكون لكم الحياة الأبديّة، وتكون بوفرة. فالأسرار تعيد لنا هذه الحياة، التي كنا فقدناها بالخطيئة، كما تقول الصلاة قبل العمادك لنصلِّ إلى الله  من أجل هذا الطفل، حتى يمنحه الله من ماء العماد ومن الرّوح القدس حياة جديدة. هذه الحياة عناها بولس حينما  قال: الآن لست أنا الحي، إنّما هو الحيٌّ فيَّ.

 

أول هذه الأسرار، هو سرّ المعمودية، التي يُذكِّرُنا بها عيد اليوم، أي عيد عماد يسوع. الإحتفال بهذا العيد كان دائما معروفا، لكن نقله إلى يوم الأحد الواقع مُباشرة بعد السادس من شهر جنيووري، أي يوم عيد الغطاس، الّذي هو في الوقت نفسه تاريخ عيد الميلاد في الكنائس الشرقية، فقد جاء، بعد تجديد الطّقوس الليتورجية، الذي حدث بعد المجمع الفاتيكاني الثّاني. والآن ما هو العمّاد؟

 

العمّاد هو بداية الحياة كمسيحي، وكعضوٍ في جسد المسيح السرّي. بالإختصار هو بداية طريق الإيمان. فهو ولادة جديدة، أي علاقة جديدة مع الله. فكما أنّ يسوع ابتدأ حياته العلنيّة بالعمّاد من يوحنا المعمدان، وعرَّف عليه صوت من السّماء يقول: "أنت ابني الحبيب! عنك رضيت" فهذا هو مفعول العمّاد الأوّل، أي أنه يجعلنا نصبح أبناء الله بالتّبنّي، كما يقول بولس (غلا 4: 5-7) وهذا يعني بكامل حقوق الوراثة: إن كنّا أيناءً، فنحن ورثة، كالإبن الحقيقي. ففي طقس المعمودية، عندما يمسح الكاهن جبين المُعمَّد الجديد، يقول له: أنت ليس فقط أصبحت ابنَ الله، بل أنت ابنُ الله، من بعد غسلك بماء العماد وحلول الرّوح القدس فيك. ودلالة على ذلك، أمسحك بزيت الميرون، فأنت كاهن وملك ونبي!

 

 فهذا السرّ يُدخِلُنا في حضن العائلة الإلهيّة الكبيرة، التي هي كلُّ جماعة المُعمّدين في العالم. فبقبول المعمودية تصيرُ حياتُنا مِرآةً حيّة منظورة، لحياة يسوع الغير منظور في هذا العالم. نعم نحن هيكل الرّوح القدس، الذي تسكن فيه محبّة الله، التي توكَلُ إلينا كي نذهب ونُبشِّر، لنربح النفوس له. إذن صدقت الصلاة التي تقول: أعطِ للإنجيل وجها! إذ يسوع ما له يد في هذا العالم سوى أيدينا. يسوع ما له قدم في هذا العالم سوى أقدامنا. يسوع ما له عين في هذا العالم سوى عيوننا. فنحن إذن سفراؤُه وممثِّلوه المنظورين في هذا العالم. فكما في المسيح ظهرت محبّة الله لنا، كذلك في حياتنا كإخوة ليسوع، يجب أن نُظهر محبة الله للعالم من حولنا. إذ كما قال الرهبان النسّاك: من ربح أخاً فهو ربح الله. فليكن هذا هدف حياتنا، نحن المًعمَّدين.

 

أما مادة العماد الخارجية، المحسوسة المنظورة فهي الماء، إذ الماء هو علامة النّظافة الخارجية، وهذا معروف بكل الدّيانات، فمثلا في اليهوديّة والإسلام يجب الإغتسال قبل الدّخول الى الهيكل والتكلّم مع الله. وفي الهند هناك نهر مقدّس، يتحمّم في مائه الباردة في يوم محدّد كلٍّ سنتين، ملايين الملايين من البشر، علامة تنظيف آلهتهم لخطاياهم. أما مفعول العمّاد الدّاخلية، أي نظافة النفس بنعمة الله، فهي ما لمّح عنها جنانيا لبولس حين ارتداده: " والآن لماذا تتوانى؟ قم واعتمد واغسل خطاياك، داعياً إسم الرّب" (أع 16:22) لذا مارست الكنيسة طقس المعمودية في مياهٍ جارية، كانت تُرشُّ على رأس المعمّدين لتتابع طريقها، أي كأنّها حملت وسخ الخطيئة بعيدا عن المُعمَّدين، وهذا معروف منذ القِدَم، وللتوضيح أذكر التّالي: في مدينة الآثار الرّومانية في الأردن، وهي مدينة جرش وجد منبّشوا أثارها 13 كنيسة، مرتبطةً بعضُها ببعض، بعلامة داخلية. هذه العلامة هي مجرى ماء واحد. تبدأ بالكنيسة الكاتدرائية التي تحتوي على مجرى نبع ليس بعيدا، أول ما تصبُّ مياهه في جرن معموديَّة الأسقف، أوصلها بمجرى ماء واحد إلى ال 13 كنيسة، ليدلّ على أن ماء المعمودية واحد، ولكن الأهمّ من ذلك، هو ارتباط جماعة المُعمًّدين بنفس نعمة المسيح التي تُطهِّرُ النفوس من وباء الخطيئة: واعتمد كلُّ الشّعب!. هكذا تتكوّن العائلة المسيحيّة الواحدة، أفرادُها هم كلُّ مُعمّد على وجه الأرض: إذهبوا وبشِّروا جميع البشر  وعمّدوهم باسم الآب والإبن والرّوح القدس.

 

الآن نعلم أن مجيء يسوع على الأرض لم يكن باطلاً. بل قد جعل لنا من حياته مثلا حيّاً نقتدي به: تعلّموا منّي أنّي وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لأنفسكم، إذ أنا الطريق والحق والحياة، فمن تبعني لا يرى الظّلام أبدا. المعمودية، بكل مفاعيلها، لا تسدُّ عن تعاوننا مع نعمة العمّاد، بل أن نسعى، أن تجلب الوزنات فينا ثمارا صالحة، ونستحق الحياة الأبدية. لقد كنت أمينا على القليل، فادخل إلى فرح ربك.