موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٩ يوليو / تموز ٢٠٢٢

عظة الأحد الخامس عشر من زمن السّنة العادي

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
عظة الأحد الخامس عَشَر من زمن السّنة العادي

عظة الأحد الخامس عَشَر من زمن السّنة العادي

 

كُلَّمَا صَنَعتُم شَيئًا مِن ذلِكَ لِواحِدٍ مِن إخوَتي هؤلاءِ الصّغار، فَلي قَد صَنَعتُموه

 

أَيُّها الأَحِبَّة، هَذا الْمَثَلُ الّذي تَضعُهُ لَنا الكنيسةُ في الأحدِ الخامسِ عشر مِن زَمنِ السَّنة، هوَ مَثلُ السّامريِّ الصّالِح أو السّامريِّ الرَّحيم! والصَّلاحُ والرّحمةُ صِفَتَانِ مِن صِفَاتِ الله! والسّيدُ الْمسيح دَعَانا أَنْ نَتَمثّلَ بِصِفَاتِ اللهِ أَبينَا، فَفيهِ تَبلُغُ الصِّفَاتُ تَمَامَها دُونَ شَائِبةٍ أو نُقصَان! فاللهُ مَنبَعُ الهباتِ الصّالِحة، مِنهُ نَستَقي وَنَتَعَلَّمُ وَنَستَنير.

 

فَهَا نحنُ نَسْمَعُهُ يَدعونا إلى الكَمالِ قائِلًا: ﴿كونوا أَنتُم كَامِلين، كَمَا أَنّ أَباكُم السَّماويَّ كَامِل﴾ (متّى 48:5). ثُمّ يَدعُونَا إلى الرَّحمَةِ قَائِلًا: ﴿كونوا رُحماء، كَمَا أنَّ أباكُم رَحيم﴾ (لوقا 36:6). وَعَلى لِسَانِ رَسُولِهِ بُطرس، يُخاطِبُنا قائِلًا: ﴿كَمَا أنَّ الّذي دَعَاكُم هو قُدّوس، فَكَذلِكَ كُونوا أنتم قِدّيسينَ في سِيرتِكُم كُلِّها﴾ (1بطرس 15:1). واليوم، مِن خِلالِ مَثَلِ السّامري، يَحُثُّنا على انْتِهَاجِ الرَّحمةِ وَالصَّلاحِ، نحوَ بَعضِنا البَعض، لأنَّ: ﴿الربَّ صَالِحٌ، وَلِلأبَدِ رَحمَتُهُ﴾ (مزمور 5:100).

 

هَذَا السّامريُّ كَانَ مُسَافِرًا، وُربّما كَانَ عَلى عَجَلَةٍ مِن أَمرِه، وَمع ذَلِكَ نَراهُ يَقِفُ عَن الْمَسير، مُلْتَفِتًا إلى حَاجةِ أَخيهِ الإنسانِ، قَريبِهِ في الإنْسَانيّةِ الْمُشتَرَكة، الْمُصَابِ والْمَتروكِ وَحيدًا، مُتَحَنِّنًا عَليه ومُعْتَنِيًا بِهِ! وَهَذَا يَنْقُلُنا إلى صِفَةٍ إلهية أُخرَى أَلا وَهي الحَنَان! فَفي الْمزمورِ الثّالِثِ وَالعِشرين بَعدَ الْمِئَة، نسمَعُ صاحِبَ الْمَزامير يُناجي اللهَ قائِلاً: ﴿تَحنَّن عَلينا يا رب، تَحنّن عَلينا﴾ (مزمور 3:123). فَكُلُّ إِنسانٍ مُعذَّبٌ وَمُتعَب، مُصَابٌ وَمَتروك، وَحيدٌ وَمُثقَل بِالهموم، يَبحَثُ عَن حَنَانِ رِبِّه، يَلتَمِسُ مِن لَدُنِه عَزاءً يُبَلسِمُ جِراحَ نَفسِه! واللهُ اِفتَقَدَ هذا الْمصاب، في شَخصِ السّامريِّ الرّحيم!

 

لِذلِك يا أحبّة، العَزاءُ والرّحمةُ الّتي نَلتَمِسُها مِن الله تَعالى، هي نِعمَةٌ تُعطَى ولا تُكْتَنَز، تُمنَحُ ولا تُدفَن! فَالسَّامِريُّ الْمُؤمِنُ برحمةِ الله، كَانَ قَادِرًا بِدَورِهِ أَن يَكونَ قَنَاةً لِرحمةِ رَبّه، لِذَاكَ الرّجُلِ الْمسكين. وهذا مَا ينقُلُنا إلى كَلماتِ بولسَ الرّسول، في رسالتِه الثّانية إلى أهل قورنتوس: ﴿تَباركَ اللهُ أبو ربِّنَا يسوعَ الْمسيح، أبو الرَّأفَةِ وإلهُ كُلِّ عَزاء. فَهوَ الّذي يُعزِّينا في جَميعِ شَدائِدِنا، لِنستطيع بِما نَتَلقّى نحنُ مِن عزاءِ مِن الله، أن نُعزّي الّذين هُم في أيّةِ شِدَّةِ كانَت﴾ (2قورنتوس 3:1-4).

 

هَذا السَّامريّ لَم يَبحَث في عَقيدةِ أَو طَائِفَةِ أَو هويّةِ أَو شَكلِ هذا الرّجلِ الْمُصاب! أَسْعَفَهُ لأنَّهُ إنسانٌ يَحتاجُ إلى إسْعَاف. كَم هو جَميلٌ وإنْساني عِندما نَرى الْمَسيحيين يَتعامَلونَ مَع بَعضِهم البَعض بِعقليّةِ هذا السَّامري، مُتَخَطّينَ الحواجزَ بينَهم، في سبيلِ عَمَلِ الْمَحبّةِ الْمُشتَرَكة! وَكم هو مُؤسِفٌ وَمُؤلِم، تِلكَ الخِطاباتُ والْممارَساتُ الضّيقة، الْمُنْبَعِثَةُ وَالنّابِعةُ مِن مَشاعِرَ طَائِفيّة مُنْغَلِقَة، تحكُمُ عَلَى الإنسانِ الّذي يحتاجُ لِنَجدَةٍ وَإِغَاثَة، مِنْ مَبْدَأٍ طَائِفيٍّ قَبيحٍ وكَريه، وَلَيسَ مِن مَبْدَأٍ إِنسانيٍّ صَالِح ورَحيم!

 

لِذلك جوابُ السّؤالِ الّذي طَرَحَهُ عَالِمُ الشّريعة على الْمسيح: ﴿مَن قَريبي﴾؟ جوابٌ مُتَعَدِّدُ الخيَارات! هُنَاكَ قَرابَة عَلى أَساسِ الدّمِ والعَشيرة، عَلى أَساسِ الطّائِفَةِ وَالدّين، عَلى أَساسِ الجِنسِ وَالعِرق، على أساسِ الأصلِ والْمَنبَت، على أَساسِ الوَطنِ والقَوميّة، على أَساسِ الفكرِ والإيديولوجيّة. وَهَذهِ القَرابَات الّتي يَضَعُها النّاس، هَدَفُها تَقسيمُ النَّاسِ فِئَاتٍ وَطَبَقات! أَمّا الْمسيح، في مَثَلِ السّامري، يَتَخَطّى كُلَّ هَذهِ الأُطُرِ الضَّيقَة، ويَمضي بِنَا إلى ما وَراءِ الأفُقِ الْمرئيّة، لِيُعَلّمَنا بِإنَّ القَريبَ هوَ الإنْسَانُ كَإنْسَان، صَديقًا كانَ أَم عَدُوًّا!

 

هذا السامريُّ كَانَ رَجُلًا عَادِيّا، لَم يُعطِهِ الْمسيحُ أيّ صِفَة، بخلافِ الكَاهِنِ والَّلاويّ! هذا السَّامريُّ البَسيط، رَاعَى وعَمِلَ بِالشّريعَةِ أَكثرَ مِن حَافِظيهَا والْمُؤتَمنينَ عَلَيهَا! فَمَا هوَ مُتَوقَّعٌ مِنَ الكَاهنَ والّلاويّ، هوَ أنْ يَقُومَا بِنَجدةِ الرّجلِ وَإِسْعَافِه، اِنطلاقًا مِن صِفَتِهِما وَمَكَانَتِهِما الدِّينيَّة، وَلَكنَّهُما عِوَضًا عَن ذلِك، يميلانِ عَنهُ وَيَتركَانِهِ، دَونَ أَن يَصْنَعَا لَهُ رَحمةً، كَمَا تَقضي الشَّريعةُ الّتي يَتبعانِها!

 

اِسْمعوا ما يقولُ الرّبُّ عَلى لِسانِ نَبيّهِ هُوشَع: ﴿إنَّمَا أُريدُ الرَّحمةَ لا الذّبيحة﴾ (هوشع 6:6). وانْظُروا إلى أعمالِ الرّحمة الّتي صَنَعَها السّامريُّ نحوَ الرّجل الْمصاب: أَوّلًا، رَآهُ فَأشفَقَ عليه، ثانيًا، دَنا مِنهُ وَضَمدَ جراحَه. ثالِثًا، طَهَّرَ جِراحَهُ بالزّيتِ والخَمر. رابِعًا، حَملَهُ على دَابّتِه، وسارَ هو. أَخيرًا، ذَهبَ بِه إلى فُندقٍ، وَدفعَ عَنهُ الأُجرَة، مُتَعَهِّدًا بِسَدادِ كُلِّ مَصَاريفِ عِلاجِه!

 

هَذِهِ هي الرَّحمةُ الّتي يَطلبُها اللهُ مِنّي وَمِنك! فَعنَدما نَسمَعُهُ يقول: ﴿إنَّمَا أُريدُ الرَّحمةَ لا الذّبيحة﴾، فَهَذَا يَعني أنَّ صلواتِنا وعباداتِنا وطقوسَنا وممارساتِنا الدّينيّة، إنْ لم تَصْطَبِغ بِصبغةِ الرّحمة، كانَت جميعُها غَيرَ مرضيّةٍ وَلا مقبولَةٍ عندَ الله! لا أَعتقِدُ أنَّ اللهَ يَنتَظِرُ مِنكَ إضاءَةَ رُزمَةِ شُموع، أمامَ شَخصِ العَذراء، وَأَنتَ تَزدري الْمُحتاجَ ولا تَلتَفِتُ إلى الْمعوَز! هَذهِ كُلُّهَا مُمارَسَات بِلا قِيمَة، إنْ لم يُصاحِبهَا رَحمة حقيقيّة، شَفَقَة، رَأفَة، حَنَان، إحسان، عَطف، رِفق، ليونَة، لُطف، مودّة، وَعِناية! لا يُعقَل أن نَرفعَ الأيدي، وَنردِّدَ الصَّلَوات، ونُضيءَ الشُّموع، وَنَتَقرّبَ مِن الْمَائِدة الْمُقَدّسة، وعند الخروجِ من القُدَّاس، نَشتمُ فُلانُ وَنَتَمَنّى السّوءَ لِفُلان وَنُسيءُ لِفُلان، في تصرّفات تَخلو من الرّأفةِ والشّفَقة! هَذا نِفاق وَلَيسَ عِبَادة!

 

لَيس ذلك فَحسب، بَل أنَّ السّامريّ كَانَ شَهمًا وقادِرًا على الانفاقِ في سَبيلِ الخير، فَأخرجَ دينَارَين مُتَكفِّلًا بَبذلِ الْمزيد إن اقتَضى الأمر! فَالرّحمةُ أَيضًا تَعني كَرَم وَعَطاء حَيثُ لَزِم! أَمّا البُخلُ فَهوَ عَدوُّ الرّحمة. البَعضُ يُنفِق عَشرات ومِئات وآلاف الدَّنانير عَلى كَمَاليّاتٍ وأدوات وَرَفاهيّةٍ وَشَراب وَطَعام، في مولات عَمَّان وغيرِها. أَمَّا عِند نِداءِ الخير، يَغُلُّ يَدَهُ وَيقبِضُها وَيَتَوَارَى وَيَشكو قِلّة ذاتِ اليَد! وَإنْ أَخرَجَ عشرَةَ قُروشٍ مِن جَيبِه، لا يَنَامُ تِلكَ الَّليلة، أَو تُصيبُهُ حُمّى!

 

صَحيح أَنَّ اللهَ فَاحِصُ القلوبِ والكُلى. ولَكن، مِن خِبرتي ومُشاهدَتي، هناكَ أَمور ظاهِرة، تُشعِرني كَم نَاقصةٌ هي الرّحمة مِن حَياتِنا وممارساتِنا وأعمالِنَا. لِذلك، أَقولُها ولا أَحكُمُ عَلى أحد: إنَّ مُعظَمَ عِباداتِنا وصلواتِنَا هي مثلَ ذَاك الكاهن والّلاوي! مُجرّد قشور، خَالِيَة من الرّحمَة وَالرّأفَةِ وَالعَطاءِ والْمحبّة. نَدَّعي مَعرفَةَ الله، وَنَحنُ لا نَدري عَن القريب شيئًا! وكَمْ أَخشَى أَن تَنطبِقَ عَلى حَالَةِ البَعض، أَقوالُ الأنبياء: ﴿هَذَا الشَّعبُ يَتَقرَّبُ إليَّ بِفَمِهِ، ويُكرِمُني بِشَفَتيه، وَقَلبُهُ بَعيدٌ مِنّي﴾ (أشعيا 13:29).

 

إذا، ﴿مَن قَريبي﴾؟ في كُلِّ عَمَلِ رَحمة تَصنَعُه، ضَعْ الْمَسيحَ نُصْبَ عينيك، فَأَنتَ تصنَعُ للمسيحِ ولأجلِ الْمسيح فَقط. وَهذا هو قريبُكَ! أَليس هوَ الّذي قال: ﴿كُلَّمَا صَنَعتُم شَيئًا مِن ذلِكَ لِواحِدٍ مِن إخوَتي هؤلاءِ الصّغار، فَلي قَد صَنَعتُموه﴾ (متّى 40:25)