موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٣ مارس / آذار ٢٠٢١

طَعَامي أن أعمل بمشيئةِ الّذي أَرسَلَني، وأن أُتِمّ عَمَلَه

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
ما أشدّ العمى الّذي كان في قلوبِهم، ظلام لا تجد له مثيل!

ما أشدّ العمى الّذي كان في قلوبِهم، ظلام لا تجد له مثيل!

 

أيّها الإخوة والأخواتُ الأحبّاء في المسيحِ يسوع. قبل أن نُودّعَ زمنَ السّنة العادي، حيثُ ننتقلُ مع يوم الأربعاء القادم، إلى رحاب الزّمن الأربعيني، إلى أحضانِ بريّةِ الصّومِ والتّوبة. وقبلَ الانتقالِ إلى ذلك الزّمنِ الأحب على قلوبِنا، والأغنى بالخبراتِ الرّوحية الكَثيفة، نقرأُ سويّة إنجيلًا آخر يعبّر عن ذلك الصّراع المستديم، الدّائرِ رحاهُ بينَ المسيح وبينَ فئات اليهود المختلِفة.

 

وكمراجعة سريعة، (رؤوس أقلام) كَمَا اعتادَت وَالِدَتي أن تُسَمّيها وهو تُعيد لي الدّروس في البيت، لمجريات الأحداث، فقد حصلَ جدالٌ أَوّل حول شريعة الصّوم، ثمّ تَبِعَه جدالٌ آخر حولَ شريعةِ السّبت. هذان الجِدَالان كَانا بسبب مخالفاتٍ اِرتَكبَها التّلاميذ. أمّا اليوم فنرى اتّهامات تطالُ المسيحَ نفسه. فالأوّل اتّهامٌ يوجِّهُه له الأقارب، إذ كانوا يرون فيه رَجُلًا فاقِدَ الرُّشد، والآخرُ اتّهامٌ يَرميه به كَتبةُ اليهود، الّذين لم يروا فيه سوى بعل زبول، سيّد الشّياطين يَطرُد الشّياطين!

 

أَنا لا استغرِب سيلَ الاتّهامات والانتقاداتِ الجارف، الّتي كان بها مَعشرُ اليهود يكيلون ويقذِفونَ المسيح. ولكن ما يُثير عَجبي أكثر، أن أرى بعضًا من ذَويه يخرجونَ لِيُمسِكوه، لأنّه فاقِدُ الرّشد، أي مختل العَقل! لا يدري ماذا يقول وما يصنع! أن تأتيكَ الْمَذمّةُ من خارجِ دائرة المقرّبين، هو أمرٌ مُعتاد ونسبةُ حُدوثِه عالية. أمّا أن تأتيكَ المذمّة من أقربِ النّاس إليك، والّذين يُفتَرض بهم أن يقفوا إلى جانبِك، وتتوقّع منهم الدّعمَ والمساندة، فهو أمرٌ أقلّ اعتيادًا، ولكنّه جائِز ويحدُث!

 

ونحنُ نَعلم أنّ المسيح لَم يكن ساذِجًا، (غايب فيله) كما نقول في الدّارج. بَل قد حَذّرنا من انقلابِ الأقربين وَتَألّبِهم، بشكل واضحٍ وصَريح. أَفلا تَذكرون عندما قال، في إنجيلِ متّى: "فيكونُ أعداءُ الْمَرء أهلُ بَيتِه" (36:10). والمقصود بالعَداوة هنا هي كلّ موقف أو تصرّف، من شأنِه أن يُشكّل حاجزًا لِعَمل النّعمة، أو مانِعًا وحائِلًا يحول دون الإيمان. وهو ما أشار المسيحُ إليه أيضًا حين قال: "سَيُسلِم الأخُ أَخاه إلى الموت، والأبُ ابنَه، ويثور الأبناءُ على والِدِيهم، ويُبغِضُكم جميع النّاس من أجلِ اسمي" (متّى 21:10-22)

 

فَفي عَملِهم هذا، يأتي هؤلاء صَنيعًا من شأنِه أن يُعرِقل البشارة ومسيرة الإيمان. فهم يحاولون منعَ يسوع عن التّبشير، وأن يُمسِكوه بمعنى أن يُقيّدوه عن عمل الملكوت وإتمامِ كلّ بِر. ولذلك هم أعداءُ مَشيئتِه تَعالى، إذ لا يريدون لعمل الله أن يُنجَزَ ويتم.

 

وحتّى لا نظلم أولئِك الأقربين كثيرًا، دعونا نُجري نوعًا من التّحليل المَنطِقي، لِنفهم ما الّذي أدّى بِهم إلى اتّخاذهم هذا الموقف، والّذي يُدرَج ضمنَ المواقف العدائية تجاه يسوع. ربّما خافوا من ضَرر قد يُلحِقُه بهم الفرّيسيون والكَتبة ووجهاء اليهود، الْمُعادين ليسوع. فَهُم كَأصحابِ نفوذٍ وسلطة، يمكنهم أن يُلحقوا بذويه شرًّا وضَرَرًا، وأن يُجيّشوا النّاسَ وَالرّأي العام ضِدَّهم، فأُجبِروا قسرًا وكُرهًا، على اتّخاذ هكذا خطوة تَظلُّ مُستهجَنة.

 

تمامًا كما يحدث في بعض الجرائم المروّعة، والّتي بهدف التّخفيف من وَقعِها المجتمعي، مباشرة يُقال أنّ مرتَكبها مختل عقليًّا وغير مُدرك، مع أنّه يكون بكامل قواه العقلية، أو أنّه تحت تأثير مخدّر أو مُسكِر، أو تَتَبرّأ منه العائلة والعَشيرة والجماعة...إلخ. نحاول إيجاد التّبريرات والمخارِج، لِننفذَ بجلدِنا من الغضب المجتمعي العارم. وربّما يكون هذا أحد الأسباب الّتي دَفعت أقارب المسيح، لِتبنّي هذا الموقِف المُستغرَب.

 

ولكنّ، ما يهمّنا أكثر هي المعاني الجديدة الّتي يُعطيها يسوع للمفاهيم. فكما أنّه قَد أعطى مفهومًا جديدًا للصّوم وللسّبت، فكذلك اليوم، هو يُعطينا معنى جديدًا وأوسع وأشمل للقرابة والتّرابط الأُسَري. معنى يتخطّى الأفكار الضّيقة، أو الرّؤى المحدودة، أو العصبيّات العشائريّة أو القَبَليّة أو المناطِقيّة، أو القوميّة أو العرقيّة.

 

أُسرتي، عائلَتي، قَريبي هو كلّ مَن يعمل بمشيئة الله، "لأنّ مَن يعمل بمشيئة أبي الّذي في السّموات هو أخي وأُختي وأمّي" (متّى 50:12). الأُخوّة الحقيقيّة ليسوع المسيح، والبنوّة الصّالحة لله هي العمل بإرادتِه تعالى، ذلك أنّ: "طَعامي أنْ أعمل بمشيئةِ الّذي أَرسَلَني، وأن أُتِمّ عَمَلَه" (يوحنّا 34:4)

 

لذلك، أن تَحيا إرادة الله في حياتِك فهذا عملٌ صالِح وشرفٌ عَظيم. ولكنّه في نفس الوقت، يتطلّب منكَ الاستعداد والجهوزيّة، لكلّ ما هو متوقع من غير المتوقّع، فلا شيء مُستبعد عندما تعمل مع الله ولأجل الله. يتطلّبُ منكَ الاستعداد لأن تكون مُحارَبًا ومُضطَهَدًا ومُقاوَمًا، كما قاوموا المعلّم من قبلِك. يتطلبُ منك صلابةً وفي نفس الوقت مرونةً، حتّى لا تَتَلاطَمك الأمواج ولا تَكسرك الرّياح.

 

فَمَشيئة الله مُحَارَبَةٌ في حياةِ أبنائِه وبناتِه، الّذين يحاولونَ عَيشَ إرادته: "بلا لومٍ ولا شائِبة وبِلا عيب، في جيلٍ ضالٍّ فاسِد، نُضِيءُ فيه ضياءَ النّيرات في الكون" (فيلبّي 15:2).

 

أُريد أن أعودَ سريعًا لِلتّهمة الّتي ألصقَها الكتبةُ بالمسيح، إذ وَصَفوه بأنّه بعل زبول سيد الشّياطين، أو سيّد الأقذار أو سيّد الذّباب، كما يعني الاسم الكَنعاني! وبالمناسبة منه أتت الكلمة العربية (زبالة) لوصف الأوساخ.

 

ما أشدّ العمى الّذي كان في قلوبِهم، ظلام لا تجد له مثيل! يرون الخيرَ الّذي كان يُجريه يسوع، ثم يرمونَه بأشنعِ العبارات ويَصفونَه بأبشع الأوصاف! يسوع المسيح كان يعمل مشيئة الآب، وهم لم يَروا فيه سوى سيد شياطين! هؤلاء الأشخاص هم الّذين كانوا فاقدي الرّشد، مختلّين ليس فقط في عقولِهم، إنّما مُصابين بداءٍ ووباءٍ في أَرواحهم، إذ لا يستطيعون أن يروا عمل النّعمةِ والصّلاح، إلّا وَذَمّوه وانتقدوه وعابوه وانتقصوا منه!

 

أن ترى عملَ الله يجري الآن وهنا، وأنتَ تحاول أن تُعرقِلَ سيرَ العمل، وتُسيءَ القول فيه! مع كلّ أسف، تلك فئات نُصادِفها، نتعامل معها، تُتعِبُنا جسديًّا وتُرهِقُنا معنويًّا. ولكنّنا في الله نحتمل ونَصبر ونظلّ مواظبين على صنع الخير، إذ أنّه: "خيرٌ لَنا أن نتألّمَ ونحن نعمل الخير، إن شاء الله ذلك، مِن أن نتألّمَ ونحنُ نعمل الشّر" (1بطرس 17:3)