موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٦ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢١

طوبى لِفُقراء الرّوح

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
طوبى لِفُقراء الرّوح

طوبى لِفُقراء الرّوح

 

عظة الأحد الثّاني والثّلاثون - ب

 

إنجيلُ اليوم يحمِلُ صيغةَ مُقارنةٍ فاضِحة، بينَ فِئتين من فئاتِ المجتمعِ اليهودي: فئةِ الكَتبة، وهم مِن صفوةِ المجتمعِ آَنذاك، مُتَنفّذين أصحاب سلطةٍ، يَتَحكّمونَ في شؤونِ النّاس. وفئةِ الأرامِل، الّتي تُمثّلُ الفئاتِ البَسيطة والْمُستَضعَفة، الّتي لا حولَ لها ولا قوّة، أَمام جَشعِ الصّفوة الّتي تأكلُ بيوتَها، عوضًا عن مُساعَدَتِها ونُصرَتِها!

 

وَهَذا يدلُّ على أنَّ الْمجتمعاتِ الإنسانية بشكلٍ عَام، مَهما بَلَغَت من درجاتِ الْحضارةِ والْتّمدُّن، وحتّى التَّديُّن، وبالرّغمِ مِن كلِّ ما صَاغَتهُ من قوانين وتَشريعات، تَظلُّ مُجتمعاتٍ تَعشقُ الطَّبقيّة والتّمييز، حَيث لا مساواة ولا عَدَالة، قَابلة لإلحاقِ الظُّلمِ والأذى، وتَغييبِ العَدالة، وسَلبِ الحقوقِ وهَضمِها، وانتهاكِ كَراماتِ أَفرادِها الضُّعَفاء!

 

يسوعُ اليوم يجلِسُ أَمامَ خزانةِ الهَيكل! والجلوسُ مظهرٌ من مَظاهرِ الحُكم والإدانة. ينظرُ ويرُاقِبُ كيف يضعُ النّاسُ شيئًا من أموالِهم في هذهِ الخزانة، والّتي تُشكّل مورِدًا يرفدُ خزينةَ الهيكل الْماليّة. ينظر المسيح مُراقبًا التَّبايُن بين النّاس. فُهَناكَ من يضعُ الكَثير، من الفاضِل عَن حاجاتِهم. وهناكَ أرملةٌ تَضعُ فلسًا واحدًا، جميعَ ما تَملِك!

 

يُمكِنُنا أن نَتَخيّلَ مَعًا صوتَ النّقودِ النُّحاسيّة وهي تَرتطِمُ بأرضيّةِ الخزانة، مُحدِثةً رَنينًا يَشدُّ انْتِباهَ النّاس، ويجعلُهم ينظرونَ إلى الشّخصِ الّذي وَضَعَ هذهِ النّقودَ الكثيرة، مَن تراه يكون! "هؤلاءِ أخذوا أجرَهم"، فَلَيسَت شمالُهم فَقَط من عَرَفَت ما فَعَلَت يمينُهم، بل هم يَبحثونَ عَن تَبجيلِ النَّاسِ لهم، وَتَعظيمِ شأنِهم، والحصولِ على الرِّفعةِ الْمُجتَمَعيّة.

 

أَمّا تِلكَ الأرملة الفَقيرة، فَوَضَعت قُوتَ يَومِها! لِماذا يجبُ عَلَيها أن تضعَ في الخزانة كلَّ رِزقِها؟ هي فَقيرة، وأيضًا أَرمَلة، بالتّالي لا مُعيلَ لها على ما يَبدو. ومَن يَدري، إنْ كانَت قَد عَادَت إلى بيتِها، ولم تَجِد شيئًا لِتَأكُلَه ذاكَ الْمساء! أَلَيس الأولى، أن تَقومَ الخزانةُ ومن يُدير أمورَها، بُمساعدتِها لا بالأخذِ مِنها؟! لِماذا لا يوجد عَدالة في توزيعِ الخيرات؟! لِماذا يهلكُ الملايين جوعًا وفقرًا، والطّعام يفيضُ ويُرمَى عن موائِد الأغنياءِ؟ لماذا يَبيتُ أصحابُ السُّلطةِ على أَسرِّةٍ وَثيرة، وبعضُ رعاياهم يَفترشونَ الأرضَ القاسية؟!

 

هذان العُشران أي الفَلس، كانَ لهما قيمةً أكبر عندَ يسوع! فالعِبرةُ لَيسَت في مِقدارِ العَطاء، إنّما هي في نِيّةِ الْمُعطي، وفي أسلوبِ العَطاء. فَكم من العطايا هي عطايا مَربوطة، لِغايةٍ في نَفسِ يعقوب، وَلَيسَت عطايا حُرّة! فليسَ الكُلُّ يُعطي بمجّانيّة. رُبّما كانَ لِهباتِ النّحاس وَقعٌ أكبر في نفوسِ سَامِعي رنّاتِها، ذلكَ لأنَّ النّاس بِشَكل عام يَعشقون المظاهر والمجاملات، فهذا نوعٌ من (البريستيج الاجتماعي)، وَيَستَميتون لِنَيلِ التّوقيرِ من بعضِهم البعض.

 

وَلكنَّ ذلِكَ في نظرِ يسوع، كانَ أقلّ قيمة مِن عُشرينِ، يَكفيانِ فقط لشراءِ عُصفورَين: "أَمَا يُباعُ عُصفورانِ بفَلس؟" (متّى 29:10). فيسوعُ كانَ ينظر إلى بواطِنَ النّاس، عالِمًا بحقيقةِ نَواياهُم، ومُقدِّرًا القيمَةَ الفِعليّة لكلِّ إنسان، مُجرّدًا عن أَملاكِه وأموالِه.

 

نحنُ البَشَر كائِناتٌ مَادّية، مَرتبطون ارتباطًا لصيقًا بِعالم المادّة، ولا يَفصِلُنا عنه سِوى الْموت! والْمثل الشّعبي البَشع، القائِل: ((قُل لي كَم مَعك، أقول لكَ كم تُساوي))، يُعبّر عن عَقْلِيَّة مَادّية، تَحُّط من قيمة الإنسان، وتربِطُ منزِلَتَهُ بقيمة المادّة. وَيَنسى الإنسان أَنّه أسمى من الْمادة، مخلوقٌ على صورةِ اللهِ ومثاله (راجع تكوين 27:1)، وفيهِ نفخةٌ من روحِ الله (راجع تكوين 7:2)، إذ "دونَ الإلهِ حَطَطتهُ قَليلًا، بالمجدِ والكرامةِ كَلَّلتَهُ" (مزمور 6:8). فَبَدلًا من أن نَرفعَ من قِيمَتِنا بارتباطِنا باللهِ خالِقِنَا، نحطُّ مِنهَا عندما نُعلّقُ أَنفسَنا بالمادّة.

 

فَعَلَى سَبيلِ الْمثال، عندما نُريد إِهانةَ شَخصٍ، نقول: ((ما بِسوى تعريفة)). فَحَتّى مَبدأ التّبخيس والتّعظيم مُرتبط بالمادّة، بالمال، بالأملاك. أحيانًا، يُعَظَّم فلان، وَحولَهُ تَدور شُبهاتُ فَسادٍ ورشاوي، سيرتُه المهنيّة مَشكوكٌ فيها، يَفَتَقرُ إلى القيمِ والْمبادئ الأخلاقيّة والْمَعنويّة والتّربويّة والاجتماعية...! وكم هو مُؤسِفٌ ومُجحِف، عندما نُعظّم ونُألّه مَن يَستَحِق التّوبيخ، ونوبّخ ونُحقّر من يستحق التّوقير.

 

لا تَغرّكَ الْمظاهِر! لا السّيارات ولا السّاعات ولا العطور ولا الألقاب ولا المناصب، ولا البيوت ولا كثرة الأموال. لا تَنخدِع بإغلاقِ العيون، ورفِّ الجفون، ورفعِ اليَدينِ للصّلاة! فَالبَعضُ كَكتبة الإنجيل، لا خيرَ فيهم سوى لأنْفُسِهم. ومن خلالِ خبرتي، وَجَدتُ أنّ الإنسانَ كُلَّما ازدادَ تَعَلُّقًا بالمادة، كُلّما قَلَّت قَيمتُهُ وَانحطَّ شأنُه! فالمادة تُذِلُّ الإنسان. تجعلُ مِنهُ شَخصًا طَمّاعًا جَشِعًا، مُمسِكًا بخيلًا، دائِمَ الحسد، ينظرُ إلى الّذي عند غيرِه، ولا يكتفي بِما عِنده، يظلُّ في هَمٍّ للاستزادة، يَدُهُ مقبوضة ولا يعرفُ إلى الخيرِ والعطاءِ سَبيلًا! ولكن، الويلُ لكلِّ ظالِمٍ ومُعتدي، الويلُ لِمَن جَنى ثروةً من ظُلمِ الآخرين وسَلبِهم، الويل لِمن أَكلَ حقوق أرملةٍ، واجترَّ حِصّةَ يَتيم.

 

ما أقوى التَّعبير الّذي يستخدمُه يسوع، لِيُظهر شرَّ الكَتَبةِ وظُلمَهم: "يأكلون بيوتَ الأرامِل". شريعةُ الغَاب لا تزال تحكمُ المجتمعات البَشرية، حيث القويُّ يأكُلُ الضَّعيف. حيثُ فِئة تتحكّم في سائِر النّاس. هذهِ غريزة، من خلالِها نَسعى لإيجادِ طَرفٍ ضَعيف نَستقوي عَليه. نُملي عليه الشّروط، نُمارِس عليه الوصاية. السياساتُ الاقتصادية، الأنظمةُ العالَميّة، برامجُ القروضِ والدّيون، كلّها وسائل "ضَغط قانونية"، لِمُمارسةِ النَّهب بشكلٍ مَشروع. استغلالُ حاجات النّاس، حاجاتِ الشّعوب، هو نوع من الابتزازِ العَام، لِفَرضِ السّياسات وتمرير الأجندات، مِنَ الطّرف القويّ على الطّرف الضّعيف.

 

يقول الرّب في توبيخِه الكَتبة: "يُحبّون الْمشيَ بالجُبَب"! هَذَا ذَكّرني بِتعارُكِ القِطط. فالقِطط عندما تَتعارَك، تَلْجَئُ إلى فَردِ شَعرِ ذيلِها، لُتُعطي ذاتها حجمًا وهميًّا أمام الخصمِ، أكبر من حَجمِها الطَّبيعي. والجُبّة تُعطي لابِسَها حجمًا، أَحيَانًا هو لا يملِكُه، فقط مُجرّدَ مَظهرٍ أمامَ النّاس، دون جوهر. المشكلة تَكمُن إن خَلعتَ جُبَّتَكَ فأصبحت بلا قيمة. مُصيبة إن كانت قيمتُك فيما تملِك، وما تلبس، وما تَركَب. وباطِنُكَ فَارغ، وعقلُكَ أجوف.

 

الأفضل، كَما قالَها الفيلسوف سقراط، أن تَعرِف نَفسَك جيّدًا، دون أن تُعطي ذاتك قيمةً وَهميّة، وَحجمًا مُزيّفًا، أَكبر من حَجمِكَ الحَقيقي. لأنّك مَهما ادّعيتَ وتَفَاخرتَ، ومهما تَظاهرتَ وتَباهيتَ، وَمَهما تَبَجَّحتَ وزهوتَ بنفسِكَ أمام الّناس، فاللهُ يعلمُ مَن أنتَ كَما أنت، مُجرّدًا من كلِّ ادّعاء، مَنزوعًا من كلِّ زَهو وغُرور.