موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٣ يوليو / تموز ٢٠٢٢

ضَوءُكَ يَلوح في ظلامِ دَربي

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
الأب فارس سرياني، راعي كنيسة سيّدة الوردية، الكرك - الأردن

الأب فارس سرياني، راعي كنيسة سيّدة الوردية، الكرك - الأردن

 

عظة الأحد السابع عَشَر من زمن السّنة العادي

 

أَيُّها الأَحِبَّة، كُلٌّ مِنَّا يَبحثُ أَو لَدَيهِ مِثَالٌ يَقتَدي بهِ. فَالْمِثالُ عِبَارَةٌ عَن أَيقُونَةٍ رَسمنَاها عَن أَحدِهم، نَقِفُ أَمَامَها وَنَتَأمَّلُ في رَوعَتِهَا وَجَمالِها. فَالطّفلُ الصَّغيرُ مَثَلًا يَتّخِذُ مِن أَبَويه مِثالًا يَتَعَلّمُ مِنهُما. والْمثالُ قَدْ يكونُ شُعلَةً تُضيءُ لَنا الطَّريق، وَقَد يكونُ أَيضًا دَربًا يَقودُ صوبَ الهَلاك! وَهذا يَعتمِدُ على الْمثالِ الّذي اِختَرتَهُ. فَلَيسَتْ الأمثِلَةُ جَميعُها صَالحِةً أَو جَيّدة، وَلا الاختياراتُ كُلُّهَا مُوفّقَةٌ أَو ناجِحَة، وَكَمَا أَنَّ بعضَ الأمْثِلَةِ تَسنُدُ وتَنصُر، فَبَعضُها يَخذُلُ وَيكسِر! فَاحْذَر عِنَدمَا تختارُ مِثالًا لَك!

 

وَعِندَمَا نَتَمثَّلُ بِأَحَدِهم، نُحاوِلُ التَّشَبُّهَ بِه في حَركاتِهِ وَأَقوالِهِ وَأُسلوبِ وَنَمَطِ عَيشِه! وَها هُمُ التّلاميذ نَراهُم يُعجَبُونَ بِيَسوع مِثالًا في الصّلاة، إذ كَانَ يُصلّي، وَيَطلبونَ مِنهُ أَن يُعلِّمَهم أَن يُصَلّوا! فَأَعطَاهُم الصّلاةَ الأجمل والأكثرَ تَعبيرًا عَن عَلاقتِنا بالله وَبِبعضِنا البعض، بِكَلِمَاتٍ مُوجَزة وَمَليئَة بالْمَعاني السّاميةِ.

 

فَمَا حَياتُنا كَمؤمنينَ سِوَى تَقديسٌ لاسمِ اللهِ الّذي نحنُ خُلِقنا على مِثَالِهِ في القَداسَةِ والصَّلاح، وَتحقيقٌ لِمَلكوتِهِ عِندَمَا نَسعى لِعَيشِ مَشيئتِه بِتقوَىً وَحُسنِ سِيرَة. دُونَ أَن يَنسى الْمسيحُ الإنسان أَنَّنَا بشرٌ وَلنا حَاجاتٌ زَمَنيّةٌ تُشدِّدُ أَجسَادَنا وَتَقوتُنا وَتُقوّينَا. وفي نَفس الوَقت الّذي فيه نَحنُ مُعَرّضونَ دَومًا لِلخُصومَةِ والعَداءِ والإساءة، يُعَلّمُنا الرّبُّ ضَرورةَ الصَّفحِ والْمَغفِرةِ الْمُتَبادَلَة، سبيلًا لِحصولِنا نَحنُ أَيضًا عَلى مَغفِرَةِ اللهِ لَنَا.

 

وَأَخيرًا، مَا دُمنا نَرتَدي هَذا الجَسد، فَنحنُ دومًا عُرضةٌ لِتجارِبِ الحياة، وَمِن هُنا نطلبُ مِن الآبِ، أن يُشدِّدَ مِنْعَتَنا ويُحصِّنَ جَبهَتَنَا لِصدِّ نيرانِ التّجاربِ وَمُكافَحَتِها! هَذِه يا أحبّة رَوعةُ الصّلاة الرّبية، صَلاةُ ((أبانا الّذي))، الصّلاةُ الأَتَم. فَهَنيئًا لِكُلِّ مَن أَدرَكَ مَعَانِيهَا، وَيُتَرجِمُها إلى واقِعٍ حَيٍّ وَمُعاش!

 

وَفي الوَقتِ عَينه، الّذي يُعَلِّمُنا فيه الْمسيحُ هَذِه الصّلاة، يُعطينا مَثَلًا في ضرورةِ الّلجاجَةِ في الصّلاة! والّلجاجَةُ هي الإلحاح، والإلحاحُ هو الطّلبُ الْمُتَواصِلُ والْمُستَمِر! وَكما نَعلَمُ ويظهَرُ في الْمَثلِ، فالإنسانُ الَّلحوحُ عادَةً إنسانٌ مُزعِجٌ لِغيرِه، فَهوَ يأتي في أَيِّ وَقتٍ كَان، وَمنها ما هو غيرُ مُناسب. فَنَرَاهُ في الْمَثلِ يأتي عِندَ نِصفِ الّليل، وَغيرُه مُرتاح. ولا يَنصرِفُ إلّا بعدَ أن ينالَ حاجَتَهُ! وَلَكِن دَعونا لا نَظلِمُ هذا الإنسان، لأنَّهُ لَو لَم يَكُن بحاجَة، لَما تَرَكَ فِرَاشَهُ وَأولادَهُ وبيتَه، وَتَحمّلَ مَشَقّةَ الذّهابِ لَيلًا، لِيطلُبَ مَا هوَ بِأَمَسِّ الحاجَةِ إليه! فَهوَ صَاحِبُ قَضيّةٍ عَادِلَة، وَعِندَهُ مِن الأسبابِ مَا دَفَعَهُ لِأن يقومَ بِما قامَ بِه!

 

وَهُنا أَرى أنَّ التَّمييزَ في الظّروفِ وَالأوقاتِ أَمرٌ مُهِمٌّ جِدًّا، فَليسَ كُلُّ سائِلٍ هو مُحتاجٌ حَقًّا! فالبَعضُ يَسْأل بدافِع الطَّمَعِ أو الانتِفاعِ أو الأنانيةِ أو البُخلِ وَالخوفِ مِنَ الصّرفِ مِمّا يملِك! وَهذا اعتِداءٌ صارِخٌ عَلى حِصّةِ الفقيرِ والْمُحتاج، لِأنَّ البَعضَ الآخرَ يَسأل فِعلًا بِدَافِعٍ مِن شِدّةٍ وَضيقَةٍ وَعَوَز! وَهذا هو سَببُ تحديدِ يسوع لِلسَّاعةِ الّتي قامَ فيها صَاحِبُنا، لِيَسأَلَ صَديقَهُ الأرغِفَةَ الثّلاثة! فَنِصفُ الّليل يَدلٌّ على شِدَّةِ الأزمةِ الّتي تَصِلُ حَدَّ الاختِناق، والتماسِ الْمُسَاعَدَةِ والنّجدَة. نِصفُ الّليل دَليلٌ عَلَى مُصيبةٍ أَلَمَّت بِنَا، وَنحتاجُ إلى مَن يقفُ إلى جانِبِنا، نَركُنُ إليه ويَمنعُنا من السَّقوطِ الْمُهلِك!

 

إلى مَن نذهبُ ونَلتَجِئُ وقتَ الضّيقة، وَمن نلتمِسُ وإليه نَصرخُ إبّانَ الْمِحنَةِ والحاجَة، إن لم يَكُن لِلمَسيحِ عَينِه؟! أُنظُروا مِثَال برطيماوس، أَعمى أريحا، الّذي أَخذَ يَصيحُ بِشدّةٍ، يَستَغيثُ قائِلًا: ﴿رُحماكَ يا ابنَ داود، يا يَسوع﴾. (راجع مرقس46:10-52). فَكانَ لَه على قَدر صياحِه وإيمانِه أيضًا.

 

يا أحبّة، ما أَصعبَ الّلحظاتِ الّتي فيها نَسألُ ولا نَنال، نَطلُبُ فلا نَجِد، نَقرَعُ وَتَبقَى الأبوابُ مُغلَقَةً مُوصَدَة! شعورٌ صَعب لِمَن اِختَبرَ ويختبِر هَكذا مَواقِف! شعور بالوَحدةِ القاتِلة والخُذلان، حيث لا مُجيرٌ ولا نصيرٌ! وَهذا يُذكّرني بصرخةِ صاحِب الْمزامير، حينَما ناجى اللهَ مُعاتِبًا: ﴿إلامَ يا ربُّ، ألِلابَدِ تَنساني؟ إلامَ تَحجُبُ وَجهَكَ عنّي؟ إلامَ تُودِعُ نَفسيَ الهموم، وَليلَ نهارَ قَلبِيَ الغُموم؟ إلامَ يَتَغلَّبُ عليَّ عَدويّ؟ أُنْظُر واسْتَجِب لي أَيُّها الربُّ القَدير﴾ (مزمور 2:13-4).

 

صلاةُ داودَ هَذه هي صلاةُ كَسرَى القلوب، كَسرى الجناح، كَسرى الخواطِر، مَن يلْتَمِسونَ عزاءَ الله منذُ سنين، وبعضُهم لا يَجِدُ سوى الهمَّ، وَمَا يَعصُر القَلبَ أَلَمًا، وَيَضعُ في النِّفسِ كَآبةً وغَمًّا!

 

لِأجلِ هؤلاءِ بِالذّات، نُصلّي هَذَا الْمساء. نلتمِسُ لَهُم مِنَ اللهِ رَحمَةً وصبرًا وعزاءً وشِفَاء. نُصلّي أَيضًا لأجلِ الّذين هُم على حافّةِ اليأسِ والقُنوطِ مِن رحمةِ الله! وَهَذا يُعيدُنا إلى حيثُ بَدَأنا، إلى يَسوعَ الْمِثال، الّذي صلّى لأجلِ بطرسَ، وَقَد أَوشَكَ أن يدخُلَ في أزمةٍ خانِقة، قائِلًا: ﴿سِمعانُ سِمعان، هُوَذَا الشّيطانُ قَد طَلَبَكُم لِيُغربِلَكُم، وَلكنّي دعوتُ لَكَ ألّا تَفقِدَ إيمانَكَ﴾ (لوقا 31:22-32).

 

يا أحبّة، نَسألُ اللهَ تَعالى أن يُبقيَ فينا شُعلةَ الإيمانِ مُضاءَة، لِتُنيرَ عتمَةِ دربِنَا، خُصوصًا عندَما يُخيّمُ الظّلام، وَيَنتصِفُ الّليلُ مِن حولِنا، حيثُ الكُلُّ في راحةٍ وَأَمانٍ واطْمِئنان، ونحنُ نُصَارِعُ في الْمَيدان، وليسَ لَنا سِوى الله صَديقٌ نَقرعُ بابَه، مُلتَمِسينَ مِنْهُ أَرغِفةً تُقَوّينَا وَتُشَدِّدنا وَتَسنُدُنا، لِنبلُغَ آَمِنينِ مُطْمَئنّينَ فَجرَ نهارٍ أَفضلَ وَأَجملَ.