موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٠ مارس / آذار ٢٠٢١

صُوموا عن نهشِ بعضكم بعضًا

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
مَاذا يَنْفَعُكَ أَنْ تَصومَ وتَحْرِمَ نَفْسَكَ من اللُّحومِ، إِنْ كنتَ بَعدَ ذلِكَ كُلِّهِ لا تَقومُ سِوى بِنَهشِ أَخيكَ بدناءَتِكَ؟

مَاذا يَنْفَعُكَ أَنْ تَصومَ وتَحْرِمَ نَفْسَكَ من اللُّحومِ، إِنْ كنتَ بَعدَ ذلِكَ كُلِّهِ لا تَقومُ سِوى بِنَهشِ أَخيكَ بدناءَتِكَ؟

 

أيّها الإخوةُ والأخواتُ الأحبّاء في المسيحِ يسوع. ها قَد بَدَأنا زَمنَ صومِنا لهذا العام بكلّ آَلامِه وآمالِه، تطلّعاتِه وأُمنياتِه. ولا أعتقدُ أنّ أُمنيةً ألحّ، من أن يرفع ربُّ البَرِيّة البلاءَ عن أرضِه، ويهبَ الشّفاءَ لِبَرايَاه.

 

وكَما في كلّ عام، نفتتِحُ آحادَ زمن الصّوم، بإنجيل المسيح في البرّية. حيث يصوم هناك، وَيُعارِكُ المجرّب منتصِرًا عليه. وهذا العام نصّ التّجربة مأخوذ من بشارةِ القدّيس مرقس، وهو كَما نُلاحِظ نصٌّ مُقتضبٌ دونَ تفاصيل، كَتلكَ الّتي يورِدُها متّى ولوقا. وهذهِ من الأمور الّذي يُلاحِظها الدَّارسون لإنجيل البشيرِ مرقس، إذ يكتب بأسلوبٍ فيه نوع من العَجَلة، دون أن يدخل في تفاصيل كثيرة. وربّما يعود هذا إلى ظروفٍ مُعيّنة، كانَ يَحياها مرقس والجماعة الّتي كتبَ إليها بشارتَه، الأمر الّذي أَثّر على أسلوب وكمّية المادّة المكتوبة.

 

في إنجيلُ الأحد الأوّل من الصّوم، يسوع يخرج إلى البرّية، المتاخمة لِنَهر الأردن. وكانَ لِتوّه قد اقتبلَ مياه المعموديّة عن يد المعمدان يوحنّا. يخرج إليها وكأنّه جنديٌّ خارج إلى معسكر تدريبي، فيه يتمرّن ويستعدّ ويتمرّس، ويكتسب الخبرات والمهارات الّلازمة، قبل أن يلتحِق بالوحدة والفصيل. فهناك يُجرَّبُ بمختلف أنواع التّجارب.

 

نحنُ في هذه الحياة مؤمنون مجاهِدون، نُجَرَّبُ كما المسيحُ جُرّب. وكالجنودِ نُعارِكُ ونُصارِع. جهادُنا هو جهادٌ روحيّ أَسمى. وهو صراعٌ كما يَصِفه القدّيسُ بولس في رسالتِه إلى أهل أفسس (12:6)، ليس مَع أصحابِ الّلحم والدّم، إنّما مع كلّ ما يمتُّ ويتَّصِل بِعَالم الشّرّ والخُبثِ والظُّلُمات. ولأجل هذا الصّراع، نحن نتسلّحُ بسلاح الله. لا بسيف ولا بِبندقّية ولا حتّى بِسكّين، إنّما نتسلّحُ بالصّوم، ونتمرّسُ بالصّلاة، ونتهيّأُ بأعمالِ التّوبة والرّحمة، لِنَخوض تجاربَ الحياة، بقوّة الروّح الصّالح الّذي أُفيضَ فينا يوم معموديّتِنا، يُرشِدنا ويقودُنا، مُقاومين مكايد إبليس كما قاومه المسيح في تجارِبِه. وها هو القدّيس بطرس يُنبِّهُنا بدورِه في رسالتِه الأولى، قائِلًا: "إنَّ إبليسَ خصمَكُم كَالأسد الزّائِر، يَرودُ في طلبِ فريسةٍ له، فَقَاوِموه راسخينَ في الإيمان" (1بطرس 8:5-9)

 

يقولُ النّص بأنّ يسوعَ كان في البرّيةِ مع الوحوش، هذه الجزئيةُ البَسيطة عظيمة المعاني. فهي تَدلّ على حالةِ الانسجامِ التّام والسّلام الشّامل، الّذي كانَ يَحياه المسيح مع كلّ الخلائق، حتّى مع الّتي كانت تُعدّ متوحّشة في نظر النّاس.

 

ولا أدري إنْ كانت تلك الخلائِق البرّية، تستحقُّ أن تُدعى وحوشًا! فَهيَ بِطبيعتِها، كَما هو الإنسان، آَكِلَة للّحوم. تَعتاشُ من صيد الطّرائدِ والفرائس، وَتَأكلها نِيئةً دون طَهي، إذ لا تعرف استخدام النّار، كما يَفعل الآدميّون. عِلمًا بأنّ علماء الآثار، من جامعة نيويورك قد توصّلوا إلى اكتشافات، تُثبِت أن الإنسان القديم، قبل اكتشافِهِ للنّار، كان يأكل لحومَ الحيوانات نيئة دون طهي، كباقي المفترِسات.

 

أَضِف إلى ذلك، أنّ تلك الخلائقَ، تمرّ عَلَيها أسابيع دون طَعام، وربّما تأكل صيدًا واحدًا في الشّهرِ كلّه. أمّا موائد كثيرٍ من الآدميّين المتمدّنين، فهي مُكدّسة تكاد لا تخلو من الّلحمِ صبحًا وظهرًا ومساء، ويأكلونَهُ بِنَهم وشهيّة، مع أنّ داءَ النّقرس، قد ألهبَ مفاصِلَ أصابع أقدامِهم الكُبرى!

 

وأكثرُ من ذلك، أُنظروا حولَكم وشاهدوا هَولَ الممارساتِ الوحشيّة، الّتي يُمارسها الآدمِيّون في حقّ بعضهم البعض. يُبدِعون في ابتكارِ صنوفٍ جديدة لممارسة وَحشيّتِهم، وأساليبَ مروّعة للتّعذيب والتّرهيب والتّرويع والقتل وإراقة الدّماء. فَحينًا تسمع عن تفجير بحزامٍ نَاِسف في سُوق أو كَنيسة يذهب ضَحيّته العشرات، وحينًا عن شهداء تختلطُ دماؤهم نحرًا بمياه البحر المتوسط. وحينًا عن تجاوزات وانتهاكاتٍ مُنَظّمة، في الغَيهبِ والضّحى، تمارِسها الأنظمةُ والسّلطات في البلدان والأصقاع. فَمهلًا وعدلًا قبل أن تُطلِقوا عليها تهمة الوحوش! فهناك من يَستَحِقّها أكثر.

 

بالله عَليكم، هل صَدفَ أن رَأيتُم ذئبًا يرتدي حزامًا ناسفًا، ويفجّر نفسَه وسط قطيعٍ من الذّئاب المارِقة عن منهجِ الذّئاب؟ أو ضبعًا يحمل سكّينًا، وينحرُ رقاب 21 من الخراف على سواحِل ليبيا؟ أو هل سَمعتُم في عالم الحيوان عن حيوانات تَبتر الأطراف وتفقأُ العيون سعيًا للثّأر والانتقام؟

 

إذًا يا أحبّة، قبل أن نَظلم الكائنات والحيوانات في البراري بِصفَة لا تَستَحِقّها، أنظروا إلى عالمِنا البشري، وعاينوا كمية الوَحشية المنَظَّمة والمدروسة الّتي تسودُه، والّتي تُلحقها المخلوقاتُ (العاقلة) بَعضُها بِبَعض. واحكموا: أينَ هي الوحشية فعلًا؟ ومَن الّذي يمارسُها حقًّا، بوعي وبتلذّذٍ وعن سبق إصرارٍ وترصّد؟!

 

لَقد رأيتُ حيواناتٍ تأكل بعضُها بعضًا، بدافع من غريزة البَقاء والجوع، لا بدافعٍ من التّسلية أو فَسادِ الطّبيعة. ورأيتُ في المقابل، آدميّين ينهشون بعضُهم بعضًا، بدافع من الحقدِ والكُرهِ، والثّأرِ والانتقام، والطّمع والجشع، والنَّصب والاحتيال، والكذب والنّفاق. وهُنا تَتجلّى الوحشية في أبشع صورِها. فلا تحكموا بنفس الميزان، فالأمرُ شَتَّان لا سِيَّان.

 

كان المسيحُ بين الوحوش، دلالة على السّلام بين الخالقِ وَخَليقتِه. وهو السّلام الّذي نرجو ونُصلّي أن يتحقّق في عَالَمِنا الممزّق بالحروب والنّزاعات الوحشية. كان المسيح مع الوحوش، وقَد استطاع أن يحيا معها في تناغمٍ وانسجام. وهو الأمر الّذي فَشِل في تَحقيقه مع كثير من الآدميّين، الّذين آثروا أن يُعادوه ويخاصموه، حتّى أعدَموه بوحشيّةٍ وَهَمَجيّة.

 

ربّما قد تَحضّر البشر في أَنماطِ عَيشهم، ولكنّ الطّبيعة الوحشية لا تزال فيهم، وهي جاهزة لأن يستحضِرونَها في مواقف وردّاتِ أفعال كثيرة. ومِن هنا نطلبُ نعمةَ المسيح، أن يُهذّبَ طِباعَنا العَاصية ويروّض جموحَنا وَيُأنِسن ما فينا من ميول نحو القسوةِ والوحشيةِ. والصّومُ نعمةٌ لتحقيق شيءٍ من ذلك. المسيحُ بصومِه إنّما يُعطينا أسمى الدّروس في كيفية ترويض الإنسان لنفسِه وطباعِه، الّتي فيها ميلٌ دائم لعصيان خَالِقِها، والاعتداء على الغَير.

 

أيّها الأحبّة، كتب القديس باسيليوس أقوالًا جميلة عن الصّوم، أقتبِس شيئًا منها في مناسبة إنجيلِ هذا الأحد: ((إنَّكَ رُبَّما لا تَأكُلُ لَحمًا لكنَّكَ تَنهشُ أَخاكَ... الامتناعُ عن الأكلِ فَقط هو حطٌّ لكرامَةِ الصّوم... مَا مَعنى أن نَنقطِعَ عن أَكلِ الّلحمِ، وَنحن لا نَنقطِعُ عَن أكلِ لَحمِ قَريبِنا بالنَّميمَة والغِيبَة؟ وما معنى أن نصومَ عن الأكل، ونحن لا ننقطعُ عن الأفكارِ الرّديئة والحِقدِ والبُغض؟))

 

أمّا القديسُ غريغوريوس النيصي، فكتب يقول: ((مَاذا يَنْفَعُكَ أَنْ تَصومَ وتَحْرِمَ نَفْسَكَ من اللُّحومِ، إِنْ كنتَ بَعدَ ذلِكَ كُلِّهِ لا تَقومُ سِوى بِنَهشِ أَخيكَ بدناءَتِكَ؟))