موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٧ أغسطس / آب ٢٠٢٢

سراجٌ موقَدٌ مُنير

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
سراجٌ موقَدٌ مُنير

سراجٌ موقَدٌ مُنير

 

عظة الأحد التّاسِع عَشَر من زمن السّنة العادي

 

السَّهرُ أَيُّها الأحبةُ يَعني الاستعدادَ والتَّهيؤَ لِمَا سَوفَ يَحدُث. فَالطّالبُ يَسهَرُ مُستَعِدًّا لامتِحانِه، والْمُزارِعُ يُحضّرُ أرضَهُ قبلَ قُدومِ الْمَطر، وَأهلُ البيتِ يسهرونَ استعدادًا لِقدومِ عَزيزٍ عَليهم مِن سَفرٍ وغُربَة. ثُمَّ أنَّ السَّهَرَ الإنجيليّ يَعني اليَقَظَةَ الرّوحيّة. فَأَعداءُ الْمُؤمِن، مِن تجاربَ وضيقاتٍ، جَميعُها كالسّارقِ تُريد فُرصَةً للإغارَةِ عَليهِ والنّيلِ مِنهُ، والظّفرِ بِبَيتِهِ وَجَبهَتِه الدّاخليّة. لِذلِكَ يَدعونا الْمسيحُ إلى السّهر، أَيّ إلى الانتباهِ وَأَخذِ الاحتياطاتِ الّلازِمة، فَلا تَدع بَيتَكَ يُنقَب! وفي هذا الشّأنِ يَقولُ بطرسُ الرّسول في رسالتِه الأولى: ﴿إنَّ إبليسَ خَصمَكُم كالأسدِ الزّائر، يَرودُ في طَلب فريسةٍ لَهُ، فَقاوموهُ راسِخينَ في الإيمان﴾ (1بطرس 8:5).

 

هَذهِ الاحتياطاتُ والاستعدَادَات، هِي مَا نَجِدها في رسالةِ بُولسَ إلى أهل أَفَسُس، فنسمَعُهُ يَقول: ﴿شُدّوا أَوسَاطَكم بالحق، وَالبَسوا دِرعَ البِرِّ، وَشُدّوا أَقدَامَكم بالنّشاط... واحمِلوا تُرسَ الإيمانِ في كُلِّ حَال، فيه تَستَطيعونَ أَن تُخمِدوا جَميعَ سِهامِ الشّريرِ الْمُشتَعِلَة. واتّخِذوا لَكمُ خُوذةَ الخلاص وَسيفَ الرّوحِ، أي كَلمةِ الله﴾ (أَفَسس 14:6-17).

 

هذا السّهرُ لَه بُعدان: بُعدٌ قريب مُعاشٌ أَي أَن نحيا مسيحييّن صالِحين في كلّ زمانٍ ومَكان، عَامِلين بمشيئةِ الله، نَتَجنّبُ الرّذيلة ونحيا حَياةَ الفضيلة. وَبُعدٌ آخرُ قريبٌ أيضًا، ولكنَّهُ مُباغِتٌ وَسَيأتي بعدَ حين! فَالْمؤمِن الذّكي هو مَن يَستَعِدُّ دومًا لآخرتِه، وَيسهرُ لِلسَّاعةِ الّتي فِيهَا يَلقَى ربَّهُ وَسيِّدَه! فَلا يَدع بيتَهُ يُنقَب، أَي لا يجعلُ مِن نفسِه مَرتَعًا للشّهواتِ والزّلات، وَوكرًا للخطايا والآثام! الْمؤمن السَّاهِر هو الْمُؤمِنُ النَّشيطُ الفَعّالُ الْمُجتهِدُ في حَياتِه الرّوحية، حَياةِ النِّعمَةِ والفَضيلة. أَمّا الْمَسيحيُّ الكَسلان فهوَ الْمُتَراخي والْمتقاعِس، والّذي هَمُّه مُقتَصِرٌ عَلى الدُّنيا وَما فيها، والّذي يُصبِحُ مَسكِنًا تَعيثُ فيه الخطايا فسادًا.

 

يُخاطِبُنا الرّبُ قائِلًا: ﴿لِتَكُن أوساطُكم مَشدودَةً﴾. وَهذه عَلامَةٌ عَلى مَن يَنوي الرّحيل! وَما حَياتُنا كمؤمنين سِوى استعدادٌ وجهوزيّة لِلَحظةِ الرّحيل، عِندما يَدعونا الرّبُّ أنْ نَفُكَّ خَيمَتَنَا الأرضيّة، لِنَنتَقِل إلى الْمَسكِنِ الأبديّ، الّذي أعدّهُ اللهُ لَنا قبلَ إنشاءِ العالم (راجع متّى 34:25). الْمُؤمِن الذّكي وإن كانَ يحيا في الجَسد، فَإنَّ روحَهُ تَظلُّ مُعَلَّقةً بالله، سِراجًا مُوقدًا مُنَارًا بِنورِ الإيمان، الّذي يُضيءُ لَنا الدّربَ صوبَ البيتِ الأبدي، ويُنجّينا مِن كُلِّ ظُلمَةٍ وضلالٍ وضياع! والسِّراجُ يُنار بالزّيت، وَزيتُ الْمؤمنِ هوَ كلُّ فِكرٍ وَقَولٍ وَعَمَلٍ صَالِح، هو الخيرُ الّذي نَأتيهِ وَالشّرُّ الّذي نَتَجَنّبُهُ! فَطوبى لَنَا يَا أَحِبَّة إذا جَاءَ رَبُّنا عندَ تِلكَ السّاعة يَقرعُ البابَ، وَوَجَدنا حَاضرينَ مُستَعِدّين، لَيسَ فَقَط لِقُبولِه وَضِيَافَتِه، إنّما أيضًا للذهابِ والْمُضيِّ مَعه صَوبَ الدّيارِ الأبديّة.

 

﴿وإذا جاءَ سَيّدُهم في الهزيعِ الثّاني أو الثّالث، وَوجدَهم على هَذهِ الحال، فَطُوبى لَهم﴾ (لوقا 38:12). الْموتُ يا أحبّة هو أَعظَمُ سارِقٍ مُرهِبٍ في حياتِنا البَشرية: يَقتحِمُ ولا يَستَأذِن، يَأخُذُ عُنوَةً ولا يَطلُب، دونَ أن يُميّزَ بينَ كبيرٍ أو صَغير، غنيٍّ أو فَقير. ولكنّ الْموتَ مع الْمسيح يُصبِحُ لَه مَعنىً آخرَ مُغاير تَمامًا، فهوَ انتقالٌ إلى الحياةِ الّتي لا تَزول، فيه نَستودِعُ روحَنَا وحياتَنا بينَ يَديّ اللهِ أَبينا، بِكلِّ سَلامٍ وَرَاحةٍ وانْبِسَاط! وإن كانَ الْموتُ يُغِيرُ وَيَسرِق، فالْمَسيح يَستَأذِنُ وَيَقرع! فَإن فَتَحتَ لَهُ نِلتَ النَّصيبَ الأفضل، وإن أَبقيتَ البَابَ مُغلَقًا فَأنتَ مَن سَيَخسر. ﴿هَاءَنَذا واقِفٌ على البابِ أَقرَعُهُ، فإن سَمِعَ أَحدٌ صَوتي وفتحَ الباب، دَخَلتُ إليهِ، وَتَعَشّيتُ مَعَهُ وَتعشّى مَعي﴾ (رؤيا يوحنّا 20:3). فَليُعِدَّ كلُّ واحِدٍ مِنّا نَفسَهُ لِلوليمَةِ الأبدية، مُرتَديًا ثِيابَ العُرس، حتّى يكونَ أَهلًا لأنْ يُشارِكَ الْمسيحَ يَومًا في عَشائِه وَفرحِه الأبدي.