موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٨ مايو / أيار ٢٠٢١

ربّي وإلهي

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
الأحد الثاني من الفصح: أحد الرحمة الإلهية

الأحد الثاني من الفصح: أحد الرحمة الإلهية

 

لَطَالَمَا رُمِيَ تُوما بِمَعصية الشّكِّ، كَما رُمِيَ بُطرسُ بالإنكار! وكأنّهُما وَصمَتَان أَبَديّتانِ، أو نُقطتانِ سوداوانِ في سِجِلِّهِما. نحنُ قَسَونا في حُكمِنا على هَذين التِّلميذَين، بل غَالَينا في الحُكمِ عَلَيهما! أَتُرانا سَنُبلي بَلاءً بطوليًّا أفضلَ، لو كُنّا في نفس الموقِف، الّذي تَعَرّضَ لَهُ بُطرس؟ أو سَنَتَصرّفُ تَصرّفًا يَنُمَّ عن إيمانٍ مُطلق وقبولٍ تام، لَو وُضِعنَا في نفسِ الموقف، الّذي وُضِعَ فيه تُوما اليوم؟ لا أعتقِدُ ذلك. فَالموقف الّذي فَاَجَأَ به التّلاميذُ توما فَصَدَموه، لَم يَكن بالموقفِ البسيط، حتّى يَسهُلَ عَلَيه تَصديقه!

 

تَخيّلوا أنتم يا معشرَ القارئينَ والسّامعين، أَن يُقالَ فجأةً لِفلانٍ، وقَد ماتَ أبوهُ ودُفِنَ مُنذُ فَترة: إنَّ أَبَاكَ حَي! لَقَد أَتَانَا ورأيناهُ، وسَمعنَاهُ حينَ ألقى السّلامَ علينا وكلّمَنا! أُتُراكَ تُصدّقُ ذلك؟ أَلا تَرفُضُ التّصديق، وتوقِن أنّ ما يُقال هو نَسجُ خيالٍ، وَمَحضُ وَهمٍ، أو تأثيرُ صَدمَة؟ ألا ترفُض ما يُحكى، إلى أن تُعايِنَهُ أَنتَ بِنَفسِك، لِكَي تُصدّقَ بِدَورِكَ، كَمَا رَآهُ غيرُك فَصَدّقوا؟ فَلِماذا إذًا نَظلمُ توما بالشّك؟! تخيّلوا أَنّ مَا حدثَ كانَ بالعكس، أَي أنّ توما وَحدَه هو الّذي رَأَى الرّب، وَذَهب لإخبارِ التّلاميذ. أَتُراهم يُصَدّقُونَ فَورًا، أَم أنّهم يَطلبونَ هم أيضًا بدورِهم، أن يُشاهِدوا ما شاهدَ هو لِكَي يُصدّقوا؟! لِذلِك، لا أرى من الحكمةِ أن نَستعجلَ بالحكمِ على توما.

 

رُبّما تُوما كَانَ مُصدِّقًا في قَرارةِ نَفسِه، بِأنَّ المسيحَ قَد قَام كَمَا أَنَبأ سَلفًا، ولكنَّهُ عَبّرَ عن الموقف الّذي يَتَّخِذُهُ أيّ إنسانٍ طبيعي: أُريدُ أن أرى، أن ألْمِس! هذا الموقف في نَظري، ليس بالضّرورةِ أن يكونَ شكًّا أو إنكارًا، بِقدر ما أراهُ نوعًا من الْمُطالبةِ بالحق. وَكأنَّ توما يقول: أُريد حقّي أنا أيضًا في المشاهدة، أُريد نَصيبي من الّلمس! لِمَاذا أنتم فقط مَن تُشاهدون، وأنا أُحرَمُ من نعمةِ رؤيةِ المسيح القائِم. أَلَم أَكُنْ تِلميذًا مثلكُم جميعًا؟!

 

توما يا أحبّة، لَمّا قَال: لا أومن حتّى أُبصرَ وأضعَ، إنّما عبّرَ فقط عَن رَفضِهِ لِتَصديقِ ما أتاهُ به التّلاميذ من واقعةٍ جديدةٍ فريدة، يَصعب تَصديقها، على كلِّ مَن لم يَكُنْ شاهدًا عليها. هو لَم يُنكر إيمانَه بالمسيح، ولم يرفض الْمسيح، ولَم يتخلّى عن المسيح. فَلِماذا الْمُزادةُ غير الْمَنطِقيّة على إيمانِ توما؟ وَلِماذا نجعلُ مِنهُ مَضربَ مثلًا في معصية هو لَم يرتكبها؟ أُترانا أفضل منه؟

 

هذا الأحد يا أحبّة يُدعى بالأحدِ الجديد، كما يُدعى بأحدِ الرّحمة. ولكنّي أريدُ فقط أن أَتَطرّق إلى فكرة الأحدِ الجديد. توما وسائرُ التّلاميذ اِختبروا شَيئًا جَديدًا، لَم يَسبِق لهم مِن قبل أَن اختَبَروه. لَقد اختبروا قيامةَ شخصٍ من بين الأموات! رُبّما سَمِعوا عن القيامة، وآمنوا بها كباقي اليهودِ الّذين يؤمنونَ بِقَيامةِ الأموات. ولكنّهم الآن يُعاينونَ حقيقةَ القيامة واقعيًّا لا نَظريًّا فقط، فهم شاهدوا الْمعلم قبل ساعاتٍ مصلوبًا ميتًّا، والآن هو حيٌّ قائِم بينهم. المبادِئُ لم تَبقَى فقط مجرّدَ مَبَادئٍ على ورق وفي كُتب، إنّما اليوم ومع المسيح، صَارَت المبادئُ واقعًا جَديدًا وحيًّا، مَرئيًّا ومُعاشًا.

 

ونحنُ نحيا بالإيمانِ، ما اختَبَروه هم بالعَيان. وهُنا نصِلُ إلى مَربطِ الفًرس. فخبرةُ الشّك الّتي نتّهمُ بها توما، هي بالحقيقةِ خبرتُنا نحن! خبرتُنا مع الشَّك أوضَح، وَقَابِلِيَّتُنا لأن نفقدَ الإيمان أقوى. نَشُكُّ في الله، نَشُكّ في حُضورِه، نَشُكّ فِيمَا يُقالُ لنا، وفيما نقرأ عنه. نَتَعرّضُ لأزمةٍ فَنَشُك، تُصادِفُنا محنةٌ فَنشُك، تجابِهنا صعوبةٌ فنتخلّى عنه، وربّما نكفرُ به، نفشلُ في حياتِنا فَنُلقي بالّلائمةِ عَليه، نُصابُ بمصيبةٍ فَنهجرُ الكنيسةَ عقودًا ورُبّما للأبد. حياتُنا نحن الّتي تَتأرجَح بين مواقف وردّات فعلٍ، بناءً على مواقف وظروف نمرُّ بها، أحيانًا نُعلِنُ فيها إيمانًا مُطلقًا لا يقبلُ الشّك، وأحيانًا أُخرى نُظهِرُ شكًّا جَحُودًا يرفضُ كلَّ إيمان.

 

الرّسولُ توما في نَظري هو مثال الإنسانِ الباحثِ والمتسائِل، وليسَ الإنسان الجاحِد النّاكر. جميلٌ أن نَبحث، أن نتساءَل، أن نُفتّش، لكي ندرِك ونَفهم. نحنُ لا نَسعى إلى (إيمانِ القَطيع)، فالقضية ليست قضية مناعة نتحصّنُ بها. إنّما نَبتَغي إيمانَ الأشخاص الْمُتَأصّل والْمُتجذّر، النّشِط والفاعل، القادِر على الثّباتِ إبّان الشّدائِد، والْمُتأتّي عن الفهم الجيّد، أو على الأقَل الحَدّ الأدنى من الإدراك. وفي هذا الشّأن يقول القدّيس أوغسطينوس جُملِتَهُ الخالِدة: (إنّي أومنُ لِكي أفهم، وأفهمُ لِكي أومن).

 

شخصيّة توما هي قريبةٌ منّا، تلامِس واقِعَنا الْمعاش. هي ليسَت شَخصية مثاليّة، إنّما هي مِثالٌ للإنسان الْمُتسائِل، ولا ضَيرَ في ذلِك. مع كلّ أسف، أحيانًا تشعرُ حتّى الأسئلة مَمنوع طرحها، ويزداد المنع كلّما ارتفع سقف الأمرِ الّذي تُسائِل عَنه! توما هو مثالُ المؤمِن الّذي يبحث عن إرشادات تُساعِدُه في الطّريق. وفي الفصل الرّابع عشر من بشارة يوحنّا، نجده يُسائِل المسيح قائِلًا: "ربِّ، إنّا لا نعرفُ إلى أينَ تذهب، فكيف نعرِفُ الطّريق؟!" (يوحنّا 5:14).

 

شخصيةُ توما هي تجسيدٌ لِما نمرُّ به من ظروفٍ، ونختبرُه من أزماتٍ. أينَ انتَ يا رب عن كلِّ ما يحدثُ معي؟ هل أنت موجودٌ وحاضرٌ ومُدرِكٌ لِمَا أمرُّ به؟ لماذا أشعرُ بأنّك خَذَلتَني وتَركتَني؟ ظروفٌ ومصائب، تجعلُنا ندخل في صراعٍ وجودي مع الله: أينَ أنت؟!

 

يا رب، أحيانًا تَنتابُني الشّكوك وتَعتريني الحيرة، فَثَبّت قَلبي فيما أنا عليه من المعرفةِ والإيمان. لا تَدَعْ آلامِي ومصائبي تُفقِدُني إيماني بكَ. اِجعلْ لي مع كلِّ تجربةٍ منفذًا، ومع كلِّ ضيقٍ فرجًا، ومع كلِّ شدّة مخرجًا! يا يسوع، أزِل الغموضَ الّذي يَكتَنِفُ قلبي، وَأَبعِد الالتِباسَ الّذي يُراودني فيكَ وفي وجودِك! يا رب، لا تجعل أسئلتي سببًا لجحودي، بل اجعلهَا سببًا لاستِزادَتي من فهمي لَكَ وإيماني بك. يا يسوع، إنْ كنتُ لا أراكَ اليوم بِبَصَري، فاجعلني أراكَ بِبَصيرتي. وإن كُنت لا ألْحَظُكَ بنَظري، فَأعطيني أن ألْمسَكَ في قلبي. وإن كنتُ لا أُدرِكُكَ بحواسّي الخمس، فَهَبني أن أعرِفَكَ بعقلي وفكري! وإنْ كنتُ لِمَعرِفتِك بالعيانِ راجيًا ومُنتظِرًا، فامنحني أن اختبِرَك دومًا بالإيمان.