موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٣٠ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢١

رأس السنة ويوم السلام العالمي

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
كل عام وأنتم بألف خير

كل عام وأنتم بألف خير

 

الإنجيل (لو 2: 16-21)

 

ما أروع الكلمات الرائعة التي بها يصف أمير الشعراء أحمد شوقي لحظات ميلاد السيد المسيح النورانية. ولعل ما جاء في قصيدته، وهو الشاعر المسلم، أجمل الصفات المعبّرة عن ميلاد ملك السلام.

 

ولد الرفق يوم مولد عيسى، والمروءات والهدى والحياء

وسرت آية المسيح كما يسري من الفجر في الوجود الضياء

تملأ الأرض والعوالم نورًا، فالثرى مائج بها وضياء

لا وعيد، لا صولة، لا انتقام، لا حسام، لا غزوة، لا دماء!

 

منذ عام 1968، وبمبادرة من الكنيسة، يُعرَف اليوم الأول من رأس السنة بيوم السلام في العالم. سلامي أعطيكم، سلامي أمنحكم، قال يسوع. وبهذه المناسبة يتوجه البابا برسالة سلام سنويّة إلى العالم، خاصّة إلى السياسيّين، الذين بيدهم المفتاح، لخلق السلام وحمايته. مَن لا يعرفها قصة الطفل الّذي أزعج والده في مكتبه، فلكي يُلهيه، أخذ صفحة جريدة عليها خريطة العالم ومزّقها، ثم قال لابنه: هل تقدر أن تصفّف الخارطة من جديد؟ بهذا افتكر الوالد أنه سيُشغِل ابنه لمدة طويلة. لكن لم يمض علبه إلا دقائق ودخل إلى مكتب والده وقال: أنظر بابا! فاستغرب الوالد وسأل: لكن كيف؟ هل تعرف قارات العالم بالصحيح، حتى انتهيت بهذه السرعة؟ فابتسم الولد وقال: لا. لكن خلف الصفحة كان رأس إنسان كبير، فأنا أصلحت الرأس، فصَلُحَت معه الخارطة. فهذا هو المطلوب أن نصلح رؤوسنا، فبحلَّ السلام.  يسوع يريد السلام للجميع. لذا يحتلُّ السلام المركز الأول وعلى رأس التطويبات الثمانية: طوبي لفاعليّ السّلام، فإنَّهم أبناء الله يُدعون. فهذه ليست أُمنِية عاطفيّة فقط، بل حاجة مُلحّة لعالمنا المُمزّق من الحروب والمناوشات المُغرضة، لمصالح سياسيّة مُختَلَقة، لإيجاد سببٍ، يُبرِّرُ إنتاجَ الأسلحة وبيعها، إذ هي أساس أكيدٌ ومتينٌ للاقتصاد المحلّي والعالمي. من هنا ضرورة التوعية لإبدال سياسة القوّة بسياسة السّلام. لكن لا ننسى أنّ السّلام هو عطيّة من الله. فمن هو بحاجة لشيء، يطلبه مِمَّن يقدر أن يُؤَمِنه له. هذا ومَن غير الله يستطيع أن يُؤمِّن السّلام للعالم؟ فلتكن أوّلُ طلباتنا ما بين نهاية السنة الماضية وبداية الجديدة، الصّلاة القصيرة: يا رب! أعطنا السّلام! نعم السّلام لا يزال مُمكنا. فلا مبرِّر لنا أن ننسى، أنّه علينا، نحن أبنا الله، ألاّ نتعب من طلبه، لنا ولعالمنا، خاصة في بداية هذه السنة الجديدة. فإن ابتدأناها بسلام، هناك احتمال كبير، أننا سنُنهيها أيضا بسلام.

 

في منتصف هذه الليلة نُودِّع سنة ونستقبل سنة جديدة. إنِّ الوداع ما كان يوماً هيِّناً، إذ هو نوع من الموت، والموت مرتبط بالحزن والكآبة، لفقدان شيءٍ عزيز، سواء إنساناً بشريّاً أو مُلكأً ثميناً، أو كما نشاهد سنةً من العمر، نعم، هي تُعدُّ خسارة. في منتصف هذه الليلة ستقرع أجراس الوداع، للسنة الماضية لكن في الوقت نفسه أيضا تُبشِّرُ رنّاتُ نفس الأجراس، باستقبال السنة الجديدة، وهذا سبب فرح، ينسينا الحزن على الماضي، الذي ما عاد بوسعنا، لا أن نُعِيدَه أو نُضيف عليه شيئا جديدا أو نُصلِح فيه شيئاً. فما حدث حدث، وعاد في علمِ الماضي. فبالصلاة نضعه بين يدي الله، عساه يرأف بضعفنا ويرضى بندمنا، ويساعدنا لنعيش سنة جديدة مباركة.

 

بين هذا وذاك، إي الوداع للقديم، والاستقبال للجديد، تُقام الصلوات وقداديس الشكر منّا، عن  سنة عشناها في عالم الله الجميل، على ما أنعم به، ليس فقط علينا، أو على شعبٍ دون آخر، بل على كلِّ الشعوب والعالم أجمع، حيث الله، لا نقول، كان معنا، بل هو هو، في القديم وفي الجديد، كما قال ليشوع، الذي تسلّم قيادة الشعب بعد موسى: "كما كنت مع موسى أكون معك. لا أُهمِلَك ولا أَترُكَك" (يشوع 5:1). هنا النقطة: الله لا يقول ليشوع: بإمكانك الآن أن تتّكل في قيادتك للشعب، على هذا أو ذاك من الذكريات، لكن عليّ أنا. هذا هو الله، أمين بوعده وعهده واقف إلى جانبنا في كلِّ أيّام حياتنا، في نهاية كل سنة تنتهي، وفي بداية كلّ سنة تبتدئ. فلا الماضي يقدر أن يُخيفنا، لأنّ الله مطّلِعٌ عليه، ولا الحاضر الجديد خطير ويتطلّب منّا المُجازفة، رغم ما فيه من مخاطر ومخاوف، واقعية أو محتمل حدوثُها، كمرض الكورونا وتوابِعِها، أو نشوب حرب، فنقول هذه هواجس فقط، فإن الله في كل زمان، حتّى قبل أن نعرف. فما علينا إلاّ أنْ نضعّ كلَّ شيء في يده، إذ هو يعرف، ما هو صالح ومفيد لنا، فيرسله لنا. فمن الخطأ إذن أن نؤلّف صلوات، نطلب فيها من الله حياة بلا ألم. فمِنْ أين يأتي الامتياز للحياة البشرية الضعيفة، المجبولة بالألم والخطيئة، أن تبقى بلا ألم ؟ الصّلاة الصحيحة هي التّواضع وطلب تتميم إرادة الله: "لتكن مشيئتك، يا أبتي، لا مشيئتي".

 

آخر يوم من السنة، تحتفل الكنيسة فيه بعيد البابا القديس سلفستر، فما هو المبرِّر؟ تاريخ الكنيسة يُثبِت أنَّه في مثل هذا اليوم من عام 314 قد أُختير بابا جديدا في الكنيسة، أخذ إسم البابا سلفستر. ويُقال إنّه أثناء حبرِيّتِه، قد شفى القيصر قسطنطين، أوّل قيصر ارتد واعترف بالمسيحية في روما، بعد نيرون الظالم وخلفائه، الّذين اضطهدوا المسيحيين، إلى يوم ارتداد قسطنطين، شفاه من البرص، فكافأه هذا بهدايا ثمينة. وتوفي البابا سلفستر، البابا الخامس عشر في  تاريخ الكنيسة، في آخر يوم من السنة 335، أي مثل اليوم، لذا أٌعطي اليوم اسم يوم سلفستر. ففي كلِّ أنحاء العالم هذا اليوم معروف باسم يوم القدّيس سلفستر.

 

قالوا سنةٌ تنتهي وسنة تبتدي، فهذي أعداد حسابية لا نفع منها للحياة. أمّا المهم لنا، فهو ليس عددُ السنين، بل ماذا نعمل في السنين. قال حكيم: لا يكفي أن نزيد أياما على سنينا، بل أن نزيد حياة على أيام سنينا. فيوم سلفستر، اليوم، نعيّد اختتام السنة الماضية ونبتدئُ رأس السنة الجديدة ، والنّاس لا تزال بفكرها، بفرحة الإحتفالات بعيد الميلاد. عيد رأس السنة، في البرنامج الليتورجي، هو مبدئيا عيد خَتان يسوع، حسب شريعة موسى التي تأمر بالختان في اليوم الثامن للولادة، وإعطائه إسم يسوع، كما سمّاه الملاك قبل أن يُحبل به. عادة هم الأهل الّذين يختارون الإسم لابنهم، وأمّا في حالة يسوع، فهو الملاك المُرسلُ من الله، الذي يعطيه هذا الإسم، وهو يعني "الله يُخلِّص". فيسوع هو المُخلِّص الموعود. زمان الرّومان قد ولّى، إذ ما كانت الأسماء في العائلات معروفة لكن الأرقام، حسب ولادتها. واحد، إثنين، ثلاثة... الأسماء تعني شخصيّات، بينما الأرقام، فهي أعداد ضائعة ما لها ذاك الاعتبار كالإسم.

 

وحسب إحصائية عالمية حول أشهر إسم عرفه التاريخ، جاء إسم يسوع في الطليعة في كلِّ أنحاء العالم. حتّى من غبر المؤمنين به. لكن احتراماً لمقامه، لا يُسمّى إنسان بهذا الإسم، على الأقل بين المسيحيين، وأمّا غير المسيحيين فيُحرّفون الإسم ويحملون إسم عيسى الفخري، المنبثق من كلمة يسّى العبرية. يسوع هو المخلّص، كما قال بطرس، وليس باسم آخر تحت السماء، به نحصل على الخلاص (أعمال 12:4) "ليس بأحدٍ غيره الخلاص، لأنَّ ليس إسماً آخَر تحت السّماء قد أُعطي  بين النّاس به ينبغي أن نخلص".

 

سنة تنتهي من عُمرنا، فنُضيفها على ماضينا عدداً. لذا من الجيّد في هذه المناسبة، أن نختلي مع نفسِنا، ونبسط صفحاتها، الّتي بقيت عالقة في مُذكَّرتنا، من جهة، لنشكر الله على ما نرى فيها من أعمال صالحة، أتممناها باسمه تعالى للكنيسة ولمجتمعنا ولنا شخصيّاً، لأن كلَّ ذلك تمَّ بمعونته، إذ هو قال: بدوني لا تستطيعون أن تفعلوا شيئا. ومن جهة ثانية سنكتشف الكثير على صفحاتها، فهو إمّا خطأ، مُتَعَمَّد أو غير مُتَعَمَّد، صدر مِنّا، نقارنه بصفحة إملاء صعبة يجب إجراء تصليحات عليها. وهذه نقطة الإنطلاق في بداية السنة الجديدة، أن نبدأ بطلب الرّحمة والمغفرة، إذ هذه لحظات مقبولة من الله: قد اقترب ملكوت الله. توبوا وآمنوا، لينجح معنا ما فشلنا به في السنة الماضية. فمع كل بداية سنة جديدة، نقترب فعلا من ملكوت الله، إذ نحن لسنا دائمين على هذه الأرض، بل وجودنا زائل ا. هو تحضير بأعمالنا وأقوالنا، للوصول إلى وطننا ومسكننا الحقيقي عند الله.

 

في آخر السنة طبعا، يجلس مُدراء التجارة وحولهم سجلاّت المال الّذي وضعوه في التّجارة للإستثثمار، فما يهمٌّهم هو ليس رأس المال، وإنّما المرابح، الّتي أحرزها رأس المال، كما في مثل الوزنات. فهذا ما يُريده الله منّا، كيف تاجَرنا بالمواهب، الّتي جمّلنا بها، حين أرسلنا إلى هذا العالم، إذ كلّ واحد يأتي إلى هذا العالم، ومعه تكليف خاص، لوظيفة خاصة، يعرفها الله وحده، هي في برنامج إصلاح هذا العالم، الّذي دمَّرته الخطيئة. وظائفنا هي كحجارة البُناء. كلّ واحد يضع حجره في بناء عالم الله الأصلي. وعندما تنتهي هذه المُهمّة، تنتهي أيضاً إقامته، إذ لا تجديد لها، كما في جواز سفرنا الأرضي، ونعود إليه تعالى، لنؤدّي حسابا.  كما في ترنيمة عيد الأموات، حيث نسمع: يفتح الله كتابا، يحوي عن كلٍّ حسابا.  الله يعطينا إقامة مؤقّته، لكن كافية لتتميم المُهِمَّة الموكولة لنا، ولتحقيق مشروع إلهي في هذا العالم. فالحياة هي هدية من الله، هديّة ثمينة، لأنّ قيمة الهديّة تُقاس بقيمة مٌهديها. أمّا ما نعمل بهذه الهدية فهو بين أيدينا، إذ قال المثل: الله خلق العالم، لكنّه ترك تتميمه علينا. وهذه نقطة مهمة لنا، وعلينا أن نعرف، أنَّ الله ينتظر منّا القيام بتتميم هذ العمل بكل دقّة ومسؤوليّة. العمل في حقل الله، له امتيازه الخاص، فهو عمل فخري، لا أُجرةَ له في هذه الدنيا، لكن أجرةَ ما نعمله له، يُعَدُّ تجميع كنز لنا في السماء، كما قال: إكنزوا لكم كنزا في السّماء لا يفنى. فنحن محظوظون بهذا الوعد الإلهي، إذ لا أحد يريد أن يعمل ويتعب سدىً طيلة الحياة، إن لم يكن لذلك أيُّ تقدير. أما الله فيُقدِّر كلَّ ما نفعل له في الخفية وهو سيجازينا في الخفية.  فلا فائدة من وضع اليد على المحراث والنّظر إلى الوراء، ونتساءل: ماذا عملنا؟ بل الأفضل النظر المتواصل إلى الأمام، فنرى، ليس فقط الطّريق، بل والهدف الّذي يجب أن نصل إليه: طريقنا هو المسيح: أنا الطّريق من سار خلفي لا يرى الظلام. دعوني أُنهي كلمتي بهذه الصلاة البسيطة: بتواضع نجثو أمامك يا الله، طالبين: أخلق فينا جوعاً كبيرا للسلام، وعطشا لا يروى للحق والعدالة. إجعلنا رحماء مع بعضنا البعض، وأعطنا الشجاعة أن نغفر لمن يُسيءُ إلينا, هذا واسمح لنا أن نساهم في نشر ملكوتك، الذي هو ملكوت سلام ومحبّة. آمين