موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢١

ذكرى جميع الموتى المؤمنين

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
ذكرى جميع الموتى المؤمنين

ذكرى جميع الموتى المؤمنين

 

موت إيفان إلِيتش

 

عاشَ إيفان إليتش (Ivan Ilyich)، بطلُ رواية الأديب الرّوسي ليو تولستوي (Leo Tolstoy)، حياةً بسيطة طَبيعيّة. وَكَغيرِه من النّاس، كان يَسعى للتّرقّي الوَظيفي والطّبقي. وفي نفسِ الوقت، يُعاني مِن زَوجتِهِ الْمُتطلِّبَةِ للغاية. فَبينَ العَملِ وبينَ العائِلة، مرّت سنواتُ عُمرِه. حتّى جاءَ يومٌ تَعرّضَ فيه إيفان إلى حادثِ سقوطٍ في البيت، وهو يُعلّقُ السّتائِر. تَأَذَى جُنبُه جرّاء هذه السّقطة، ولكنَّهُ لم يُعِر الأمرَ اهتمامًا، مُعتقِدًا أَنَّه ألمٌ بَسيط، سَيَزولُ مع الوقت. ولكنّهُ أَلَمٌ ما لَبِثَ أن تَفَاقَم، حتّى أَصبحَ لا يُحتمل. ولَمّا عَجِزَ الطّبيبُ عَن معرفةِ أسبابِه، وَفشِلَ في إيجاد عِلاجٍ يوقِفُ وَجَعَه، صارَ طريحَ الفراش، وأَخَذَت قوّتُهُ تَضعُف شيئًا فَشيئًا، حتّى باتَ يعدُّ الأيامَ لِموتِه!

 

كانَ إيفان رافِضًا لألَمِهِ ومُعاناتِه. ويرى أنَّ ما يَجري له هو شيءٌ تَعسّفي، ولا يستحقُّ ما يحدثُ مَعَه! كانَ إيفان يقولُ في نفسِه: لَقِد عِشتُ حياةً بسيطة وجَيّدة. فَلِمَاذا أَتَألّمُ هكذا، ولِماذا أسيرُ بِخُطى ثَابِتة نحو حَتفي الْمُحتّم؟!

 

كانَت حياةُ إيفان، حياةً اِعتياديّة، إلى أنْ جاءَ الموتُ يقرعُ بابَه! وَمَعَه جاءَت أسئلةٌ، ظلَّ يُؤجِّلُها، أو لم يخطُر يومًا على بَالِه أنْ يَسألَها! وَلِماذا يَسألُها، وهو الّذي يَعتقِدُ أنَّ فكرةَ الموتِ، فكرةٌ بعيدةٌ عنهُ وغريبةٌ عَليه! فَهوَ في أَوجِ عَطائِهِ، وفي طريقِهِ نحوَ القِمَّة، فَليسَ الوقتُ الآن لِكي يُفكّرَ بِها؟! كانَ إيفان يَعلم أنّه سيموت يومًا، ولكنَّهُ، لم يَتَخيّل أن تتدهورَ الأمورُ فجأةً بهذا الشّكل، ودون سابق إنذار!

 

في فِكْرِهِ، كان الموتُ شيئًا يحصلُ مع الآخرين. وَلكنَّهُ الآن، هو الْمَعنيُّ بالأمر، ولا يفصِلِهُ عن هذا الضّيفِ الْمَكروه، سوى أسابيع أو حتّى أيّام، قبلَ أن يَقتِحمَ حياتَه وَيسلِبَها! ولكنّ الرّوايةَ تَنتهي بِإنْ وَجَدَ إيفان السّلامَ، مُتَقَبِّلًا فكرةَ موتِه، مُتَصالِحًا مع نفسِه ومع عائِلتِه، ولَم يَعُد يخشى الموت، وكأنَّهُ قد اختفى ولم يَبقى لَه وُجود.

 

أيّها الإخوةُ والأخوات، قِصّة إيفان مع الموتِ هي قِصّتُنا نحن! فالموتُ ضيفٌ مُرعِب! لا أحد يُحبّ استقبالَه في بيتِه، أو في بيتِ أَحبّتِه! ومُجرّدُ السّماع عنهُ يُصيبُنا باضطراب. نَكرُه حتّى التّفكيرَ فيه، لأنّه يُرهِبُنا، يُقلِقُنا، يزرعُ فينا الخوفَ. نخشى موتَنا، ونخشى موتَ مَن نُحِب! لذلك نُؤثِرُ تجاهُلَ حقيقةِ فنائِنا يومًا ما.

 

حتّى المقابر لا نَزورُها إلّا مرّة في العام، هذا إذا زُرنَاها أصلًا. ليسَ لأن فيها كائِنات غريبة كَمَا يَتخيّل البعض، ولكن لأنّ القبور حقيقة صارخة، لا مجال لتكذيبِها، وتذكّرنا بما سنؤولُ إليه كلّنا بعدَ حين: الفقراءُ والأغنياء، الضّعفاءُ والأصحّاء، المؤمِنون والملحِدون... الكل سَيموت، فالفناءُ ليس مُجرّد حق، إنّما هو واجِب، وعليكَ أن تؤدّيه يومًا، فلا مفرّ مِنه.

 

وأنتَ في وافرِ قوّتك، ستكون مثلَ صديقِنا إيفان، لن تُفكّر بموتِك أبدًا، لأنّكَ بكامِل قواك. ولكن، عندما يَتَقدّمُ بِكَ العُمر وتضعفُ عافيتُك، وَتلتقطُ أَنفاسَكَ عندَ المسيرِ بِضعَ خطوات، أو حين تصعد ثلاث درجات، وتحلُّ بكَ كلّ أوجاع الدّنيا، وتَرى والديِكَ وإخوتَك وأقرانَك وزملاءَك في الغرفة الصّفيّة ومعارِفَك، قد سَبَقوك واحدًا تلو الآخر، وبعضهم يصغُرُكَ سِنًّا، عندها تعلم بأنَّ البابَ القادِم، قَد يكونُ بابك!

 

كَم يبعثُ فينا على الضّيق، أن نُغلِق الآن أَعيُنَنا، مُتَخيّلين عالَمًا لا مكان لَنا فيه! هَكَذا، مثل إيفان، نعيشُ حياتَنا، ونحنُ نتظاهرُ، أَنّنا لَن نموت. نتعاملُ مع وقتِنَا كَمَورِدٍ غَير محدود، إلى ما لا نهاية. نَحيا كَما كتبَ يومًا، الفَيلسوفُ الرّوماني سينيكا: ((تَعيش كَمَا لو كانَ مُقدّرًا لكَ أَن تحيا للأبد، ولا يخطرُ عَلى بالِكَ قَطّ، كَم أَنتَ هَش! لا تُدرِكُ كَم من الوقتِ قَد مرّ، وتُبعثِرُ ساعاتِكَ كَمَا لو كُنتَ تِمتلِكُ مِنها مخزونًا لا يَفنَى)).

 

قَد يُباغِتُنا الموتُ كالسّارق فجأة، ونحنُ لم نِعِش بعدُ الحياةَ التي نُريدها، أو لم نَحياها كما يَجِبُ أن نَحيا. قَد نَرحلُ فجأةً في ليلةٍ ظلماء صامِتة، ونُبقي وَراءَنا كومةً مِن الأحلامِ والتّطلُّعاتِ، لَن ترى نورَ يومٍ جديد لِكي تُحقّق، إذ قَد تحطّمت عند صخرةِ الموتِ الصّمّاءِ البارِدة!

 

تَذكارُ جميعِ الموتى، يُذكّرني بإنجيل الغَنيّ الجاهل: "يا غَبي، في هذهِ الّليلةِ تُستَردُّ نفسُك مِنك، فَلِمَن يكونُ مَا أَعدَدتَهُ" (لوقا 20:12) أَتّفقُ وبِشدّة، أن غالبيةَ البشر وأنا مِنهم، أَمامَ حَقيقة الْموت هم أَغبياء، ولا يفطنونَ ذلك إلّا عند انتهاء الوقت الْمُحدّد لِاستعمال الفِطنة!

 

قد يَرميني البعض بأنّني مُتشائِمٌ جِدًّا وسلبِيٌّ للغاية. فَليكن ذلك. ولكنّنا أعلمُ أّنّني بكلامي هذا، أُصيب منطقةً مُغلقةً في تَركيبَتِنا البشرية، لا نُحبُّ أن نَقتربَ منها، أو ننظرَ إليها، أو نُفكّر فيها، أو نتحدّثَ عنها، لأنّها ببساطة تُخيفُنا وتُرعِبُنا.

 

أيّها الإخوةُ والأخوات، حاضرون ومشاهدون، مُستمِعون وقارئِون: عندما تزورون موتاكم في قبورِهم، لا تَبكوا فالبكاءُ لا يُفيدهم بشيء. بل صَلّوا لأجل راحةِ نفوسِهم. وإذا أردْتُم البكاء فابكوا على نفوسِكم، كما خاطبَ الرّبُّ نِساء أورشليم الباكيات (راجع لوقا 28:23) عَلَّكم تُصيبون توبةً وندامة، تجنونَ ثمارَها في الأبدية السّعيدة، حيث لا صراخٌ ولا ألم، حيث يُكفكِف الله كلَّ دمعة من عيونِنا، حيثُ البرّ والسّلامُ والفرحُ الأبدي.

 

عندما تزورون موتاكم في قبورِهم، لا تَكتفوا بأخذِ دِلالِ القهوةِ والفناجين، ولا الخبز والْغرَيبة، ولا الفحمات والبخور ومجموعة من الورود، لست أدري من سَيَشُمّها! صلّوا بيتًا من المسبحة، أو مزمورًا من المزامير، يَكن أفضل لهم ولَكم. يمكنك أن تحمل معك كيسًا لوضع النُّفايات الّتي قد تكون حول القبر. ألا يستحقُّ منكَ عزيزك الرّاقد مكانًا كريمًا يليقِ به في رُقادِه، كما كان يُوفّر لكَ مكانًا كريمًا في صغرِك! فلماذا تقبلُ على موتاك، ما لم يقبلوه عَليكَ لَمّا كانوا معكَ في الوجود؟! للميت كرامة لا تقلُّ قيمةً عن كرامةِ الحيّ، وإلّا ما الفائدة من رجائِنا لقيامة الموتى؟!

 

على الأقل، إن كان والدِكُ قاسيًا معك أو غليظَ الطّبعِ، وإن كانت والِدتُكَ مُنحازة لأحد إخوتِك، ولم تشعر يومًا بعطفِها وحنانِها ولم تجِد منها سوى إهمالًا. فاذهب أمام قبرِه، واعقد معها مصالحة، تُريحك أنتَ، وتُصالِحُكَ مع ماضيك ونفسِك، وتشفي الجرح النّازفَ في قلبِك وذاكرتِك. فتذكارُ جميع الموتى أجملُ مناسبةٍ لعقدِ المصالحة، والصّفح عن أخطاءِ الماضي.