موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٢

"خروج الغُصنٌ مِن الجذعِ" بين كاتبي نبؤة أشعيا والإنجيل الأوّل

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (اش 11: 1- 10؛ مت 3: 1- 12)

سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (اش 11: 1- 10؛ مت 3: 1- 12)

 

مقدّمة

 

بدأنا في الاستعداد لسرّ تجسد الحب الإلهي، من خلال المقال السابق، لزمن مجيء يسوع في التاريخ لإتمام رسالته الخلاصيّة. استكمالاً لمسيرتنا الكتابية "مسيرة الخروج الإلهي" سنتبع "السير معًا" كخطة كنيستنا الكاثوليكية نحو "كنيسة سينودسيّة". يتضمن موضوع مقالنا اليوم "خروج الغصن من الجذع" وهو ما يشير لإتحاد أعضاء جسد المسيح وهم بمثابة الفروع، بالمسيح الّذي هو بمثابة الغصن الّذي يخرج من الجذع الإلهي. حاملاً حياة الثالوث لكل مَن يثبت فيه من الفروع أيّ البشر. من خلال خروج يسوع الإلهي، يتجسد يسوع بشريًا من نسل داود كاشفًا لنا عن مخطط الله ليس بالأنبياء أو بالرسائل بل في ذاته متجسداً (راج عب 1: 1-3). سنتعمق في هذا المقال عن وجه جديد لسرّ الخروج الإلهي وهو خروج الابن من النسل البشري الـمُتمثل في صورة "جذع يَسّى" بحسب نص أشعيا (11: 1- 10) بالعهد الأوّل. وفي مرحلة ثانية سنتعمق في خروج جديد ليوحنّا المعمدان وهو يعمد مبشراً بالتوبة كمفتاح لخروج يسوع بحسب إنجيل متّى (3: 1- 12). هادفين في هذا المقال لإستمراريّة مسيرة خروجنا للاتحاد بالابن الإلهي الّذي لا زَّال يخرج ليتحد بنا فنصير الأغصان الثابتة في الجذع وهو الله الآب.

 

 

1. خروج الغُصنٌ مِن الجذعِ (اش 11: 1- 10)

 

تفتتح الكلمة النبويّة لدى أشعيا بتشبيه يحمل معنى جوهري. يستعين النبي بتشبيه من حياة بني إسرائيل الزراعية الّتي كانت سائدة بالقرن الثامن قبل الميلاد. لترافقنا كلمة الله بمضمون الأصغريّة الّذي نقترب منه في زمن المجيء هذا من خلال مسيرة "خروج الغصن الجديد" من خلال النمو. التعبير النبوي الّذي أشار إليه النبي بقوله: «يَخرُجُ غُصنٌ مِن جذعِ يَسّى وَينْمي فَرعٌ مِن أُصولِه» (اش 11: 1)، هو تشبيه مأخوذ من حياة الفلّاحين البسطاء، التي تتميز بالأصغريّة. فقد تمّ إلقاء البذرة الّتي زُرعت بيد الله، وهو الزارع، في حياتنا البشريّة، ونَمَّت بفضل أمانته لعهده مع البشر الّذين تجاوبوا مع ندائه. حينما تمرّ البذرة بمراحل النمو الطبيعية من نمو الجذع والساق والأوراق وصولاً للثمرة. وهنا تحملنا الكلمة النبويّة للتنبه لأصغر الأشياء الطبيعية الّتي يمكن للإنسان إدراكها، فيها يتدخل الله ليكشف عن سرّه العظيم.

 

في مرحلة تاليّة، يشير النبي بالتدريج إلى ملء الحياة الّتي يحملها هذا الجذع والّتي تكمن في استكمال مسيرة نمو الغصن أيّ "خروج الغصن من الجذع". الجذع هو تشبيّه لشجرة نسل يسوع البشري الّتي تجذرت في نسل يَسّى ابن عوبيد. وهو من الشخصيات الكتابيّة الّتي ظهرت قليلاً بالنصوص الكتابيّة إلّا أنها تركت أثراً كبيراً، شخصية عوبيد. نعلم أن عوبيد وُلِدّ من راعوث وبوعز (راج را 4: 10ت؛ مت 1: 4- 7). عوبيد هو أب يَسّى، ويَسّى هو أب داود، وداود هو أصل يوسف، خطيب مريم البتول وأمّ يسوع. يوسف هو الّذي صار حارسًا للطفل الإلهي، وأعطاه اسمًا بشريًا في التاريخ فصار من نسله، لذا لقبّه الإنجيليين بـ "ابن داود". لذا يتجسد في يسوع معنى "الغصن المستقبلي" الّذي تنبأ قبلاً أشعيا قبلاً به في أصغريته. ووجدت كلمته النبويّة ملئها في شخص يسوع الّذي له جذور إلهيّة، فهو الّذي خرج من الله الآب (راج يو 1: 18) وأيضًا جذور بشرية فهو من نسل يَسّى.

 

تؤكد هذه النبوءة أنّه لا حياة للغصن الّذي لا يثبت في الجذع (راج يو 15: 1- 10)، هكذا لا حياة للإنسان الّذي يفقد جذوره الّتي مُنحت له منذ الخلق بيدي الله الآب. بهذه الكلمات يتنبأ أشعيا عن رمزية الغصن الجديد الذّي ينمي النسل البشري الناتج من نسل يَسّى وهو يسوع الابن. ويستمر النبي بكشف سمات الرُّوح الّتي ستحلّ على الابن-الغصن بالهبات التالية: «روحُ الحِكمَةِ والفَهْم روحُ المَشورَةِ والقُوَّة روحُ المعرفةِ وتَقوى الرَّبّ» (اش 11: 2). ستتحقق هذه النبوءة في يسوع المتجسد فهو بمثابة الغصن الّذي سيمنح نمو الخلاص لكل البشر بالحياة الأبديّة. وهو الّذي بميلاده سيخرج من جذع يَسّى (راج مت 1: 15- 16).

 

بذات السمات الصغيرة الّتي كشف عنها أشعيا "الغصن والجذع"، نسمعها مع صموئيل، في كلمات يَسّى الّذي أنجب سبعة أبناء ذكور سابقين لداود ولكننا نسمع يَسّى الأب في حواره مع صموئيل يصف داود بقوله: «قد بَقِيَ الأصغر، وهو يَرْعى الغَنَم» (1صم 16: 11). يذكر يَسّى أنّ أصغر أبنائه هو الّذي سيصير الجذع من خلال ثبات قلبه في الله ولذا سيُثبت الله قلبه فيه من خلال ابنه يسوع-الغصن الّذي خرج من حضن الآب، ليتجسد في البشريّة وسيصير مستقبلاً الراعي والمخلص لها.

 

 

2. أصغريّة المعمدان (3: 1. 4)

 

يتضح أصغريّة يوحنّا في حياته وعظته: «في تِلكَ الأَيَّام، ظهَرَ يُوحنَّا المَعمَدان يُنادي في بَرِّيَّةِ اليَهودِيَّةِ [...] كانَ على يُوحنَّا هذا لِباسٌ مِن وَبَرِ الإِبِل، وحَولَ وَسَطِه زُنَّارٌ مِن جِلْد. وكان طَعامُه الجَرادَ والعَسلَ البَرِّيّ» (مت 3: 1 .4). المعمدان هو أوّل من إختبر هذه الحياة البسيطة من خلال معايشته التوبة، مُبتدأً بها من خلال التغييّر في ذاته متجهًا نحو الصحراء مما يعني تخليه عن مقرات السلطة والمؤسسات. بالرغم من إنّ المعمدان هو ابن الكاهن زكريا، إلا إنّه تخلى بإرادته عن إرتداء الثياب الكهنوتية الّتي تنتمي لنسله بالميراث. أدرك المعمدان أنّه من الضروري البدء معايشة رسالته ليس بالكلام بل بالحياة وبطريقة جديدة.

 

نقطة إنطلاق المعمدان هي "البدء من الصحراء" الّتي بالقرب من نهر الأردن. وهي نقطة لّاهوتية جوهرية إذ "خرج" من مدينة اليهوديّة سائراً عكس تيار معاصريه، وأيضًا عكس الإتجاه الّذي سلكه قبلاً بني إسرائيل عند دخولهم أرض الميعاد من ناحية الأردن. فهو يخرج بشكل عكسي ذاهبًا نحو الصحراء. ومن خلال "خروج المعمدان" عن المعتاد جَسَدَّ الرسالة الّتي نادي بها والّتي سيموت لاحقًا شهيداً لأجلها (راج مت 11). يدعونا المعمدان بخروجه من المدينة إلى الصحراء لأنه هناك بدأ بتهيئة قلوب اليهود، داعيًا إياهم للتوبة. الصحراء هي المكان الذي خرج الله فيها ليرافق شعبه ليلاً ونهاراً في عمود النار والغمام؛ مكان العلاقة الحميمة (راج هو 2: 1- 5)؛ ومكان تلقي الشريعة (راج خر 20: 1- 7)، وهي الطريق الّتي وصل بها بني إسرائيل إلى أرض الميعاد. بينما خرج الشعب من مصر ليدخل أرض الميعاد، فدخولهم لأرض الموعد تطلّبت خروجهم. لذا خرج المعمدان للصحراء ليدخل بكل بني إسرائيل في مسيرة توبة ولقاء بالرّبّ الّذي سيأتي لأجلهم.

 

 

3. توبة أم خروج؟ (مت 3: 2)

 

أوّل كشف من متّى الإنجيلي عن شخصية المعمدان أثناء لقائه ببني إسرائيل قائلاً: «توبوا [metanoeite] قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات» (3: 2). تكشف أوّل كلمات المعمدان عن لفظ جوهري وهو "توبوا" هذا اللفظ خاص بزمن المجيء. في اللغة اليونانيّة "التوبة" يعني تغيّر القلب والفكر معًا. "خروج" المعمدان إلى الصحراء حَمَلَّ رسالة "توبة" لحياته، فهو لم يرغب في البقاء مُغلقًا في برج قلعته الداخلية الكهنوتية بحسب نسله بل خرج من نفسه ليكون شاهدًا لـمَن سيخرج لاحقًا كالغصن الجديد الّذي يُنمي البشرية بالجديد وهو "الملكوت". الكلمة الأوّلى للمعمدان تدعونا للخروج كفعل حقيقي للتوبة، الخروج من المعتاد بتغييّر طريقة التفكير الشخصية لقبول طريقة فكر الله الجديدة الّتي ستظهر في الابن الحامل الملكوت. قبولنا اليوم لرسالة المعمدان تتطلب التفكير فيما يخص الملكوت، الّذي سيُجسدّه يسوع في ذاته، قريبًا بتجسده على الأرض. مدعوين في زمن المجيء هذا بقبول حقيقة الله الّذي يأتي للقائنا بخروجنا من خلال التوبة الّتي تتم بتغييّر فكرنا عما هو زائف عن الله ومشاعر القلب السلبية. في مسيرة خروجنا من ذواتنا علينا بالتحلي بالتواضع لنخرج حقيقة دون البقاء في الماضي أو التقوقع على الذات. والخطر هو بقائنا كما نحن دون تغييّر لحين موعد ذكرى ميلاد الرّبّ وهو الغصن الجديد الّذي سيُنمينا. علينا بالخروج بانفتاح القلب ولإفساح المجال له، والتحلي بالصدق في مسيرة الخروج اليومي التغيريّة لإدراك أنّه هو الوحيد الّذي سيفجر الحياة الأبديّة.

 

 

4. خروج الثمار (مت 3: 7- 8)

 

قد تبدو لنا كلمة المعمدان للفِرِّيسيِّينَ والصَّدُّوقيِّينَ: «يا أَولادَ الأَفاعي، مَن أَراكم سَبيلَ الهَرَبِ مِنَ الغَضَبِ الآتي؟ فأَثمِروا إِذاً ثَمَراً يَدُلُّ على تَوبَتِكم» (3: 7- 8)، ككلمة قاسية. وهذا حقيقي لأنها مباشرة وتدعونا بحجيّة للتخلص مِن وهمّ الرغبة في البدء من جديد دون الخروج من الذات بتغييّر حقيقي. يحذرنا المعمدان كفريسيّ وصدّوقيّ عصرنا، ومعارضيّن للجديد الّذي يحمله يسوع، حينما نرفض التغيير الذي يقدمه لنا. وغالبًا مقاومتنا الباطنية هي الّتي تمنعنا من التغييّر الحقيقي. وقد يتضح في التعلق بالطقوس الصارمة وحفاظنا على حياة مريحة، كوسائل تقضي على نمو الغصن لاتحادنا به وتُحملنا المسئولية بخروج ثمار أصلها اتحادنا به وبالتخلص من سُبات عدم التوبة.

 

 

الخلّاصة

 

خروج الغصن هو بمثابة بداية جديدة، كل تحدي ومخاطرة يتطلب خروج. بحسب أشعيا الّذي كشف عن "خروج الغصن" من الجذع الإلهي والبشري لأجل أن يدخل بنا في إتحاد بالله الآب. إستعان أشعيا بصورة "خروج الغصن من جزعه" لنخرج نحن بدورنا بنمونا من خلال الإتحاد بطبيعتنا البشرية لنتحد بطبيعته الإلهيّة. مدعوين في زمن المجيء هذا للخروج من خلال التوبة أيّ التغييّر الجذري كالمعمدان. التجاوب مع الغصن الّذي لا زال يخرج ليُنمي حياة الملكوت فينا، يعود لإرادتنا. الخروج يعني التوقف عن شيء ما، بما يتحمل هذا القرار بالبدء في المجازفة. بنهاية نص أشعيا يروي: «في ذلك اليَومِ أَصلُ يَسّى القائِمُ رايَةً ِلشُّعوب إِيَّاه تَلتَمِسُ الأُمَم ويَكونُ مَكانُ راحَتِه مَجداً» (11: 10). يقترب هذا اليوم الّذي يكون أصل يَسّى، وهو المسيح مركز الشعوب والمجد هو راحته، فهل هو أيضًا مركزنا؟ دُمتم، أيها القراء الأفاضل، في ثباث بالغصن الـمـُمجد، يسوع.