موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر Saturday, 4 June 2022

حضور المسيح في الكنيسة من خلال الروح القدس

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
أحد العنصرة: حضور المسيح في الكنيسة من خلال الروح القدس (يوحنا 14: 15-16، 23-26)

أحد العنصرة: حضور المسيح في الكنيسة من خلال الروح القدس (يوحنا 14: 15-16، 23-26)

 

النص الإنجيلي (يوحنا 14: 15-16، 23-26)

 

15 إِذا كُنتُم تُحِبُّوني، حَفِظتُم وَصاياي. 16 وَأَنا سأَسأَلُ الآب فيَهَبُ لَكم مُؤَيِّداً آخَرَ يَكونُ معَكم لِلأَبَد. 23 أَجابَه يسوع: ((إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً. 24 ومَن لا يُحِبُّني لا يَحفَظُ كَلامي. والكَلِمَةُ الَّتي تَسمَعونَها لَيسَت كَلِمَتي بل كَلِمَةُ الآبِ الَّذي أَرسَلَني. 25 قُلتُ لَكُم هذه الأَشياءَ وأَنا مُقيمٌ عِندكم 26 ولكِنَّ المُؤَيِّد، الرُّوحَ القُدُس الَّذي يُرسِلُه الآبُ بِاسمي هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء ويُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُه لَكم.

 

مقدمة

 

وعد سيدنا يسوع المسيح تلاميذه في خطاب الوداع بعد العشاء الأخير (يوحنا 14: 15-26) أن يظلَّ حاضراً معهم بالرغم من رحيله عنهم، عن طريق إرسال الروح القدس إليهم في يوم العنصرة. ويوم العنصرة هو تكليل مسيرة فرح القيامة واختتام الزمن الفصحى. والعنصرة تشكّل جوهر الحياة المسيحيّة ومُنطلقاً أساسياً لولادة الكنيسة من خلال حلول الروح القدس على التلاميذ في اليوم الخمسين بعد قيامة يسوع من الموت بناء على وعد المسيح " إِنِّي أُرسِلُ إِلَيكم ما وَعَدَ بهِ أَبي. فَامكُثوا أَنتُم في المَدينَة إِلى أَن تُلبَسوا قُوَّةً مِنَ العُلى" (لوقا 24: 49)؛ أنّ الرُّوح القدس هو العامل الأساسي في البشارة الإنجيليّة: فهو الذي يدفع كلّ امرئ إلى إعلان الإنجيل، وهو الذي داخل قرارة الضمائر يدفع كلّ إنسان إلى قبول وإدراك "كلمة الخلاص". ويعلق البابا بندكتس السادس عشر، "الكثيرون يعترفون أنّهم مسيحيّون، لكنهم لا يستطيعون أن يُدلوا بشيْ عن الرّوح القدس، الذي هو حياة الكنيسة". ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 14: 15-16، 23-26)

 

15 إِذا كُنتُم تُحِبُّوني، حَفِظتُم وَصاياي

 

تشير عبارة " تُحِبُّوني " إلى صدى سفر الحكمة " المَحبَةُ هي حِفظُ شَرائِعِ الله" (الحكمة 6: 18). وليست المحبّة مجرّد عواطف، بل عمل يتجسّد في الحياة اليوميّة.  تتجسّد المحبة في حياة خدمةً للآخرين، خاصةً لمن هم بالقرب منّا.  المحبة تقودنا إلى طاعة كل أوامر المسيح: كمحبة بعضنا لبعض وإنكار ذواتنا وحملنا صليبنا وإتباعنا المسيح.  ويؤكّد شارل دي فوكو قائلاً: "عندما نحبّ إنسانًا، نتحّد به حقًا بواسطة المحبّة، ولا نعود نعيش لذواتنا، بل "نتخلّى" عنها، فنعيش "خارج" ذواتنا". لكن اليوم نحن نُخاطر بأن نُصبح بابل عصرنا، أيّ مُشتَّتين، لأننا نُفرغ ذواتنا من الله.  أمَّا عبارة "حَفِظتُم" فتشير إلى العمل بالوصايا وطاعتها وليس استظهار كل كلمة من المسيح.  ومحبتنا تُختبر في حفظ الوصايا -أي إطاعتها -حيث أن المحبة لا تكون بالكلام والعواطف فقط، بل بحفظ وصايا يسوع أيضا، كما يؤكد يوحنا الرسول “لا تَكُنْ مَحبَّتُنا بِالكلام ولا بِاللِّسان بل بالعَمَلِ والحَقّ" (1 يوحنا 3: 18). ولهذا السبب يضيف "مَن قالَ: إِني أَعرِفُه ولَم يَحفَظْ وَصاياه كان كاذِبًا ولَم يَكُنِ الحَقُّ فيه" (1 يوحنا 2: 4). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "الله يطلب الحب الذي يظهر بالأعمال". وصايا الله هي إثبات لحبِّه لنا، وإطاعة وصاياه هي تعبيرٌ لحبِّنا له. أراد المسيح أن يُظهر له تلاميذه محبتهم بعد مفارقته إياهم بطاعتهم له لا بمجرد دموعهم وأقوالهم.  أمَّا عبارة "وَصاياي" في الأصل اليوناني ἐντολὰς فلا تشير هنا إلى تعليمات قانونية، إنَّما تتضمن فكرة شريعة الوحي الإلهي، وبالتالي فالوصايا هي أساس الحياة الدينية والاجتماعية. وقد اختار الرب يسوع نفس الكلمة "وصية" التي تصف شريعة العهد القديم، مما يعنى أن لوصيته نفس السلطان الذي للشريعة. فيسوع المسيح أعطى تلاميذه طريقا أو درباً ونظاما للحياة، ونسقاً في العمل أساسه الحب. كيف نعيش حفظ الوصايا اليوم؟

 

16 وَأَنا سأَسأَلُ الآب فيَهَبُ لَكم مُؤَيِّداً آخَرَ يَكونُ معَكم لِلأَبَد

 

تشير عبارة "سأَسأَلُ الآب" إلى شفاعة المسيح أمام الآب، بعد موته وصعوده، كما جاء في قول صاحب الرسالة إلى العبرانيين " فهُو لِذلِك قادِرٌ على أَن يُخَلِّصَ الَّذينَ يَتَقَرَّبونَ بِه إِلى اللهِ خَلاصًا تامًّا لأَنَّه حَيٌّ دائمًا أَبَدًا لِيَشفَعَ لَهم" (العبرانيين 7: 25)، حيث أن المسيح أرسل لنا روحه القدوس عندما افتدانا بدمه على خشبة الصليب. والروح القدس هو الذي يساعدنا على حفظ الوصايا. ومن يحب يطيع الوصايا، والروح القدس هو الذي يعطينا المحبة كي نحفظ الوصايا. لذا فإنَّ إرسال الروح من قبل الآب هو تلبية لطلب يسوع ويرتبط برسالته ارتباطا وثيقا (يوحنا 14: 13-14). ولذلك فإن حضور الروح القدس فينا مرتبط بصلاة المسيح. وفي نفس الوقت، الروح هو العطية المثلى التي يعطيها الآب لسائليه (لوقا 11: 13). أمَّا عبارة "فيَهَبُ لَكم" فتشير إلى الآب الذي يُرسل الروح القدس كما عُيِّن في عهد الفداء منذ الأزل. أمَّا عبارة "مُؤَيِّداً" في الأصل اليوناني παράκλητος وفي الآرامية מנחמנא (معناها من يُدعى إلى جانب الشخص) وفي العبرية "מֵלִיץ" (معناها معزّي) فتشير إلى لفظ مقتبس من لغة القانون ويدل على من يسُتدعى لدى المتَّهم للدفاع عنه ليساعده في التحقيق أمام المحكمة.  وحيث لنا من يشكونا وهو الشيطان كما صرّح يسوع لتلاميذه " كُنتُ أَرى الشَّيطانَ يَسقُطُ مِنَ السَّماءِ كالبَرْق" (لوقا 10: 18) يكون لنا أيضا من يدافع عنا، الروح البراقليط المؤيد.  هذا هو الوعد الرابع لتعزية التلاميذ وتشجيعهم، وهو مقترن بحفظ وصاياه وشرط ضروري لنيله. فالمعنى الأول لكلمة "مُؤَيِّداً" هو المحامي والمساعد والمدافع والشفيع (1 يوحنا 2: 1). ويُعلق القديس ايرينيوس"وعد الرب أن يُرسل الروح البراقليط (المؤيِّد) الذي يجعلنا أهلا لله" (Sources Chrétiennes34, 302).   وبناءً على هذا المعنى، ظهرت معان أخرى كالمُعزِّي والمشجّع. فالمسيح عزّى تلاميذه حين كان معهم بالجسد، وإذ يفارقهم بالجسد يُرسل لهم روحه القدوس معزيًا آخر. وهذه اللفظة تدل تارة على الروح القدس الذي يتابع عمل يسوع، ويعاون التلاميذ في اتهام العالم لهم. ووظيفته هي أنَّ يبكت (يوحنا 16: 8) وان يشهد (يوحنا 15: 26) وان يعلّم (يوحنا 14: 26)، ويرشد الحق كما صرَّح يسوع "لأَنَّه يَأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه" (يوحنا 16: 14)، فهو يعزِّي ليس فقط بالمواساة بل أيضا بإعلان طبيعة يسوع وعمله. هذا الروح يبقى معنا. لا يحل محل يسوع الذي هو معنا إلى نِهايةِ العالَم (متى 28: 20)، ويعمل عمل التقديس في الكنيسة، دون أن يكون حدود له في الزمان والمكان (يوحنا 15: 26 و16: 7). ويدل الروح القدس أحيانا على المسيح (1 يوحنا 2: 1). أمَّا عبارة " مُؤَيِّداً آخَرَ " فتشير إلى الروح القدس، لان يسوع هو المُعزِّي الأول كونه مع تلاميذه بالجسد (لوقا 2: 25). أمَّا عبارة "يَكونُ معَكم لِلأَبَد" فتشير إلى موهبة الروح الذي تُعطى بلا سقف زمني، وهي تضمن للأبد الاتحاد بالمسيح الذي يهب الروح (يوحنا 18: 20). فالروح القدس يبقى مع كل واحد من الرسل إلى نهاية حياته ومع والكنيسة دائما. هذه الآية دليل على الثالوث، إذ ذُكر فيها الثلاثة الاقانيم: الابن الطالب، والآب المجيب، والروح القدس المُرسل والمعزي.

 

23 أَجابَه يسوع: إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً

 

تشير عبارة " أَجابَه يسوع " إلى توجيه كلامه إلى يهوذا، إثر دهشته أن يسوع يُظهر ذاته لتلاميذه دون العالم. ويهوذا هو أخ يعقوب (لوقا 6: 16)، وأحد أقرباء يسوع المسيح حسب الجسد (متى 13: 55)، وهو كاتب رسالة يهوذا. ومن خلاله يوجّه يسوع خطابه لا إلى تلاميذه وحدهم، بل إلى كل المؤمنين الذين يُحبُّونه؛ أمَّا عبارة "إذا " فتشير إلى الارتباط بجملة شرطية حيث انه لن تكون لنا إمكانية شركة الحياة مع الله إلا إذا سكنّا في المحبة وقبلنا حبّ الله لنا. أمَّا عبارة "إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي" فتشير إلى جملة شرطية تفيد إمكانية التحقق ولم يُستخدم أداة الشرط "إنْ" التي تُسْتَعْمَلُ غالباً إذا كان الشّرطُ أمراً مشكوكاً في وقوعه مستقْبلا. الشرط هنا أمْرٌ مُتَحقِّقُ الوقوع، أو مَرْجُوَّ الوقوع حيث أنَّ المحبة هي الشرط الذي تنبع منه الطاعة الكاملة لكلمة الله ووصاياه، والشركة الروحية مع الله أيضا. وترتبط الطاعة للوصايا بالمحبة (يوحنا 15: 21).  ولذلك تكمن الشهادة الحقيقية لحبنا للسيد المسيح في الطاعة لوصيته. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "لا يكفي أن نقتني الوصايا فقط، لكننا نحتاج إلى حفظها". وحفظ كلامي لا يعني خزْن المعلومات وتذكرها فقط، ولا يعني أيضا استيعابها وفهمها وتحليلها والاقتناع بها فقط، أنما يعني هنا العمل بها وتطبيقها وتحويل المعرفة إلى حياة. فالكلام يختلف عن الأفعال كما قال جبران خليل جبران في قصيدته "المواكب" أعطني الناي وغنِّ، فالغنا سرُّ الخلود وأنين الناي يبقى. بعد أن يفنى الوجود أعطني الناي وغنِّ وانسَ ما قلتُ وقلتَ، إنما النطقُ هباءٌ فأفدني ما فعلتَ". والمقصود أن الكلام قد يذهب أدراج الرياح أمَّا الأفعال فتبقى. إذن نكون أحباءَ الرب عندما نعمل بوصاياه، مترجمين كلماته إلى عمل؛ حيث أنَّ المحبَّة ليس مجرد شعور، بل حياة الطاعة. لقد كان يسوع أول من اختبر هذه الطاعة للآب ساعيًا لتحقيق إرادته كما تؤكده صلاته في الجسمانية " يا أَبتِ، إِن أَمكَنَ الأَمْرُ، فَلتَبتَعِدْ عَنِّي هذهِ الكَأس، ولكن لا كما أَنا أَشاء، بَل كما أَنتَ تَشاء!" (متى 26: 39)؛ من يحب يبقى أمين لكلمة المسيح. أمَّا عبارة " فأحَبَّه أَبي " فتشير إلى محبة الآب للابن، وهو يُحب مُحبِّيه. أمَّا عبارة "نأتي إِلَيه" فتشير إلى يسوع وإلى الآب، وهذه إشارة الوحدانية مع الآب.  فيسوع المسيح والآب واحد. وهذا ما نادى به أيضًا بولس الرسول إلى أهل قورنتس "لْتَكُنْ نِعمةُ رَبِّنا يسوعَ المسيح ومَحبَّةُ اللهِ وشَرِكَةُ الرُّوحِ القُدُسِ معَكُم جَميعًا" (2 قورنتس 13: 13).  ومعنى كلام الرب إن أردتني أن أظهر لك فأعمل ما يُحبُّه الآب. أمَّا عبارة "مُقام" فتشير إلى حضور وسكنى الآب والابن في المؤمنين (رؤيا 3: 20)، إذ يجعل الله الآب والابن والروح القدس من قلب المؤمن مسكنًا أو هيكلا إلهيًا، ومن هنا أصبح كلُّ إنسانٍ مدعواً ليكون سُكنى الله، ويُعلق القديس أوغسطينوس "لا يسكن الروح في إنسانٍ دون الآب والابن، ولا الابن أيضًا دون الآب والروح القدس، ولا الآب دونهما. سكناهم غير منفصل"؛ ولذلك بعد اليوم لا يكون هيكل اورشليم موضع حضور له (حزقيال 27: 26)، بل قلب المُحبّين الذين يحفظون وصايا يسوع المسيح.  وهذا ما أكَّده بولس الرسول "نَحنُ هَيكَلُ اللَّهِ الحَيّ، كما قالَ اللّه: سأَسكُنُ بَينَهُم وأَسيرُ بَينَهُم وأَكونُ إِلهَهُم وَيَكونونَ شَعْبي" (2 قورنتس 6: 16). ويؤكد أيضا بطرس الرسول: "أَنتم أَيضًا، شأنَ الحِجارَةِ الحَيَّة، تُبنَونَ بَيتاً رُوحِياً فَتكونونَ جَماعَةً كَهَنوتيَّة مُقدَّسة، كَيْما تُقَرِّبوا ذَبائِحَ رُوحِيَّةً يَقبَلُها اللهُ عن يَدِ يَسوعَ المسيح" (1 بطرس 5:2). ويُعلق القديس أوغسطينوس "هذه السكنى هي سكنى روحية تتحقق داخليًا في الذهن وتجلب بركة أبدية للذين يقبلونها".  وهنا يُجيب يسوع بصورة غير مباشرة انه هو وأبوه يقيمان بوجه نهائي عند الذين يحفظون وصاياه بمحبة. وهكذا يتحقق طموح المؤمنين الذين عاشوا في العهد القديم وتساءلهم "هل يَسكُنُ اللهُ حَقًّا على الأَرضَ؟" (1 ملوك 8: 27). وهكذا يجيب يسوع أيضا على سؤال تلاميذ يوحنا " أَينَ تُقيم؟ " (يوحنا 1: 38) فنجد الجواب النهائي على سؤال مكان إقامة الله.  وهذا الأمر يؤكده بولس الرسول "فنَحنُ هَيكَلُ اللَّهِ الحَيّ، كما قالَ اللّه: أَسكُنُ بَينَهُم وأَسيرُ بَينَهُم وأَكونُ إِلهَهُم وَيَكونونَ شَعْبي" (2 قورنتس 6: 16). وهكذا أقام الله عهدا مع الإنسان، قوامه أمانة الله تجاه الإنسان بمحبته وعنايته، وأمانة الإنسان لله تكمن بالسماع إلى كلامه وحفظ وصاياه، لكي يعيش سعيداً ويُسعد عائلته ومجتمعه ووطنه. فمن يستضيف الله على الأرض يستضيفه الله في السماء. فالله سكن مع المؤمن على الأرض، والمؤمن يسكن مع الله في السماء. وفي هذه الآية نجد إجابة يسوع على سؤال يهوذا تداوس، هو أخو يعقوب كاتب الرسالة (يوحنا 14: 22) وهي أنَّ يسوع المسيح سيظهر لتلاميذه وسيرونه ولكن ليس بالجسد كما يفهم يهوذا، ولن يراه سوى من يحبه ويحفظ وصاياه. لان يهوذا لم يفهم أن الظهور الذي كان يقصده الرب هو ظهور روحي، إنما كان يتوقع أن يملك المسيح على أورشليم ملكًا سياسيا ارضيا. فجواب يسوع يُبيّن الطبيعة الحقيقية لملكوته ويُحدِّد شروط ظهوره: الحبّ وحفظ الوصايا. فالإيمان الذي يطلبه يسوع ليس مبنيّاً على الخوف، أو على الدهشة، إنما على الحبّ. وحفظ الكلام هو التطبيق العملي للحبّ الإلهيّ.

 

24 ومَن لا يُحِبُّني لا يَحفَظُ كَلامي. والكَلِمَةُ الَّتي تَسمَعونَها لَيسَت كَلِمَتي بل كَلِمَةُ الآبِ الَّذي أَرسَلَني

 

تشير عبارة "مَن لا يُحِبُّني" إلى الذي يرفضني، والذي يرفضني يرفض كلامي، وذلك لأنه ينجرف في تيار محبة العالم ويتنكر لله وكلماته، كما جاء في تعليم يعقوب الرسول: "أَلا تَعلَمونَ أَنَّ صداقَةَ العالَمِ عَداوةُ الله؟ فمَن أَرادَ أَن يَكونَ صَديقَ العالَم أَقامَ نَفْسَه عَدُوَّ الله" (يعقوب 4:4)؛ أمَّا عبارة "لا يَحفَظُ كَلامي" فتشير إلى عدم الطاعة.  فلا طاعة بدون محبة، وهي إجابة على سؤال يهوذا" يا ربّ، ما الأَمرُ حتَّى إِنَّكَ تُظِهرُ نَفْسَكَ لَنا ولا تُظهِرُها لِلعالَم؟"، فالعالم لا يحب المسيح وبالتالي يرفضه. أمَّا عبارة "الكَلِمَةُ الَّتي تَسمَعونَها لَيسَت كَلِمَتي بل كَلِمَةُ الآبِ الَّذي أَرسَلَني" فتشير إلى رفع مستوى الكلام الذي يتكلم به يسوع إلى مستوى الرسالة الإلهية. فمن لا يحفظ أقوال المسيح، وهي نفسها أقوال الآب، فهو لا يحب الله الآب. هذه الآية بمعنى الآية التي قبلها " إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي " (يوحنا 14: 23) إلا إنَّها في صورة سلبية، فلا طاعة حيث لا محبة ولا مكافأة حيث لا طاعة. والمكافأة هنا محبة الآب وسكناه مع الابن في القلب وإظهار المسيح ذاته.  يسوع لا يُظهر نفسه للعالم، لان العالم برفضه للمسيح يوصد باب الاتصال بين الآب والقلوب. أمَّا عبارة " لَيسَت كَلِمَتي بل كَلِمَةُ الآبِ الَّذي أَرسَلَني" فتشير إلى كشف يسوع للتلاميذ سلطان كلامه وأهميته، إذ يصرح يسوع هنا أن كلامه وكلام الآب معا فالذي يرفض كلامه يُهين الآب، لأنه كلامه أيضا، والذي يقبله يكرم الآب.

 

25 قُلتُ لَكُم هذه الأَشياءَ وأَنا مُقيمٌ عِندكم

 

تشير عبارة "قُلتُ لَكُم هذه الأَشياءَ" إلى تعاليم يسوع لتلاميذه التي تفوه بها يسوع استعدادا لذهابه وتسليمه إياهم إلى معلمٍ آخر وهو الروح القدس لتذكيريهم بها وإيضاحها وتعليمهم؛ أمَّا عبارة "أَنا مُقيمٌ عِندكم" فتشير إلى وجود المسيح بالجسد، وهو يُعلم ويتكلم بشخصه، ويُودع كلامه أمانة عند تلاميذه إلى أن يرسل لهم الروح القدس مُعلمًا إياهم كل شيء ومُذكّرًا إياهم بكلامه وتعاليمه.

 

26 ولكِنَّ المُؤَيِّد، الرُّوحَ القُدُس الَّذي يُرسِلُه الآبُ بِاسمي هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء ويُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُه لَكم.

 

عبارة " المُؤَيِّد" في الأصل اليوناني الباراقليط παράκλητος (معناها المحامي وفي الآرامية מנחמנא) تشير إلى الروح القدس، والتي تردّدت هذه اللفظة أربع مرات في إنجيل يوحنا (يوحنا 14: 16، 26 و16: 15 و16: 7) ومرة واحدة في رسالة يوحنا (1يوحنا 3: 24). والمعنى الحرفي للفظة الباراقليط هو ذاك الذي يقف قرب المُتَّهم ويدافع عنه في المحاكم أمام القضاء، لذلك دُعي المحامي، لأنه يتدخل أمام عدالة الآب لحساب الخطأة، ودُعي أيضا "الشفيع "(1 يوحنا 2: 1) إذ أن "الرُّوحَ نَفسَه يَشفَعُ لَنا بأَنَّاتٍ لا تُوصَف" (رومة 8: 26)؛ وهذا الروح نفسه يُدعى المُعزِّي، لأنه إذ يعد رجاءً في الغفران للذين يحزنون على خطاياهم. وهو يقوّي، ليس فقط بالمؤاساة بل أيضا بإعلان طبيعة يسوع وعمله؛ إن هذه الآية تُثبت أقنوم الروح القدس. وهذا ما يوكّده بولس الرسول "ولْتَكُنْ نِعمةُ رَبِّنا يسوعَ المسيح ومَحبَّةُ اللهِ وشَرِكَةُ الرُّوحِ القُدُسِ معَكُم جَميعًا" (2 قورنتس 13: 13). وإن وظيفة الروح هي أنَّ يُبكت "يُخْزي العالَمَ على الخَطيئِة والبِرِّ والدَّينونَة"(يوحنا 16: 8) وان يشهد (يوحنا 15: 26) وان يُعلّمنا ماذا نقول في الصلاة (رومة 8: 26-27) ويُعلمنا كل شيء يخصُّ المسيح: مجده وعظمته ومحبته وطبيعته فيكون لنا رؤية صحيحة عن المسيح فنحبَّه (يوحنا 16: 14). أما عبارة " الرُّوحَ القُدُس " فتشير إلى المؤيّد مفسرًا إيَّاه، وهو الأقنوم الثالث من اللاهوت. "، ويعلق البابا بندكتُس السادس عشر "إنّ اسم الرُّوح القدس، الأقنوم الثالث، ليس تعبيرًا عن شخصيّة معيّنة. بل هو يعبّر عمَّا هو مشترك مع الله. هنا، تظهر خصوصيّة الأقنوم الثالث: إنه "ما هو مشترك"، وحدة الآب والابن، الوحدة بحدّ ذاتها"( الربّ يسوع المسيح، 2013). ووُصف الروح القدس بالقداسة، لانَّ وظيفته تقديس قلوب الناس، كما جاء في تعليم بولس الرسول "إِنَّ اللهَ هو الَّذي يَعمَلُ فيكُمُ الإِرادَةَ والعَمَلَ في سَبيلِ رِضاه " (فيلبي 2: 13)، ويعمل عمل التقديس في الكنيسة، دون أن يكون لعمله حدود في الزمان والمكان. ووُصف بالحق "رُوحَ الحَقِّ الَّذي لا يَستَطيعُ العالَمُ أَن يَتَلَقَّاه، لأَنَّه لا يَراه ولا يَعرِفُه. أَمَّا أَنتُم فتَعلَمون أَنَّه يُقيمُ عِندكم ويَكونُ فيكم" (يوحنا 14: 17) لان الحق آلة الروح القدس التي يقدِّس بها.  ويتابع الروح القدس عمل يسوع، ويعاون التلاميذ لدى اتهام العالم لهم. هذا الروح يبقى معنا، ولا يحلُّ محلَّ يسوع الذي هو معنا حتى انقضاء الدهر (متى 28: 20) ويُعلق البابا فرنسيس "مع اقتراب لحظة الصليب، يُطمئن يسوع الرسل بأنهم لن يبقوا وحدهم: سيكون معهم دائما الروح القدس، الباراقليط، الذي سيعضدهم في رسالة حمل الإنجيل إلى العالم كله". أمَّا عبارة "يُرسِلُه الآبُ بِاسمي" فتشير إلى وعد يسوع بإرسال الروح القدس لتلاميذه " ومَتى جاءَ المُؤَيِّدُ الَّذي أُرسِلُه إِلَيكُم مِن لَدُنِ الآب رُوحُ الحَقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآب فهُو يَشهَدُ لي" (يوحنا 26:15)، وهذا يؤكد صلاحية وصدق العهد الجديد بأسفاره " فلَنا كَشَفَه اللهُ بِالرُّوح، لأَنَّ الرُّوحَ يَفحَصُ عن كُلِّ شَيء حتَّى عن أَعماقِ الله "(1 قورنتس 2: 14)؛ سيرسل الآب الروح القدس الذي سينقل إلينا حياة الله في المسيح. ولذلك كل رسالة قائمة في المسيح يسوع لا يمكن سوى أن تُثمر ثمار السلام والتقديس، ثمار شفاء النفس والجسد، ثمار المصالحة والمحبّة، ثمار الاستنارة والحياة الحق. أمَّا عبارة "اسمي" فتشير إلى وساطة الابن وحضوره وطبيعته وقوته وعمله ومشيئته؛ ولذلك فإن إرسال الروح القدس من قبل الآب هو تلبية لطلب يسوع وقوته وقدرة عمله الفدائي في خلاص العالم (يوحنا 14: 13-14). كما أتى المسيح باسم الآب مصرِّحا "جِئتُ أَنا بِاسمِ أَبي" (يوحنا 5: 43) كذلك أتى الروح القدس باسم المسيح، لأنه كان نائبا عنه.  أمَّا عبارة "هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء" فتشير إلى وعد يسوع لتلاميذه بأن الروح القدس يجعلهم يفهمون حقيقة شخصية يسوع تفهّما تدريجياً، ويُدركون معنى أمور الخلاص في صلتها به إدراكا تدريجيا.  فإن تعليم يسوع أعدَّهم لقبول أسمى تعاليم الروح القدس "فَمتى جاءَ هوَ، أَي رُوحُ الحَقّ، أَرشَدكم إِلى الحَقِّ كُلِّه لِأَنَّه لن يَتَكَلَّمَ مِن عِندِه بل يَتَكلَّمُ بِما يَسمَع ويُخبِرُكم بِما سيَحدُث " (يوحنا 16: 13). فالروح الذي يفحص عن كل شيء قادر أن يكشف لنا حتى أعماق الله (1 قورنتس 10:2)، وهو ما يكوّن فينا حياة الأبناء أي حياة الطاعة. وقد انجز يسوع هذا الوعد في الجماعة المسيحية الأولى كما ورد في أعمال الرسل.  ويعلق البابا فرنسيس " إن الرب يدعونا اليوم لكي نفتح القلب على عطية الروح القدس كي يقودنا في دروب التاريخ. فهو يومًا بعد يوم يُعلّمنا منطق الإنجيل، منطق المحبة المضيافة"؛ أمَّا عبارة "يُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُه لَكم" فتشير إلى وعد يسوع التلاميذ بأن الروح القدس سيُعين تلاميذه على أن يتذكَّروا كل ما كان يُعلمهم إياه، يسوع في حياته في الأرض (يوحنا 15: 17) وسيساعدهم روح المسيح القائم من الموت على إدراك معنى أعماله العميق (يوحنا 2: 22 و12: 16) كي يبقوا مُطيعين للآب.  انجز يسوع هذا الوعد خاصة في بشارة يوحنا الإنجيلي، إذ كله من تذكير الروح القدس لكاتبها، لأن كتب يوحنا حوادثها وتعاليمها بعد موت المسيح بنحو خمسين سنة. ويعلق البابا فرنسيس "أن مهمة الروح القدس هي أن يذكّر، أي أن يُفهم تماما ويقود إلى تطبيق تعاليم يسوع بشكل ملموس"؛ وهذا الوعد يؤكد صلاحية وصدق العهد الجديد. إن عمل الروح القدس هو ليس أن يأتي بإنجيل جديد، بل يذكر المؤمنين إنجيل المسيح. إن الرّوح القدس هو ضمانة استمرار الرّب في حياة الكنيسة، وهو ضمانة صحّة تعليمها اليوم ويُعلق البابا غريغوريوس "يَهبكم المعرفة بكونه يعرف ما هو خفي"؛ والروح القدس هو أكثر من التذكير بنفس كلمات ابن الله، انه صورة حيّة لكل ما نطق به أمام تلاميذه سابقا. فالروح ليس له من شيء خاص يعلمّنا إياه، ولا رسالة شخصية، أنه شرح للإنجيل. ويُعلق القديس أوغسطينوس على هذه الآية بقوله: "إنَّ الثالوث القدوس كله يتكلم ويعلم (يوحنا 6: 45) لكنهم غير منفصلين". ما الذي يمنع الروح القدس من أن يعمل في حياتنا؟

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (يوحنا 14: 15-16، 23-26)

 

بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 14: 15-16، 23-26)، نستنتج انه يتمحور حول وعد يسوع بحضوره من خلال الروح القدس وحفظ وصاياه.

 

1) استمرارية حضور يسوع مع تلاميذه من خلال الروح القدس

 

يُشدّد يوحنا البشير على تحقيق الوعد بإرسال الروح القدس، إذ يعلن يسوع لتلاميذه انهم سيرونه عما قريب "بَعدَ قَليلٍ لَن يَراني العالَم. أَمَّا أَنتُم فسَتَرونَني لِأَنِّي حَيٌّ ولأنَّكُم أَنتُم أَيضاً سَتَحيَون" (يوحنا 14: 19). ويقصد يسوع هنا قيامته وترائيه لتلاميذه (يوحنا 16: 16-22). ولكن هذه الحضور لن يكون حسي محض، إنَّما يرافقه اكتشاف روحي. انهم يكتشفون علاقة يسوع بآبيه" إِنَّكم في ذلك اليَومِ تَعرِفونَ أَنِّي في أَبي وأَنَّكم فِيَّ وأَنِّي فِيكُم"، فيتضَّح لهم حضوره فيهم، والتلاميذ يَحيَون حياة جديدة بيسوع الحاضر فيهم.

 

وسيخلف الروح القدس يسوع المسيح ويؤمّن حضوره مع التلاميذ بفضل صلاته " وَأَنا سأَسأَلُ الآب فيَهَبُ لَكم مُؤَيِّداً آخَرَ يَكونُ معَكم لِلأَبَد" (يوحنا 14: 16)، فيكون الروح القدس فيهم ويقودهم إلى الحقّ كلّه، فيتمّم كل ما بدأ به يسوع بواسطة الرسل الذين سيؤلفون نواة الكنيسة الأولى. وتتحوّل الكنيسة بفعل حلول هذا الروح إلى كنيسة شاهدة للمسيح ولبشارته حيث يشرك الله القدّوس جميع الشعوب بحياته ويدعوهم إلى فهم لغته الوحيدة، لغة المحبة والغفران والسلام. كان حضور الله الموقت في المسيح على الأرض شيئًا حتميًا، لأن المسيح من حيث انه إنسان، ما كان يستطيع أن يبقَ على الأرض إلى الأبد مع المؤمنين. لكن بالرغم من صعود يسوع بالجسد إلى أبيه، بقي حضور الله مستمرًا بطريقة جديدة عن طريق الروح القدس.

 

إن المؤيد، روح الله ذاته، يجيء بعد صعود يسوع ليهتمَّ بتلاميذه ويرعاهم ويُرشدهم. وقد حدث هذا في يوم العنصرة (أعمال الرسل 2: 1-4). وإن "العنصرة" هي صيغة عربيّة لكلمة آرامية سريانية تعني "التجمّع" أو محفل. والعبارة اليونانية πεντηκοστή أي "اليوم الخمسون" التالي للعيد العبري "שָּׁבֻעוֹת" مختصر لعبارة "שִׁבְעַת הַשָּׁבֻעוֹת" أي "سبعة أسابيع" (والمجموع تسعة وأربعون). وكان عيد الحصاد، (الخروج 23: 16) ثمّ أُدخِل إليه في القرن الثّاني قبل الميلاد معنى "نزول التّوراة على موسى".

 

وفي العنصرة قطع الله عهدا مع البشرية فشُفي تبلبل الألسنة الذي بدأ في بابل (التكوين 11: 6-9) وُلدت الجماعة المسيحية المُتمثلة في التلاميذ الّذين "كانوا مُجتَمِعينَ كُلُّهم في مَكانٍ واحِد" (أعمال الرسل 2: 1). لأن الرّوح القدس بالتحديد هو حب، وثمرته هو الوحدة والتغلب على كل الانقسامات. وهكذا قطع الله عهداً جديداً معنا يختمه بسكنى روحه القدوس فينا. ويعلق القديس يوحنّا فم الذّهب عن يوم العنصرة قائلًا "اليوم استحالت الأرض لنا سماءً. لا لأنّ النّجوم انحدرت من السّماء على الأرض، بل لأنّ الرّوح القدس أفاض اليوم، نعمه الوافرة على الأرض، وأحالها إلى فردوس" وهذا ما أكده بولس الرسول " أمَّا تَعلَمونَ أَنَّكُم هَيكَلُ الله، وأَنَّ رُوحَ اللهِ حالٌّ فيكم؟ " (1 قورنتس 3: 16)، فحضور الروح في حياتنا هو تتميم لمخطط الله الخلاصي لنا. قال القديس أثناسيوس الإسكندري: "لقد أصبح الله إنسانا ليجعلنا أهلاً لقبول الروح القدس".

 

وكُشف لنا الروح عن ذاته من خلال الصور: "حمامة" في عماد يسوع في الأردن، "ريح وألسنة نار" يوم العنصرة. وفي العبري مصدر اللفظين الريح والرّوح واحد "רוּחַ" كما جاء في سفر التكوين “رُوحُ اللهِ يُرِفُّ على وَجهِ المِياه"(التكوين 1: 2).  ولقد شبّه الأنبياء الروح بالذي "يمسح" مختاريه، إنّ الإنسان الذي يحصل على هذه المسحة يُصبح "ممسوحًا" أو "مسيحًا". وتكتمل هذه الصورة فينا عندما نحصل على سر الميرون المقدس أو التثبيت. ويتكلّم القديس بولس الرسول عن الروح القدس ويُشبّهه بختم في علاقتنا مع الله. يصبح المُعمّد خاصة الرب إذ ختمه الرب بروحه. فالروح القدس هو، بحسب القديس باسيليوس الكبير، "عربون الميراث الآتي وباكورة الخيرات الأبدية" (الليتورجيا الإلهية). ويدعوه الرسول بولس "الضمانة" للحصول على الحياة الأبدية: إنه "هو عُربونُ مِيراثِنا إلى أَن يَتِمَّ فِداءُ خاصَّتِه لِلتَّسْبيحِ بِمَجدِه" (أفسس 1: 14).

 

ولن يتركنا الروح القدس بل يبقى معنا إلى الأبد، ويقودنا إلى الحق كله "رُوحَ الحَقِّ الَّذي لا يَستَطيعُ العالَمُ أَن يَتَلَقَّاه لأَنَّه لا يَراه ولا يَعرِفُه"(يوحنا 14: 17)، وهو يحيا معنا وفينا لأنه في وسطنا وفي داخلنا "تَعلَمون أَنَّه يُقيمُ عِندكم ويَكونُ فيكم" (يوحنا 14: 17)، أن هذا الروح هو هبة الآب والابن المشتركة، إنه المؤيّد والمدافع والمحامي والمعزّي والشفيع، إنه علامة حلول الأزمنة الجديدة الذي يقود كل شيء نحو كماله.

 

2) مهمة الروح القدس في استمرارية حضور يسوع مع تلاميذه 

 

  • الروح القدس استمرارية حضور المسيح

 

يُكمل الروح القدس استمرارية حضور يسوع في تلاميذه عن طريق تعليم والتذكير. وهو يُعلمنا كل شيء "المُؤَيِّد، الرُّوحَ القُدُس الَّذي يُرسِلُه الآبُ بِاسمي هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء"(يوحنا 14: 26)، ويذكّرنا بكل أقوال يسوع المسيح " يُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُه لَكم "(يوحنا 14: 26).  ويؤكد ذلك بولس الرسول لتلميذه طيموتاوس "إِحفَظِ الوَديعةَ الكَريمةَ بِالرُّوحِ القُدُسِ الَّذي يُقيمُ فينا" (2 طيموتاوس 2: 14).  إن مهمة الروح القدس هو تامين استمرارية وجود يسوع مع التلاميذ كما وعد يسوع رسله " وَأَنا سأَسأَلُ الآب فيَهَبُ لَكم مُؤَيِّداً آخَرَ يَكونُ معَكم لِلأَبَد" (يوحنا 14: 16). فالعلاقة بين المعلم والتلاميذ هي علامة مهنية تنتهي بنهاية العمل، في حين علاقة يسوع وتلاميذه هي علاقة روحية وجدانية فلا تنتهي بنهاية التعليم إنما تستمر من خلال الروح. الروح سيبقى مع تلاميذ يسوع باستمرار لأن ما يهمه هو إقامة علاقة صداقة معهم بشرط حفظ وصايا يسوع "إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً" (يوحنا 14: 23). لان بقاءه معنا هو طريقة حبه لنا.

 

  • مهمة الروح القدس التعليم

 

بجانب تامين استمرارية وجود يسوع مع التلاميذ فان مهمة الروح القدس تقوم أيضا بتعليمهم "هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء" (يوحنا 14: 26) ويوضح ذلك بولس الرسول بقوله "لَيس مَلَكوتُ اللهِ أَكْلاً وشُرْبًا، بل بِرٌّ وسَلامٌ وفَرَحٌ في الرُّوحِ القُدُس"(رومة 14: 17). يُعلِّم الروح القدس الأشياء المتعلقة بخلاصنا. يعلق القدّيس أنطونيوس البادوانيّ " إنّ الرُّوح القدس "يُعَلِّمُكم" (يوحنا 16: 13)، لكي تعلموا؛ يقترح عليكم لترغبوا. هو يعطي المعرفة والإرادة؛ فلنُضِف إلى ذلك "طاقتنا"، على قدر إمكاناتنا، فنصبح هياكل للرُّوح القدس (1قورنتس 6: 19). (عظات لأيّام الآحاد وأعياد القدّيسين).

 

وقد شكَّ التلاميذ في تعليم يسوع أو لم يفهموها مراراً ولم يكونوا قادرين على البشارة بالمسيح القائم من الموت رغم أنهم قد رأوه وأصغوا إليه وأكلوا معه. ولكن مع حلول الروح القدس تلاشت مخاوف التلاميذ، ولم يعودوا يخشون الموت، وبعد أن كانوا في دار أُغلقت أبوابها أصبحوا يبشرون جميع الأمم، وبعد أن كانوا ينتظرون حتى صعود يسوع أن يعيد الله الـمـُلك إلى إسرائيل (أعمال الرسل 1، 6) أصبحوا متلهفين للتبشير في ملكوت السماوات وبشارة الإنجيل إلى كل مكان ولكل إنسان بقوة الروح القدس كما يؤكد ذلك بولس الرسول "ولا يَستَطيعُ أَحَدٌ أَن يَقول: ((يَسوعُ رَبٌّ)) إِلاَّ بِإِلهامٍ مِنَ الرُّوحِ القُدُس" (1 قورنتس 12: 3). ويعلق القدّيس غريغوريوس "فإن لم يلمس الرُّوح قلب الذين يسمعون، تكون كلمة الذين يعلِّمون باطلة. لذا، فلا ينسبنَّ أحد أن فهمه للتعاليم إلى أيّ معلِّم بشري. فإن لم يكن المعلِّم الداخلي حاضرًا، يكون لسان المعلِّم الخارجي ناطقًا من دون جدوى" (عظات حول الأناجيل، العظة 30).

 

أخذت الجماعة المسيحية الأولى تعظ بالمسيح من خلال الروح القدس " فنَزَلَ الرُّوحُ القُدُسُ علَيهِم وأَخَذوا يَتكلَّمون بِلُغاتٍ غَيرِ لُغَتِهم ويَتَنبَّأُون " (إعمال الرسل 19: 6). والروح القدس يدافع عنهم في الشدة والاضطهاد " فَإِذا ساقوكُم لِيُسلِموكم، فلا تَهتَمُّوا مِن قَبلُ بِماذا تَتَكَلَّمون، بل تَكَلَّموا بِما يُلقى إِلَيكُم في تلك السَّاعة، لأَنَّكم لَستُم أَنتُمُ المُتَكَلِّمين، بلِ الرُّوحُ القُدُس" (مرقس 13: 11). وفي الواقع، أيَّد الروح القدس التلاميذ فلم ينهزموا أمام ضربات المضطهدين، بل ازدادوا بحبِّهم أمانة للمسيح. وتبَّتتهم الروح القدس في حياة جديدة فصيَّرهم رجالا آخرين، كما جاء في تعليم بولس الرسول "نَحنُ جَميعًا نَعكِسُ صورةَ مَجْدِ الرَّبِّ بِوُجوهٍ مَكشوفةٍ كما في مِرآة، فنَتَحوَّلُ إِلى تِلكَ الصُّورة، ونَزدادُ مَجْدًا على مَجْد، وهذا مِن فَضْلِ الرَّبِّ الَّذي هو روح"(2 قورنتس 3: 18). 

 

يحمل الروح القدس حياة التناغم داخل الإنسان فشعر انه بحاجة إلى التغيير. يقوم الروح القدس بتحويل تعليم يسوع إلى خبرة يومية. ويُعلق المطران بيير باتيستا   " لا يكفي معرفة أن يسوع قد مات، بل عليّ أن أؤمن أنه قد مات من أجلي. ولا يكفي معرفة أن الله محبة، بل عليّ أن أؤمن أنه يحبني تماماً كما أنا" حسب ما يؤكد القديس بولس " لم تَتلَقَّوا روحَ عُبودِيَّةٍ لِتَعودوا إلى الخَوف، بل روحَ تَبَنٍّ بِه نُنادي: أَبًّا، يا أَبَتِ!" (رومة 8: 15). لم يظل يسوع شخصية من الماضي، بالروح القدس يصبح شخص يسوع حيًا اليوم، وتعليمه كلمة حياة، والمسيحية أسلوب حياة.  فلا يكفي لتلاميذ أن يروا المسيح قائم من الأموات إنْ لم يستقبلوه في قلوبهم، ولا يكفي أن يعرفوا أن المسيح قام من الأموات وهو حي إنْ لم يحيوا معه، والروح القدس هو من يجعل يسوع يحيا ويحيا مُجدَّدا فينا، هو من يقيمنا في داخلنا. هو الذي يرسِّخ تعليم يسوع داخلنا وتصبح جزءا منا وحياة لنا.

ويحمل الروح القدس التناغم ليس فقط داخل الإنسان بل أيضا في الخارج، بين الأشخاص، فهو من يجعلنا كنيسة واحدة بالرغم من تنوع المواهب والخدمات والأعمال كما جاء في تعليم بولس الرسول " الرُّسُلُ أَوَّلا والأَنبِياءُ ثانِيًا والمُعلِّمون ثالِثًا، ثُمَّ هُناكَ المُعجِزات، ثُمَّ مَواهِبُ الشِّفاءَ والإِسعافِ وحُسْنِ الإِدارةِ والتَّكَلُّمِ بِلُغات" (1 قورنتس 12: 28). فالروح القدس يبني الوحدة في هذا التنوع؛ وروح الوحدة يجعل الكنيسة والعالم أبناء وأخوة. ويعلق البابا فرنسيس "مَن يعيش حسب الروح القدس يحمل السلام حيثما هناك خلاف، والتوافق حيثما هناك صراع، يقابل الشر بالخير ويُجيب على الكبرياء بالوداعة، وعلى الضجيج بالصمت، وعلى الثرثرة بالصلاة وعلى الانهزامية بالابتسامة" (عظة العنصرة، 9/6/2019).

 

نستنتج أولا مما سبق أنَّ الروح القدس كان عاملا بين الناس منذ بداية الزمان، لكنه بعد العنصرة سكن في المؤمنين (إعمال الرسل 2: 1-13). الروح القدس هو الله داخلنا وداخل كل المؤمنين يعمل معنا ولأجلنا، وهو يُعيننا أن نحيا كأبناء الله وفي هذا الصدد كتب بولس الرسول "إِنَّ الَّذينَ يَنقادونَ لِرُوحِ الله يَكونونَ أَبناءَ اللهِ حَقًّا. لم تَتلَقَّوا روحَ عُبودِيَّةٍ لِتَعودوا إلى الخَوف، بل روحَ تَبَنٍّ بِه نُنادي: أَبًّا، يا أَبَتِ! وهذا الرُّوحُ نَفْسُه يَشْهَدُ مع أَرواحِنا بِأَنَّنا أَبناءُ الله" (رومة 8: 14-16). بالروح القدس نصبح أبناء للآب وأخوة بعضنا لبعض وللناس كلّهم.

 

      ج) مهمة الروح القدس التذكير

 

لا يقوم الروح القدس على استمرارية تعليم يسوع لنا، إنما أيضا على تذكيرنا ما تعلمنا سابقا من السيد المسيح وإنجيله المقدس: يذكرنا معنى الحياة وهدفها ورجاء دعوتنا في حين الخطيئة تجعلنا ننساها ونصغي إلى معلمين آخرين يؤدون بنا إلى الموت. الروح وحده هو الذي يعطي حياتنا معنى وهدفا وكمالا. ويُعلق البابا فرنسيس "إن الروح القدس هو السلام عند الاضطراب، والثقة عند الإحباط، والفرح عند الحزن، الشبابية في الشيخوخة، الشجاعة في المحن. الروح القدس هو من يُثبِّت مرساة الرجاء وسط تيارات الحياة العاصفة".

 

والروح  يشهد للحق الذي  هو المسيح كما صرّح يسوع "فهُو يَشهَدُ لي" (يوحنا 26:15)، وهو مصدر كل الحق، لأنه هو "رُوحُ الحَقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآب" (يوحنا 15: 26)، ويقنعنا بخطيئتنا وبدينونة الله " وهو، مَتى جاءَ أَخْزى العالَمَ على الخَطيئِة والبِرِّ والدَّينونَة "(يوحنا 16: 8) ويعطينا بصيرة إلى أحداث المستقبل " فَمتى جاءَ هوَ، أَي رُوحُ الحَقّ، أَرشَدكم إلى الحَقِّ كُلِّه لِأَنَّه لن يَتَكَلَّمَ مِن عِندِه بل يَتَكلَّمُ بِما يَسمَع ويُخبِرُكم بِما سيَحدُث" (يوحنا 16: 13)، ويُبيِّن مجد المسيح " سيُمَجِّدُني لأَنَّه يَأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه "(يوحنا 16: 14).

 

ونختبر حضور الروح القدس فينا بالصلاة " فإِنَّ الرُّوحَ أَيضاً يَأتي لِنَجدَةِ ضُعْفِنا لأَنَّنا لا نُحسِنُ الصَّلاةَ كما يَجب، ولكِنَّ الرُّوحَ نَفسَه يَشفَعُ لَنا بأَنَّاتٍ لا تُوصَف. والَّذي يَختَبِرُ القُلوب يَعلَمُ ما هو نُزوعُ الرُّوح فإِنَّهُ يَشفَعُ لِلقِدِّيسينَ بما يُوافِقُ مَشيئَةَ الله" (روما 8، 26-27). ويُعلق العلامة أوريجانوس" حينما نُصلّي نكون دائماً إثنين: نحن والروح القدس. بواسطة الروح القدس، نحن ندخل في حوار أبديّ مع الآب والابن، ولا يتمّ الاستماع إلى الصلاة بحسب صوتنا، بل بحسب صوت الروح القدس الّذي يُصلّي لنا، وهو الوسيط الدائم لدى الآب والّذي يطلب دائماً ما هو الأفضل لنا". فلا عجب من توصية يهوذا الرسول " فابْنوا أَنفُسَكم على إِيمانِكمُ المُقَدَّس وصَلُّوا بِالرُّوحِ القُدُس" (يهوذا 1: 20).

 

ومن هنا نتساءل: ما هو دور الروح القدس اليوم في حياة كل واحد منا؟ ماذا عملنا بالروح القدس الذي أُعطي لنا يوم عمادنا؟ هل نسمح له أن يعمل في حياتنا؟ هل له أي دور في حياتنا؟ فهل نُصغي حقًّا إلى الرُّوح الَّذي فينا؟ هل نسير بحسب توجّهات وثمار الرُّوح القُدُس "المحبّة والفرح والأمانة وطول الأناة والسَّلام والعفاف والّلطف والوداعة ودماثة الأخلاق"؟ دعونا نطلب من الروح القدس، الروح المُعزي، أن يأتي ويسكن في قلوبنا فنشعر بحضور المسيح فينا ونتذكر تعاليمه وصلاته ونعمل على حفظ وصاياه.  ولنضع نظرة الروح القدس قبل نظرتنا فتتغير الأمور.

 

3) حضور الروح القدس في تلاميذه من خلال حفظهم وصايا يسوع

 

يحث يسوع تلاميذه على المحبة التي تشكّل جوهر الحياة الدينية والأدبية. "إِذا كُنتُم تُحِبُّوني، حَفِظتُم وَصاياي" (يوحنا 14: 15)؛ في عيش الوصية هذه أراد يسوع أن يشقّ طريقاً جديداً لتلاميذه حيث أعطاهم نظاماً جديداً وأوكل إليهم عملاً أساسه الحب. إن حفظ الوصية هي الميزة الخاصة في كتابات القديس يوحنا لأن الوصية تتطلّب الأمانة والالتزام والتضحية وترتبط بالحب الأخوي وبعيش الحياة اليومية. إن حفظ الوصية من دون عمل المحبة تتحوّل مع يسوع من علاقة شخصية وجدانية إلى علاقة قانونية: " أَنَّ مَحبَّةَ اللهِ أَن نَحفَظَ وصاياه ولَيسَت وَصاياه ثَقيلَةَ الحَمْل"(1يوحنا 5: 3).

 

لا يصبح حب يسوع واقعاً ملموساً إلاّ عندما نحفظ وصاياه لننال بها عطية الروح القدس كما جاء في تعليم يسوع "أعطيكم وصيةً جديدة أحبوا بعضكم بعضاً، كما أحببتكم أحبوا أنتم بعضكم بعضاً"(يوحنا13: 34)، هذه الوصية هي خلاصة الشريعة والأنبياء. وبعطية الروح القدس يتحوّل المسيحيون من "محبّة الشّريعة" إلى "شريعة المحبة". كما يؤكد ذلك بولس الرسول " لأَنَّ مَحَبَّةَ اللّه أُفيضَت في قُلوبِنا بِالرُّوحَ القُدُسِ الَّذي وُهِبَ لَنا" (رومة 5: 5). لذلك فالوصية الجديدة تتعلق بالحقائق المميَّزة للأزمنة الأخيرة. إنها علاقة الميثاق الجديد والنهائي الذي ختمه يسوع بدمه كما ورد في تعليم بولس الرسول "فيه أَنتُم أَيضاً سَمِعتُم كَلِمَةَ الحَقّ أَي بِشارةَ خَلاصِكم وفِيه آمنُتُم فخُتِمتُم بِالرُّوحِ المَوعود، الرُّوحِ القُدُس" (أفسس 1: 13).  

 

يدعونا القدّيس يوحنّا، في بشارته، إلى استقبال كلام المسيح من كل قلبنا. وباستقبالنا له، نحن في الحقيقة نجعل المسيح نفسه حاضراً في حياتنا. "مَن تَلَقَّى وَصايايَ وحَفِظَها فذاكَ الَّذي يُحِبُّني والَّذي يُحِبُّني يُحِبُّه أَبي وأَنا أَيضاً أُحِبُّه فأُظهِرُ لَهُ نَفْسي" (يوحنا 14: 21). ينشأ رباط وثيق بين يسوع والتلميذ الأمين لوصاياه، إذ يقوم حوار حميم بينه وبين يسوع، فيسوع يُظهر نفسه كما هو. وحيث أنَّ يسوع لا ينفصل عن الآب، فوجود الواحد لا يُعقل دون وجود الآخر "أَنِّي في الآبِ وأَنَّ الآبَ فيَّ" (يوحنا 14: 10). وعليه ينتهي الوعد بمجيء الآب والابن إلى التلميذ "إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً" (يوحنا 14: 23). فالمسيحي يكون مضيفا وهيكلا للأقانيم الثلاثة.

 

ويؤكد يسوع المسيح لتلاميذه أنَّه الضمانة بحضور الآب والابن والروح القدس. وحضوره يختلف عن ذاك الذي كان التلاميذ يحلمون به (يوحنا 14: 8-22) كما كان الحال في العهد القديم من خلال علامات حسية مبهرة والتي تُثير حماسهم كما كان يظهر إلى موسى النبي "غَطَّى الغَمامُ الجَبَل. وحَلَّ مَجدُ الَرَّبِّ على جَبَلِ سيناء" (خروج 24: 15-16)، لكن يسوع ادخل تلاميذه في عالم الإيمان.

 

ونستنتج مما سبق انه يجب أن نؤمن أوّلاً بالربّ ثمّ أن نستسلم دون تحفّظ لوصاياه. ونعتمد الإيمان عنوانا لمحبتنا. الإيمان يأتي أولاً ثم الحب. كما قالت القديسة تريزا دي كالكوتا " ثمرة الإيمان الحب" فمن يؤمن يرى المسيح. ومن يرى المسيح يُحبُّه. ومن يحب المسيح يطيع الوصايا، والروح القدس هو الذي يعطينا الحب الذي يجعلنا نحفظ الوصايا كما جاء في تعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية " أن المحبة التي هي ثمرة الروح وكمال الناموس تحفظ وصايا الله ومسيحه " (رقم 1824). فالوصية تأتي دائماً من الخارج، تُعطى لنا من قبل آخر. بينما الحبّ، على العكس يأتي من أعماقنا. والإيمان هو عمل حبّ لا عمل معرفة عقليّة، والحبّ يدخلنا في المعرفة الإلهيّة وبالتالي إلى المعرفة العقليّة. وحفظ الوصايا هو التطبيق العملي للحبّ الإلهيّ. وللوصول إلى أن يتجلّى الله في حياتنا، لا بدّ من عيش وصاياه من خلال عيش الحبّ الإلهيّ في حياتنا اليوميّة.

 

إن المحبة أكثر من كونها كلمة لطيفة فيها التزام وسلوك. المحبة هي التزام بالآخر وليست نزوة؛ المحبة مسؤولية تجاه النفس والآخرين وليست أنانية؛ المحبّة دائمًا تتأنّى وتترفّق، تصبركما جاء في تعليم بولس الرسول: "وهي تَعذِرُ كُلَّ شيَء وتُصَدِّقُ كُلَّ شَيء وتَرْجو كُلَّ شيَء وتَتَحمَّلُ كُلَّ شيَء" (1 قورنتس 13: 7)، وتصحّح وتغفر، تلتزم بالحقّ وتدافع عن العدل، تنتبه إلى الفقير وتشفق على الضعيف، لا تبحث عن الغنى والجاه والتقدير، بل في كلّ شيء تبتغي خدمة الله وتمجيده وإعلان اسمه القدّوس.

 

من تبع يسوع يُظهر محبته له بطاعة وصاياه. والوصايا هي ليست مجموعة من الأنظمة والقوانين، والأوامر والنواهي مفروضة من الخارج، بل هي برنامج حياة؛ فالوصايا هي أن يدخل الإنسان مع المسيح في شركة حب وحياة، وذلك أن يكون تلميذا وشاهداً ورسولا فإن أردنا أن يجعل الربَ له مقاماً عندنا، فيجب علينا أن نحفظ وصاياه، فحفظ وصايا الرب هي الدليل على محبتنا له ورغبتنا باستقباله في حياتنا. فمن يحبّ الله يمكنه أن يعاين الله، لأنّ الله محبّة ومن يحيا المحبّة يشترك بالنعمة، لا بالطبيعة، في جوهر الله نفسه. والعلامة الحسيّة لهذه المحبّة هي في عيش الوصايا.

 

إنَّ وعد المسيح للتلميذ الذي يحفظ وصاياه بحضور الآب والابن والروح القدس في حياته. ولكن هذا الحضور يتطلب منا الطاعة والمحبة اللتين كان الله يطلبهما في العهد القديم (تثنية الاشتراع 6: 4-9) كما يصرّح السيد المسيح " إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً" (يوحنا 14: 23)؛ لكن ما قيمة الحب إن لم يقترن بأعمال ومبادرات فعلية؟ ما قيمة الحب إن لم نحترم كلام الآخر؟ فحفظ التلميذ للكلمة وأمانته لها، يضمنان له حياة صداقة وعلاقة حميمة مع الله الذي كشف عن ذاته في عمق حياته الثالوثية (ثلاثة أقانيم في إله واحد). وعندئذٍ تتحقق نبوءة حزقيال "أَقطَعُ لَهم عَهدَ سَلام. عَهدٌ أَبَدِيّ يَكونُ معَهما، وأَجعَلُ مَقدِسي في وَسطِهم لِلأبد" (حزقيال 37: 26). فالمحبة هي العلامة الأساسية لحضور الروح فينا وهي تضفي على كل عمل مسيحي صفته الشرعية، ويجعل بالتالي فقدان المحبة ذلك العمل ناقصًا.

 

الخلاصة:

 

رحيل يسوع الجسدي لم يكن النهاية، بل هو بداية حضوره وبقاءه النهائي والمستمر للإله الثالوث في قلب وحياة المؤمن. والمؤمن الحقيقي هو الذي يعيش ويطبق بمحبة كلام يسوع وتعليمه "مَن تَلَقَّى وَصايايَ وحَفِظَها فذاكَ الَّذي يُحِبُّني والَّذي يُحِبُّني يُحِبُّه أَبي وأَنا أَيضاً أُحِبُّه فأُظهِرُ لَهُ نَفْسي"(يوحنا 14: 21).

 

وحلّ الروح القدس على التلاميذ، يوم العنصرة قبل ألفي عام، في "الغرفة العليا" حيث كانوا مجتمعين وحلول الروح القدس هو استمرار لحضور المسيح في حياتنا وفي عالمنا. ويعلق الطوباويّ يوحنّا هنري نِيومَن " ورغم قول الربّ يسوع "إِنَّه خَيرٌ لَكم أَن أَذهَب. فَإِن لم أَذهَبْ، لا يَأتِكُمُ المُؤيِّد" (يو 16: 7)، فعلينا ألاّ نُحيد البتّة نظرنا عن الابن بحضور المعزّي" (عظات رعوية بسيطة، الفصل 4، العدد 17).

 

وحضوره قلَبَ كل الموازين. لا يكفي احترام الوصايا وتطبيقها، لكن الأهم هو أن يقبل كل واحد أن يعيش من محبة الله، الآب والابن والروح القدس. وإذا قبلنا أن نعيش من هذا الحب، فهذا سيُغيِّر كل حياتنا. يصبح المسيح في قلب حياتنا اليومية ونكون شهوداً له في عالم اليوم.  ويعلق القدّيس يوحنّا الآبلّيّ "أنا لا أدري كيف يمكنكم أن تعيشوا محرومين من هذه النعمة؟ ".

 

في عيد العنصرة الذي من خلاله تعيش الكنيسة مجددًّا حلول الروح القدس مع مريم والتلاميذ المجتمعين في العليّة بالصلاة ليملأ الرّوح القدس حياتنا كي نختبر حضور المسيح في حياتنا لنعلن موت يسوع وقيامته ونصبح شهوداً له ولإنجيله في المعمورة كلها.  

 

يدعونا أخيرًا عيد العنصرة إلى التخلي عن كبريائنا، ونبتعد عن التجزئة والاستقلالية عن الله وندع الله يسكن في قلوبنا. لنتوقف اليوم متسائلين: هل نتمتع ببلبلة أي إفراغ حياتنا من الله أم بوحدة في حياتنا وقلوبنا ولساننا من خلال فيض الروح القدس فينا؟

 

دعاء

 

أيها الآب السماوي، إننا نضع ثقتنا في ابنك يسوع الذي قال "مَن تَلَقَّى وَصايايَ وحَفِظَها فذاكَ الَّذي يُحِبُّني والَّذي يُحِبُّني يُحِبُّه أَبي وأَنا أَيضاً أُحِبُّه فأُظهِرُ لَهُ نَفْسي." ضع فينا روحك فنحبك ونحفظ وصاياك فنحافظ على حضور الروح القدس فينا ليجدِّد وجه أرضنا ويبدّد كل ظلمة من نفوسنا ويخلق فينا قلباً جديداً ويلهم عقولنا لكل خير ويصلّي فينا بأنّات لا توصف ويحرّرنا من روح البلبلة والتشتّت لكيلا نعود نتكلّم سوى لغة حبّك وغفرانك. فيا أيها الملك السماوي المعزي روح الحق. هلم واسكن فينا. أمين.