موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٣١ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٠

ثقافة الرعاية ومسار للسلام في ضوء رسالة السلام لليوم العالمي الـ54

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
ثقافة الرعاية ومسار للسلام

ثقافة الرعاية ومسار للسلام

 

بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي الرابع والخمسين للسلام في مطلع العام الجديد 2021 أصدر قداسة البابا فرنسيس رسالة بعنوان "ثقافة الرعاية: مسار للسلام". ونظرًا لأهمية هذه الرسالة للعالم أسلِّط بعض الأضواء عليها مبيِّنًا: أولاً: تحديد المصطلحات: الثقافة والسلام والعلاقة بينهما، وثانيًا: أزمات عالمنا المعاصر، وثالثًا: هدف الرسالة، ورابعًا: الدوافع الرئيسية لثقافة الرعاية كمسارٍ للسلام، وخامساً: التوصيات.

 

أولا: تحديد المصطلحات: الثقافة والسلام والعلاقة بينهما

 

ا) مفهوم الثقافة

 

الثقافة تشير إلى معارف في جميع الأنواع لدى الفرد، دون تخصص، وهي تضم: "التعليم" و"تربية الأطفال" وطرائق العيش، واللغة، والتراث، والسلوك، والعلوم، والمعارف، والفنون، والآداب، والقيم، والمعتقدات والموروثات التاريخية والأفكار التي تدور حول الإنسانية، سواء علوم إنسانية، أو تتعدى إلى علوم الطبيعة التي تشكل المثل الأعلى "للرجل نزيه".

 

وهناك فرقٌ بين الثقافة والعلم. فالعلم عامّ وليس حكرًا على مجتمع من المجتمعات، ولا يختص بمجموعة من الأفراد، فهو لجميع الناس، كالاختراعات، والاكتشافات، والأبحاث، والتجارب، وغيرها، أما الثقافة فهي خاصة بفئةٍ معينة، أو مجتمع معين تنسب إليه، وتعبر عن مميزاته وخصائصه.

 

ب) مفهوم السلام

 

السلام هو نظام بين الحقوق والواجبات وهو مبني على أربعة أركان، وهي: الحق والعدل والحرية والمحبة.

السلام المبني على الحق، أي الاعتراف بالحقوق والواجبات  

السلام المبني على العدل، أي احترام الحقوق والواجبات

السلام المبني على الحرية، أي قبول الحقوق والواجبات برضى وبدون إكراءٍ  

السلام المبني على المحبة، أي الالتزام بالحقوق والواجبات والعمل بها.

 

ج) العلاقة بين ثقافة الرعاية والسلام

 

ما من سلام دون ثقافة الرعاية. وهذه الثقافة تُشكّل وسيلة مُميزة لبناء السلام. إذ تمتاز الثقافة، بالانتقال: تنتقل الثقافة من جيل لآخر، أو من أمة لأخرى، عن طريق المدارس، والأسرة، ووسائل الإعلام وغيرها. وتمتاز التفافة بالاكتساب. يكتسب الإنسان الثقافة عن طريق التعلم الذاتي، واكتساب المهارات والقدرات عن طريق التقليد، والمحاكاة، والرعاية.

 

من هذا المنطلق تتطلب ثقافة الرعاية من المثقف القيام بمهمات عديدة منها العمل على: تبصير شعبه بالحقوق والواجبات الخاصة بمسار السلام، وتسليحه بالعلم والمعرفة؛ لكي يتمكن من التفريق بين الخطأ والصواب وتوعية الناس بكيفية المطالبة المشروعة بحقوقهم في إطار القانون والتشريع، وتوعية الأمة بمخاطر الغزو الثقافي الخارجي الذي يتسلل إلى العقول بشتى الأساليب والطرق، وتعميق حس الاخوة والإنسانية والتضامن في سبيل السلام إزاء أزمات عالمنا المعاصر.

 

إن ثقافة الرعاية تشكّل سبيلًا مميّزًا لبناء السلام، لكونها التزامًا مشتركًا ومتضامنًا وتشاركيًّا من أجل حماية وتعزيز كرامة وخير الجميع، ولأنها عزمٌ على إظهار المزيد من الاهتمام، والانتباه، والتعاطف، والمصالحة والشفاء، والاحترام المتبادل والقبول المتبادل. "هناك حاجة، في أجزاء كثيرة من العالم، إلى مسارات سلام تقود إلى التئام الجروح، وهناك حاجة إلى صانعي سلام، مستعدّين للشروع في عمليّات الشفاء والتلاقي، ببراعة وجرأة" (البابا فرنسيس: الرسالة العامة كلنا إخوة، 225).

 

 

ثانيا: أزمات عالمنا المعاصر:

 

لقد تَمَيَّز عام 2020 بالأزمات التي تسبّبت في معاناة شاقّة وضيق شديد، ومن أهمها:

 

- الأزمة الصحية الكبيرة التي خلقتها جائحة الكوفيد-19  

- أزمة تغير المناخ

- أزمات اقتصاديّة: فقدان العمل...

- أزمة الهجرة: اضطرار البعض الى الفرار تاركين ورائهم ليس فقط منازلهم ولكن أيضًا تاريخ عائلاتهم وجذورهم الثقافية.

- أزمة انعدام الامن: بسبب الهجمات والقصف العشوائي بالمتفجّرات والمدفعيّة والأسلحة الصغيرة.

- أزمة البطالة: ليس باستطاعة لا الرجال والنساء أن يعملوا لإعالة أسرهم

- أزمة المجاعة التي أصبحت تنمو في أماكن جديدة في العالم لم تعرف المجاعة سابقا.

- أزمة العلم: ليس باستطاعة الأطفال والطلبة أن يدرسوا بنظام

- ازمة الصراعات: بسبب أشكالٌ مختلفة من القوميّة والتمييز العنصريّ والتعصّب والحروب

- أزمة ثقافة الإقصاء، وتفاقم عدم المساواة داخل الدول وفيما بينها.

 

 

ثالثًا: هدف الرسالة

 

تهدف رسالة السلام العالمي الى "ثقافة الرعاية: للوصول للسلام" من خلال الأمور التالية:

 

1) سلبيا: القضاء على ثقافة اللامبالاة والاستبعاد والمواجهة التي غالبًا ما تسود اليوم.

2) إيجابيا: الاعتناء ببعضنا ببعض من أجل بناء مجتمع يقوم على علاقات التضامن والاخوة.

3) تعاون الجميع في سبيل التقدم نحو أفاق جديدة في المحبّة والسلام والأخوّة والتضامن والدعم المتبادل والقبول المتبادل والعمل يوميًّا بشكل ملموس حتى "نشكّل جماعة تتكوّن من إخوة يرحبّون ببعضهم البعض، ويعتنون ببعضهم البعض".

4) بلوغ تربية "أكثر انفتاحًا وشموليّة، قادرة على الاستماع الصبور، والحوار البنّاء والتفاهم المتبادل الذي يعزز مسار السلام

 

 

رابعا: الدوافع الرئيسية لثقافة الرعاية كمسار للسلام

 

هناك دوافع كتابية وأخرى كنسيّة

 

أ) الدوافع الكتابية

 

اهم الدوافع الكتابية التي ورد ذكرها في رسالة السلام لهذا العام، هي:

 

شهادة الله الخالق: الله الخالق، مثال الرعاية. خلق الله الإنسان على صورته ومثاله (التكوين 1: 27).  وحيث ان الله يرعى خلائقه، فيتوجب على الانسان المخلوق على صورة الله ومثاله ان يحافظ على انسجام الخليقة، لأن "السلام والعنف لا يمكن أن يتساكنا". الله هو أصل دعوة الإنسان إلى الرعاية. إذ جعل الله الانسان سيّدًا وحارسًا للخليقة كلّها. وهذا يعني، من ناحية، أن يفلح الأرض ليجعلها مثمرة، ومن ناحية أخرى، أن يحرسها كي يحميها ويجعلها تحتفظ بقدرتها على إعالة الحياة (التكوين 2: 15). وأنّ العناية بحياتنا ذاتها وبعلاقتنا مع الطبيعة هي جزء لا يتجزّأ من الأخوّة والعدالة والإخلاص تجاه الآخرين.

 

شهادة الأنبياء. يسمع الله صوت الفقراء والمستضعفين ويعتني بهم (مزمور 34، 7؛ 113، 7-8): لذلك أرسل الله الأنبياء على الخصوص النبي عاموس (2، 6-8؛ 8) والنبي أشعيا (58)، لرفع صوتهم باستمرار لصالح العدالة تجاه الفقراء بسبب ضعفهم وافتقارهم للسلطة...

 

شهادة يسوع المسيح: ظَهَر يسوع في مجمع الناصرة، على أنّه هو الذي كرّسه الربّ وأرسله "ليُبَشِّرَ الفُقَراء ويُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم ويُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين" (لوقا 4: 18). وأقترب بشفقته من المرضى بالجسد والروح وشفاهم؛ غفر للخطأة ومنحهم حياة جديدة. إن يسوع هو الراعي الصالح الذي يعتني بالخراف (يوحنا 10: 11-18)؛ إنه السامريّ الصالح الذي ينحني على الجريح ويشفي جراحه ويعتني به (لوقا 10: 30-37). واختتم يسوع عنايته بنا باذلًا ذاته على الصليب فحرّرنا من عبودية الخطيئة والموت. وبهذه الطريقة، فتح لنا طريق المحبّة وهو يقول لكلّ منّا: "اتبعني. واعمَلْ أَنتَ أَيضاً مِثْلَ ذلك" (لوقا 10، 37).

 

شهادة الجماعة المسيحية الأولى: كانت أعمال الرحمة الروحيّة والجسديّة نواة محبّة الكنيسة الأولى وخدمتها. فكان مسيحيّو الجيل الأوّل يعيشون المشاركةَ فيما بينهم حتى لا يكون فيهم محتاجًا وخاصة من خلال الخدمة الشمّاسية في الكنيسة الأولى (اعمال الرسل 4: 34-35). فأصبح من المعتاد القيام بتقديمات طوعيّة لإطعام الفقراء ودفن الموتى وإعالة الأيتام والمسّنين وضحايا الكوارث على سبيل المثال.

 

شهادة آباء الكنيسة: عندما فَقَدَ كَرَمُ المسيحيّين اندفاعَه، في فترات لاحقة، أصرّ بعض آباء الكنيسة على أن الملكيّة في مفهوم الله هي للخير العام. وفي هذا الصدد يعلق القدّيس أمبروسيوس "الطبيعة قد مَنَحَت كلّ الأشياء للبشر من أجل استخدام مشترك لذا، فقد أعطت الطبيعة الحقّ المشترك للجميع، لكن الجشع جعله حقًا للبعض (الآباء اللاتين 16، 67).

 

شهادة الكنيسة: تنقل السجلّات التاريخيّة في الكنيسة أمثلة لا تُحصى من أعمال الرحمة. ومن هذه الجهود المتضافرة، نشأت العديد من المؤسّسات لتلبية جميع الاحتياجات الإنسانية، ومنها: المستشفيات، ومساكن الفقراء، ودور الأيتام، ودور الأطفال، وأماكن لاستضافة عابري السبيل، وما إلى ذلك"

 

ب) دوافع كنسية

 

ركّزت الكنيسة في تعليمها الاجتماعي على نقاط تساهم في ثقافة الرعاية، وهي: التضامن ومفهوم الشخص والكرامة والخير العالم:

 

التضامن خاصة مع الفقراء والعُزّل، والاهتمام بالخير العام، والحفاظ على الخليقة كأساس للرعاية لتعزيز كرامة كلّ إنسان وحقوقه. إن التضامن يعبّر بشكل ملموس عن محبّتنا للآخر، التي ليست شعورًا بتعاطف مبهم، بل "عزمًا ثابتًا ومثابرًا على العمل من أجل الخير العام، أي من أجل خير الكلّ وكلّ فردٍ لأننا جميعنا مسؤولون حقًّا عن الجميع"(البابا يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة الاهتمام بالشأن الاجتماعي، 38).

 

مفهوم الشخص: الشخص يعني دائمًا علاقة، وليس فرديّة، وشمولية وليس الإقصاء، والكرامة الفريدة وليس الاستغلال"لرسالة العامة تـَرَقّي الشعوب، 2017). كلّ شخص بشريّ هو غاية في حدّ ذاته، وليس أبدًا مجرّد أداة تُقَدَّر وفقًا لفائدتها، وقد خُلِقَ لكي يعيش مع الآخرين في الأسرة، وفي الجماعة، وفي المجتمع.  ويساعدنا مفهوم الشخص على رؤية الآخر كشخص، أو بمعنى واسع، الشعب أو الأمّة-ليس بمثابة إحصاء، أو وسيلة نستغلّها ثم نستبعدها عندما لم نعد بحاجة إليها، إنما بمثابة قريب لنا، ورفيق للدرب، مدعوّ للمشاركة، مثلنا، في وليمة الحياة التي يدعو الله إليها الجميعَ بالتساوي.

 

الكرامة الإنسانية: الجميع متساوون في الكرامة. ومن هذه الكرامة تشتقّ حقوق الإنسان ووجباته، خاصة بمسؤوليّة قبول ومساعدة الفقراء والمرضى والمُهمَّشين وكلّ "قريب، مجاور أو بعيد في الزمان والمكان" (رسالة البابا فرنسيس 31/5/2020).

 

الخير العام: لا تستقيم الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة الاَّ في خدمة الخير العام، وما يُظهِر مدى صحّة هذا الأمر إنما هي جائحة الكوفيد-19، التي أدركنا إزاءها "أننا كلّنا على متن القارب نفسه، جميعنا ضعفاء ومرتبكون، ولكن في الوقت عينه مهمّون وضروريّون، ومدعوّون جميعًا إلى البقاء معًا" لأن "لا أحد يخلّص نفسّه بنفسه"(البابا فرنسيس /4/2020). " ولا يمكن لدولة قومية منعزلة أن تضمن الخير العام لشعبها (الرسالة العامة كلنا اخوة 3/ 10/ 2020. 8؛ 153) . فالسلام والعدل والحفاظ على الخليقة هي ثلاث مواضيع مترابطة تمامًا، ولا يمكن فصلها من أجل إيجاد حلّ لها بشكل فرديّ، وإلّا فقد نقع مجدّدًا في الاختزالية" (البابا فرنسيس الرسالة العامة كن مسبّحًا، عدد 92).

 

خامساً: التوصيات

 

دعوة الى التربية على ثقافة الرعاية من خلال الاسرة والمدارس والجامعات والمنظّمات الدوليّة والحكوميّة وغير الحكوميّة ذات رسالة تربويّة وكذلك، وسائل التواصل الاجتماعي ورجال الدين لنقل قيم التضامن، واحترام الاختلاف، والترحيب والرعاية بأكثر الإخوة ضعفًا. وفي هذا الصدد، قال البابا بولس السادس "لا تخافوا من الكنيسة؛ فهي تكرّمكم وتقوم بتربية مواطنين صادقين ومُخلصين، ولا تثير الخصومة والانقسامات بل تسعى إلى تعزيز الحرّية السليمة والعدالة الاجتماعيّة والسلام؛ وإذا كان لديها أولويّات، فهي تعطي الأولويّة للفقراء، ولتربية الصغار والشعب، ولرعاية الذين يعانون والمُهمَلين" (خطاب البابا بولس السادس في أوغندا، كامبلا، 1/8/ 1969)

 

دعوة الى "إنشاء صندوق عالميّ، يهدف إلى المساهمة في مكافحة الفقر والجوع، وتلبية الاحتياجات الصحية، والتبدلات المناخية وتنمية أفقر البلدان ولتعزيز الأمن والسلام بدل الأموال المستخدمة في مجال الأسلحة والنفقات العسكريّة الأخرى...

 

دعوة الى بوصلة المبادئ الاجتماعية للإبحار في مسار أنساني آمن مشترك من خلال المسؤولين عن المنظّمات الدوليّة والحكومات، والعالم الاقتصادي والعلمي، وعالم التواصل الاجتماعي والمؤسّسات التعليميّة. ويأخذ هذا المسار بعين الاعتبار قيمة وكرامة كلّ شخص، والأخوّة والاحترام المتبادل ومراعاة القانون الدولي وحماية وتعزيز حقوق الإنسان الأساسيّة والعمل معًا والتضامن من أجل الخير العام وتعزيز السلام والتنمية البشريّة المتكاملة، ومكافحة الفقر، والمرض والعبوديّة والتمييز والصراعات وضمان الاحتياجات الصحيّة.

 

دعوة الى تعزيز دور المرأة خاصة في الأسرة وفي كلّ المجالات الاجتماعية والسياسيّة والمؤسّسية.

 

دعوة الى احترام القانون الإنساني، ولا سيّما في هذه المرحلة التي تشهد باستمرار النزاعات والحروب. فأسباب الصراع كثيرة، لكن النتيجة واحدة: الدمار والأزمة الإنسانية.

 

دعوة الى طرح أسئلة على أنفسنا: ما الذي أدّى إلى تطبيع الصراع في العالم؟ كيف نقود قلوبنا إلى الارتداد وتغير عقليّتنا لكي نسعى حقًا إلى السلام بالتضامن والأخوّة؟ ما هو العمل لنكون "شهودًا لثقافة الرعاية والاعتناء" في سبيل السلام العالمي؟

 

ولا يسعنا أخير الا ان نختم بكلمات البابا يوحنا بولس الثاني: "أقول للجميع إنّ السلام ممكن. ويجب توسّله كهبة من الله، لكن يجب أيضاً بناؤه يوماً بعد يوم، عبر أعمال العدل والمحبة" خاصة في هذه الازمة العالمية لجائحة كورونا طالبين من الله تعالى القادر على كل شيء ان نتخطاها فنسير نحو عالمٍ أكثر أخوّة وعدالة وسلام بين الأفراد والجماعات والشعوب والدول.