موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٧ أغسطس / آب ٢٠٢١

اِعمَلوا للطّعامِ الّذي يَبقى

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
اِعمَلوا للطّعامِ الّذي يَبقى

اِعمَلوا للطّعامِ الّذي يَبقى

 

"أنا الخبزُ الّذي نَزلَ من السماء". لِماذا يا تُرى أَعطى يسوعُ لِنَفسِه هذا الوَصف؟! لِمَاذا لم يقل أنا الّلحمُ مثلًا؟ ألا يفوقُ الّلحمُ الخبزَ ثمنًا؟ الخبزُ طَعامٌ بَسيط خالي من التَّعقيدات، قَد لا يحمِلُ لَذّة كَبيرة، ولكن فِيهِ يَشتَرِكُ الجميع. تَجِدُه على مَوائدِ الفُقراءِ كَالأغنياء، بِشَكلٍ يومي. أمّا الّلحمُ فَلَيسَ كذلك. لِذلك، أرادَ يسوع أن يُخلّدَ ذِكرَه في عنصرٍ أساسيّ وجوهريٍّ مُتاحٍ للجميع، يَتقاسمُه الكُل، دون تَمييز فِئوي، ولا يَكون حِكرًا لأحدٍ دونَ الآخر!

 

"أنا الخبزُ الّذي نَزلَ من السماء"! الخبزُ الّذي يُعطينا إِيّاهُ يسوع ليسَ أَيَّ خُبزٍ! فيسوعُ في خبزِ القربانِ الأقدس يُعطينا ذاتَه! لِذَلِكَ هذا الخَبزُ السَّمَاوي، هو خبزُ الحياة، يُعطي الحياةَ لِلّذينَ بِه يُؤمِنون، إذ: "مَن آمنَ فَلَهُ الحياةُ الأبديّة". وَمَع أَنَّ هذا الفَصلَ سَيَنتَهي بِفعلِ جُحودٍ وارتِدادٍ مِن قِبَلِ كثيرين، إلّا أَنَّهُ أَيضًا سَيَقود إلى فِعلِ إيمان، يُفضي إلى الحياةِ الأبدية: "فإلى مَن نذهب يا رب وكلامُ الحياةِ الأبديّة عِندَك" (يوحنّا 68:6).

 

ليسَ ذَلِك فَحسب، فيسوعُ هو الحياةُ الأبدية، وهو الطَّريقُ المؤدّي لها، وهو الزّادُ الّذي يَقوتُنا ويسندُنا في الطّريق، كلَّ العُمرِ وحتّى لحظةِ الوصول.

 

"أنا الخبزُ الّذي نَزلَ من السماء"! فيسوعُ يا أحبّة نَزلَ من السَّماء، لِكي يرتفِعَ بِنَا صوبَ السّماء. وفي الأمسِ اِحتَفَلنا بِعيدِ التّجلي، وهو دعوةٌ لِكلِّ مؤمنٍ أَن يَرتَقي: "إلى الأمورِ الّتي في العُلى" (قولسّي 1:3). فَنَحنُ وإن كانَتْ أَقدَامُنا تَمشي فوقَ الأرض، إلّا أنَّ قُلوبَنا تُحلّقُ في عَالمِ الله. لذلكَ، أَرادَ الْمسيحُ أن يَرتَفِعَ بهؤلاءِ القَوم، وَيُبدِّلَ وِجهَةَ سَعيِهم: مِن عَملٍ لِقوتٍ فَانٍ، إلى عَمل لِقُوتٍ باقي، يَصيرُ حياةً أبدية (يوحنّا 27:6).

 

يُفني الْمَرءُ حياتَه وراءَ طعامٍ يَفنى، غافِلًا عن السّعي وراءَ الطّعام الّذي يَبقى ولا يَزول! وَاعتقِدُ أنّ ذلك أمرٌ غَريزي يَتَأتّى من طَبيعتِنا البَشَريّة، الّتي تَبحثُ عَمَّا هو مَضمونٌ وَمَادّي، وملموسٌ بينَ يديّ، ومرئيٌّ تحتَ نَظري. لذلك يظلُّ التّعاملُ مع عالمِ الإيمانِ وَأُمورِه، شيئًا ليسَ بالهيّن ولا هو بالأمرِ السّهل، بَل هو أشبَهُ بمحاولةِ الطَّيران، في خِضَمِّ ظُروفٍ من الشّدِّ العَكسي والجذبِ صَوبَ الأسفل. فَتَظَلُّ رَغبتي صَوبَ الفَانيات، أَقوى من إرادتي نحوَ البَاقيات. وأظلُّ أَشقَى العُمرَ كُلَّه وراءَ طعامٍ سَيَزول حَتمًا، حتّى أزولَ أنا ويزولَ الفاني، ورُبّما أَجِدُ نفسي خَسِرتُ الباقي للأبد!

 

حياتُنا تحتاجُ لإعادةِ تَقييمٍ لِبَنكِ أَهدافِنا وقائمةِ اهتماماتِنا، لإعادةِ جَدولةٍ لِأولَويّتِنا في الحياة. فَكما أَنَّنا جميعًا نَسعى وراءَ الطّعامِ الّذي يقوتُ الجسد، بكلِّ مَعانيه وَمَدلولاتِه المادّية، فَكَذلِكَ أيضًا وَجَبَ أن نَسعَى وراءَ الطّعام الّذي يقوتُ الرّوح، ويُغذّي الإيمان، ويسيرُ بنا صوبَ الحياةِ الأبديّة.

 

لا نُنكِرُ أنَّ الإنسانَ كائِنٌ مصنوعٌ من المادة، مرتبِطٌ بها ارتباطًا وثيقًا لا تَنفصِمُ عُراه. ولا نُنكِر أنَّ المادّة صالِحة وفيها نفعٌ زمنيٌّ للإنسان، فاللهُ خَلَقَ كلَّ شيء حَسن! ولا نُنكِرُ أنَّ المادّة تُعطينا حلاوةً وراحةً واسْتِقرارًا، وتُحقِّقُ لنا مُتطلّباتٍ وغاياتٍ وأُمنيات. ولكن لِمَاذا نَنسى أنّنا أيضًا خُلِقنا على صورةِ اللهِ أَبينا ومثالِه؟ لماذا نَنسى أنَّ فَينا شقًّا رُوحيًّا من اللهِ الذي نَفَخَ نَسْمَتَهُ فَينا؟ لماذا لا نُعطيه فعلاً الأولويّة، أو عَلى الأقل الاهتمامَ الصَّادق؟ لماذا نهتمُّ بكلِّ شيء، واللهُ عادةً في ذيل قائمةِ الاهتمام؟ ألا تَشعُرونَ بهذا الصّوتِ الّذي يُخاطِبُ كلَّ واحدٍ مِنَّا قائِلًا: "تعالوا إليّ جميعًا"، أمْ أنّنا نُخمِدُ الصّوت، وَنُخمِدُ صاحبَهُ، إذْ أنَّ هناك أمورًا أُخرى تجذِبُنا، وتستحوِذ على اهتماماتِنا؟!

 

المادّة جَيّدة، والطّعامُ الفَاني صالحٌ إلى حين، ولكنَّهُ يَصيرُ خَطِرًا عندما يَشدُّنا إلى الأسفلِ بَعيدًا عنِ الله، والبعضُ يَصِلُ بهم الأمرُ إلى قَعرِ الحَضيض! الطّعامُ الّذي يَفنى خَطِر لأنّه قادِرٌ أن يملأنا بِشبعٍ مُزيّف، وتُخمةٍ يَأتي وراءَها جوعٌ لَيسَ بَعده جوع، وطمعٍ محمومٍ لا يعرفُ حدًّا!

 

ببساطة الطّعامُ الّذي يَفنى، قادرٌ على قَتلِنا عَنِ الله، بالتّالي يؤول بِنا صوبَ الموتِ الأبدي، لِذلك: "لا تعلموا للطّعامِ الّذي يَفنى، بل اِعمَلوا للطّعامِ الّذي يَبقى، فيصيرُ حياةً أبديّة" (يوحنّا 27:6)