موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢١

اِجمعوا ولا تُفرّقوا

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
اِجمعوا ولا تُفرّقوا

اِجمعوا ولا تُفرّقوا

 

مَا جَمَعَهُ الله، لا يُفرِّقنَّهُ الإنسان! وكأنّ عادةَ البَشرِ أن يُشَتِّتوا، زَارِعينَ بذورَ الفرقةِ أَينَمَا حَلّوا. أمّا اللهُ فهو جامعٌ وموحِّد. وَلَكنّنا معشر البَشَر، بشكلٍ عام، غالِبًا ما نبحثُ عَمَّا يُبَعثِرُنا! فأسبابُ الانقسامِ والتَّفرقةِ كَثيرة، مِنها ما يُبنَى على أساسٍ عِرقي، أو قَوميّ، أو جِنسي، أو مَذهبي، أو دِيني... حتّى على لَونِ البشرة فَرّقَ البَشر، بل اضطهدوا واستَعبدوا، في تِلكَ الدّول الّتي تَعتَبرُ نفسَها اليوم رائدةَ الدّيمقراطية، وَحاميةَ حُقوقِ الإنسان!

 

أَضِف إلى ذلكَ، تِلكَ التّفرِقة الطّائفيّة البَغيضة بينَ أَعضاءِ جَسدِ الْمسيح. فَمَع كلّ أسف، لا يزالُ الإخوةُ المسيحيّون، رعاةٌ ومؤمنون، يَبحثونَ عَادةً عَمّا يُفرّقُهم، لا عَن الأمورِ الّتي تجمعُهم. يجلسونَ لانتقادِ بعضِهم البعض، عوضًا عن الحوارِ سعيًا لأجلِ الوَحدة الّتي مِن أَجلِها صَلّى المسيح: "ليكونوا بأجمعِهم واحِدًا" (يوحنّا 21:17).

 

رسالةٌ إلى كلِّ الازواجِ الّذين يُعانونَ مَع زَوجاتِهم، وإلى كُلِّ الزّوجاتِ الّلواتي يُقاسين مَع أزواجِهنّ! غالبيةُ الكهنة الّذين يُخاطبونَكم، يَسألونَكم الصّبرَ والاحتمال، عندما تَمرّونَ في أَزمةٍ ومشكلة خانِقة، هم غيرُ مَتَزوّجين. لذلك سامحونا عندما لا نُدركُ جَيِّدًا حجمَ العَذابِ الّذي تَعيشونَه مع الطّرفِ الآخر! وَنَكتفي من بَعيدٍ بإعطائِكم نظريّاتٍ ودروسًا عن الاحتمال، ونحنُ لا نعلمُ الجَحيمَ الّذي تقبعونَ فيه، وَتُكوَونَ بنارِ الألمِ ليلَ نهار.

 

أَعلمُ أنَّ في البيوتِ حَسراتٍ كثيرة وأوجاعًا كثيرة. لا يُفصِحُ الجميعُ عنها، ولا يُفصِحونَ إلّا عن جزءٍ يسيرٍ منها. ولكنَّ دموعَ الألم وعَبراتِ الحُزنِ قَد حَفَرت أَقنيةً في الوجوهِ ظَاهِرة، لِمَن يَقرأُ قَسماتِ الوجوه الحَزينة! لا أملِكُ سوى الصّلاة وبضعَ كلماتِ عزاء، لكلِّ قلب مفطورٍ وجناحٍ مكسور!

 

نَعم، بِكلِّ تَأكيدٍ المسيحُ يعلم أنَّ في البيوتِ أوجاعًا، وأنّ بينَ كثيرٍ من الأزواجِ عدم اتّفاقٍ ولا طباق. ومع ذلك لَم يُبحِ الطّلاق، مُعطيًا الزّواجَ الْمَسيحي قُدسيّةً سامية، وحُرمَةً لا تُنتَهكُ ولا تُمتَهن. ولكنَّ المعضلةَ تَكمن فينا، عندما لا نَتَحضّرُ التّحضيرَ الكافي للزّواج، ولا نُدرِكُ جَيِّدًا عِظَمَ مسؤولياتِه وحَجمَ التزاماتِه. ولا نستفيقُ إلّا عندما تهبُّ رياحُ المشاكل، وَنكتشف الشّريكَ على حقيقتِه دونَ مساحيق وبلا خِداع!

 

أحيانًا كثيرة نعتقِدُ أنّ الزّواجَ سُترة للفتاة. ولكن كم من الفتياتِ بذريعةِ السُّترة، انتهت حياتهنّ إلى جحيم لا يُطاق! أحيانًا أُخرى نتزوّجُ إقامةَ فلان في الولاياتِ الأمريكية، أو نتزوّج أموالَ فلان وغّنى فلان ومركز فلان! ولا نستيقظ إلّا عندَ الصّفعة الأولى الّتي نتلقّاها على وجوهِنا! وتقولون الكنيسةُ قاسية، الكنيسةُ ظالمة، الكنيسةُ مُجحِفة! كلا، أنت من ظلمَ نفسك! فَلَيست الكنيسةُ مَن ضَربَك على يديكَ أو يَديكِ للزوّاج عُنوةً من سين أو صاد. فَاسأَل روحكَ أوّلًا، قبل إلقاءِ الّلائمةِ على غيرِك!

أخيرًا أُريدُ أن أوضّح مَعنى آية وَرَدت في نصِّ الإنجيليّ متّى، الفصل التّاسع عشر، حيثُ وَرَد على لِسان المسيح: "مَن طلّقَ اِمرَأَتَه، إلّا لِفَحشاء، وَتَزَوّجَ غَيرَها فَقد زَنى" (متّى 9:19). فهل المسيح يُناقِض نفسه هنا، ويُبيح الطّلاق؟!

 

بدايةً، شريعةُ موسى سَمحَت بالطّلاقِ، كَما وَرَد في سفرِ تثنيةِ الاشتراع: "إِذا أَتّخذَ رجلٌ امرأةً وَتَزوّجها، ثمّ لم تَنل حُظوة في عَينيه، لأمرٍ غيرِ لائقٍ وَجَدَهُ فيها، فَلْيَكتُب لها كتابَ طَلاق، وَيصرفها مِن بَيته" (تثنية 2:24). أمّا عبارةُ: أمر غير لائق وجده فيها، فاحتَمَلَت عِدّة تَفسيراتٍ بِحسبِ علماء الشّريعة: فَهناكَ مَن أجازَ الطَّلاق لأيّة عِلّةٍ كانت، وهناكَ مَن أَجَازَه فقط عند ارتِكابِ فِعلِ الزّنى. وَمِن هنا نفهم سؤالَ الفرّيسين للمسيح، كَما وردَ في متّى: "أَيحِلُّ لأحدٍ أنْ يُطلِّقَ امرأتَه لأيَّةِ علَّةٍ كانت؟" (متى 3:19). حينَها جاءَ ردُّ المسيح قاطِعًا، لِيَشجُبَ الطّلاقَ نهائيًّا. "من طلق امرأته وتزوج أخرى، فقد زنى عليها. وإن طلقت امرأة رجلها وتزوجت آخرَ فقد زنت".

 

أمّا الاستثناءُ الوحيد الذي وضعَهُ المسيح: "إلّا لِفَحشاء". فترى فيه الكنيسة الكاثوليكية، بناءً على مفسريِّ الكتابِ المقدّس، وعلماءِ الّلغة اليونانية التي كُتب فيها العهدُ الجديد، أنّهُ لا يشيرُ إلى الخيانةِ الزّوجيّة في زواجٍ شرعي قائم، بل يُشيرُ إلى حالةِ زواجٍ/ مُساكنة غير شرعي. فمعنى قول المسيح أنّه لا يحقُّ للرجلِ أن يتخلّى عَن شَريكتِه، إلا إذا كان ارتِباطُه بها غيرَ شرعي.

 

وفي القرون الأولى، رَأَى آباءُ الكنيسة أنّه يحقُّ للشّريكِ أن ينفصِلَ عن شَريكِه الشّرعي، إن وَقَعَ في فعل زِنى، دونَ أن يُعطَى أو يُباحَ لأيٍّ مِنهما عقدُ زواج آخر، بل يَسعيانِ إلى المصالحة، اِستِنادًا على ما وَردَ في رسالةِ القدّيس بولس لأهل قورنتوس: "وَأمَّا الْمتزوّجونَ فَأوصيهم، ولستُ أنا الموصي بل الرب، بِأَن لا تفارقَ المرأةُ زوجَها. وَإن فَارَقَته فَلْتَبقَ غيرَ متزوجة، أو فَلْتُصالح زوجَها؛ وَبِأَلَّا يَتَخلّى الزّوجُ عَن امرَأَتِه" (1قورنتوس 10:7-11). فَحَتى هُنا لا يأتي بولس على ذكر كلمة طلاق، بل انفصال أو فراق، على أملِ المصالحة والعَودة.

 

وَإذا رَجَعنا إلى الكلمةِ اليونانيّة المستخدمَة لوصف الحالة الّتي يذكُرُها المسيح، فَنَجِدها: (por-neia)، وتَعني فحشاء. أما كلمة زِنى فَتعني (moi-cheia). وبينَهما فرقٌ واسع: فالزّنى يعني إقامة علاقة من قِبلِ طرفٍ مُتزوّج مع طرفٍ آخر، غير زوجِه الشرعي. أمّا الفحشاء فهي حالة حياتيّة مُستمرّة، وتَعني زواج أو ارتباط غير شرعي ولا يجوز، بسبب محُرماتٍ أكثرها يعود إلى رابطةِ القرابة الدّمويّة، وَرَدَت في سفر الأحبار، في الفصل الثامن عشر، وهي: زواجُ الأبناءِ منِ والديهم، أو زواجُ الإخوةِ من أخواتِهم، أو زوّاجُ الأبناءِ من زوجةِ الأب، أو زواج الأحفادِ من الأجداد. وهو ما كان شائِعًا عند كثيرٍ من شعوبِ ودياناتِ العالم القديم. حيثُ يختمُ النّص بِقَوله: "هنَّ ذوات قرابتك، إنها فاحِشَة" (أحبار 17:18). ثمّ نقرأ ما وردَ في رسالةِ بولس مُخاطِبًا أهل قورنتوس: "لَقَد شَاعَ خَبر ما يجري عندكم من فاحشة، فإن رجلاً منكم يُساِكنُ امرأةَ أبيه"(1قورنتوس 1:5). وهو ما نُسميّه زواج المحارم، أي الزواج المحرّم.

 

بالتالي، وبناءً على ما وَردَ في الكتابِ المقدّس وما جاءَ في تعاليم الكنيسة، فإنّه لا يوجد أبدًا ما يجيُز الطّلاق لأيّ سَبب كان، حَتّى وإن كان فعلُ خيانة زَوجية، فهو يُعدُّ فقط سببًا للانفصالِ دونَ زواج. فَمَا جَمعه الله، لا يملِك أيّ إنسانٍ سُلطةَ فَسْخِه.

 

فالأفضل لنا جميعًا، كهنة ومؤمنين، أَن نَبحثَ عن الأسباب الّتي تجمعُنا وتوحِّدُنا وتزيدُ من تلاحُمِنا الأسريّ والرّعوي والمسيحي أيضًا في هذا الشّرق، خير من البحثِ عن الأسباب الهدّامة والحِججِ الْمُحَطِّمَة والذّرائِع الْمُفَرِّقَة!