موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢ يوليو / تموز ٢٠٢٢

الّذينَ بِالدُّمُوعِ يَزرَعون، بِالتَّهليلِ يَحصدون

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
الّذينَ بِالدُّمُوعِ يَزرَعون، بِالتَّهليلِ يَحصدون

الّذينَ بِالدُّمُوعِ يَزرَعون، بِالتَّهليلِ يَحصدون

 

عظة الأحد الرّابع عَشَر من زمن السّنة العادي

 

أَيُّها الأَحِبَّة، إنَّ كَثيرًا مِن تَعاليمِ السّيدِ الْمَسيحِ وَأَمثالِه، مُسْتَمَدَّةٌ مِن وَاقعِ النّاس. فَمَثَلٌ بَسيطٌ مِن الوَاقِع يُحدِثُ أَثَرًا، أَكثر من دُروسٍ في الفَلْسَفَةِ وَتَعقيدَاتِها. فَمِن خلالِ وَاقِعِهم الْمُعاش، كَانَ الْمسيحُ يُعَلِّمُهم ويُرشِدُهم. وكَثيرٌ مِن تِلْكَ الأمثال كَانَ ذَا طَابِعٍ زِرَاعيّ! فَمُعظَمُ النَّاسِ كَانوا مُزارِعين، يَعتَاشُونَ مِن فِلاحَةِ الأرضِ وتَربيةِ الْماشية!

 

فَإذا كَانَ اللهُ هُوَ الزّارِع، الّذي بَذَرَ في نُفوسِنا كَلِمَةَ الإيمان، مِن خِلالِ العَمَلَةِ أي الْمُبَشِّرين، فَهوَ أَيضًا صَاحِبُ الحَصَاد، الَّذي مِن خِلالِ الحَصَّادين، يجمَعُ مِنَ النُّفوسِ غِلالَ الإيمان، وَقَد أَثمرَ في نُفوسِهم ثَلاثينَ وَستّين وَمِئِة (راجِع مَثل الزّارِع، لوقا 4:8-15)! وفي الْمُقَابِل، قَدْ لا يَجِدُ ثَمَرًا في نُفوسِ البَعض، أَو قَدْ يَجِدُ ثَمرًا أَصَابَهُ التَّلَفُ والعَطَب!

 

يَقولُ القدّيسُ بولس في رِسَالَتِهِ إلى أَهلِ رومة: ﴿وَكيفَ يُؤمِنونَ بِمَن لَم يَسْمعوه؟ وَكيفَ يَسمَعونَهُ مِن غَيرِ مُبشِّر؟ وَكيفَ يُبشِّرونَ إن لم يُرْسَلوا؟﴾ (رومة 14:10-15). نَعم يا أحبّة، كَيفَ للإيمانِ أن يُبذَرَ وَيَنمُوَ حَتّى يَكبُرَ ويُثمِر، إن لَم يَكُن لَدَينَا عَمَلَة! ﴿فاسأَلوا ربَّ الحصادِ أن يُرسِلَ عَمَلَةً إلى حَصادِه﴾ (لوقا 2:10).

 

وَلكِن، هلَ العَمَلةُ هُم الْمَمْسُوحُونَ بِنِعمَةِ الكَهنوتِ فَقط، أَمْ أنَّ كُلَّ مُؤمنٍ فينَا هوَ عَامِلٌ في حَقلِ الرّبِّ وَكرمِه، بِمَا أُعطيَ مِن الْمُواهِبِ والنِّعَم؟! كُلُّ شَخصٍ مِنَّا لَدَيهِ وَزَنة أو مجمُوعَةُ وَزنَات! ولكِن، كَم الّذين يَضَعونَ وزناتِهم ويُسخِّرونَ مَوَاهِبَهم في خِدمَةِ الكَرمِ أَو الحَصاد؟ وَكم هُم الّذينَ يُخبِّؤونَها وَيَدْفِنونَهَا، أو يُوظِّفونَها لِخدمةِ غاياتِهم الشَّخصيّة، وَمَصَالِحِهم الخاصّة؟!

 

﴿فاسأَلوا ربَّ الحصادِ أن يُرسِلَ عَمَلَةً إلى حَصادِه﴾. أَحيانًا الْمُشكِلَةُ لا تَكمُن في عَدَدِ الحَصَّادِين، بِقَدرِ مَا هي أَنَّ قِلّةً هيَ الّتي تَمدُدُ يَدَهَا وَتَعمَلُ في الحَصاد، بَينَمَا الأكثرية تَكتَفي بِالوُقُوفِ وَالتَّفَرُّجِ، غيرَ مُكتَرِثَةٍ وغيرَ مُبالِية.

 

ومُشكِلَةٌ أُخرى لا تَقِلُّ سُوءًا عَن الأولى، هي نَوعيّةُ الحصّادين! فَبَعضُ الحصّادين حَصَّادين مُجتَهِدين. وبُعضهم مُنَظَّرينَ وُجُودُهم يُعيقُ الحصادَ، أَكثر مِمّا يُفيدُهُ! وَبعضُهم مُتَراخِينَ بَطَّالين، وفي نَفس الوَقت يعتَقِدونَ وَاهِمين بِأَنّهم أَصْحابُ الكَرمِ والبيدَر، وَلَهم النَّاتِجُ والْمَحصول! وَقَدْ أشارَ الْمَسيحُ إلى هَذِه النَّوعِيّة في مَثَلِ الكَرّامين القَتلَة! إذْ اِسْتَولوا على الكَرمِ، وَعَاثوا فيهِ فَسَادًا (راجع متّى 33:21-46).

 

﴿الحَصادُ كَثيرٌ وَلَكِنَّ العَمَلَةَ قَليلون﴾. صحيح، ولكنَّكَ أَحيانًا لا تَجِدُ الشّخصَ الْمُنَاسِب للقيامِ بالحصادِ كَما يَجِب! فَيتلَفُ الحَصادُ نَظرًا لِقلِّة مَعرفَة وَخِبرةِ وَإِهمالِ وَتَرهُّلِ العَمَلةِ الحصّادين! وَهذا كَلامٌ حَمّالُ أوجه، يُفسّرُ بِأَكثرِ مِن طَريقَة! وُهنا يَصلُحُ الْمثلُ الشّعبيُّ القائِل: ((جَاب الدُّب لكَرمُهُ)). وَمعروفٌ أَنَّ الدُّبَبة بِشكلٍ عَام مَيّالَة إلى إفْسَادِ ما تَدخُلُ إليه!

 

يا أحبّة: ﴿لِكُلِّ أَمْرٍ أَوَان، وَلِكُلِّ غَرَضٍ تَحتَ السّماءِ وَقت﴾، يَقولُ سِفرُ الجامعة (1:3). فَالبَذرُ لَهُ وَقتٌ، وَلِلنُموِّ وَقتٌ، وَلِلنُّضوجِ وَقتٌ، ومِن ثمَّ لِلْحَصادِ وَقت! والحَصادُ هوَ الْمُحَصِّلةُ النِّهائِيّة، الّتي يَرجوها كُلُّ زارِع، وَلِأَجلِهَا تَعِبَ وَسَقى وَسَمَّد وَاعتَنى وَكَافَحَ واجْتَهَد! وَكم هي كَبيرةٌ خَيبةُ الأمل، عِندَمَا لا يَجني الزّارِعُ النَّتيجَةَ الّتي كَانَ يَتَأَمَّلُها!

 

كُلُّنا مُزارِعون! نَبذُرُ وَنَزرَع، وَنَتعبُ وَنَسهَر وَنجتَهِد، لأجلِ الّذي بَذَرنَاهُ! وَكَم نَفرحُ عِندَمَا نحصُدُ وافِرًا مَا زَرَعنَاه، وَكم نُحبَطُ وَنتَألّم عِندما لا نحصُدُ سِوَى الفَشَلَ والهَباء! أَحيَانًا لا نَحصُدُ شيئًا لِخَلَلٍ فِينَا وَتَقصيرٍ مِنّا، حتّى لَو رَفَضنَا الاعترافَ بِذَلِك. وَأَحيانًا يكونُ الخَلَلُ لَيسَ بِأَيدينَا وَفوقَ قُدرَتِنا! فَبَعضُ السّنين وَفيرةٌ مَطِيرَة، وَبَعضُها نَشَافٌ عُجَاف!

 

ضُعفُ الحَصادِ أو اِنْعِدَامُه هوَ وقائِعٌ نَحياها أَو نَعْرِفُها. فَكَم مِن الوَالِدين يُصابونَ بِخيباتِ أَمَلٍ مِن بعضِ أَبنائِهم، وَالعَكسُ صَحيح! كَمْ مِن النّاسِ مُحَطَّمَة مِن ظُروفِهَا الصَّعبَة وَأَوضَاعِها الْمُرهِقَة! كَم مِن الرّؤساءِ مُتْعَبونَ مِن مَرْؤُوسيهم، وَكَم مِن الْمَرؤوسينَ يُعانون ظُلمَ وتَجبُّرَ رُؤَسَائِهم! كَم مِن الرُّعاةِ مُحْبطةٌ مِن رَعَايَاهَا، وَكم مِن الرّعايا مُحبَطةٌ مِن رُعاتِهَا! كَم عَقَدنا آَمَالًا عَلى البَعضِ، فَهَوَت الآمالُ وَهَوَينَا نَحنُ مَعَها!

 

أَخيرًا يَا أحبّة، لِنَعُد إلى مَثلِ الزّارِعِ مَرَّةً أُخرى، نَسمَعُهُ يَقول: ﴿خَرَجَ الزّارِعُ لِيَزْرَع﴾ (لوقا 5:8). كُلُّ شَيءٍ بَدَأَ مع الّلحظةِ الّتي فيها قَرّرَ الزّارِعُ أن يَزرع، وبناءً عَلَى قَرارِهِ هَذا، اِستَيقَظَ مِن فِرَاشِهِ وَخَرَجَ لِيَزرَع! وِمن ثمّ اِستَيقظَ مَرّاتٍ كَثيرةً لِيَعتَني بالثّمارِ وَالسَّنَابِل، وَأَخيرًا اسْتَيقَظَ لِيَجنيَ ويحصُد! هَكذا هي حياتُنا، قرارٌ نَتّخِذُهُ ولأجلِه نَستيقِظُ وَنَسعى مرارًا وتكرارًا، بِجَدٍّ وَكَدٍّ، حَتّى نفرحَ يومًا بحَصَادٍ وَفير لِمَا زَرعناهُ.

 

لأنّ: ﴿الّذينَ بِالدُّمُوعِ يَزرَعون، بِالتَّهليلِ يَحصدون﴾ (مزمور 5:126)