موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٠ ابريل / نيسان ٢٠١٤

الصوم والمحبة الاخوية

بقلم :
الأب انطونيوس مقار ابراهيم - لبنان

يسمى زمن الصوم الموسم المقدس الذي يلتقي فيه الإنسان ربه بالصلاة والتوبة ويلتقي فيه أخاه بالمحبة والرحمة. شملت الكنيسة المستنيرة بالروح القدس في صيامها الاربعيني على مثال موسى النبي وايليا النبي وربنا يسوع المسيح، اسبوع الالام كي تظهر لنا أن المسيح افتتح زمن النعمة بالاربعين في حياته اليومية من خلال كل ما قام به من دعوة الناس الى التوبة وشفائهم من كل الامراض والعاهات وأعطاهم النور والمثل الصالح لعيش المحبة الحقيقيّة والوصية لتنفيذها "وصيتي لكم هي أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أنا احببتكم". توج زمن النعمة هذه بالموت عنا جميعاً ليقيمنا معه الى الحياة الابدية. بالتالى يعد زمن الصوم المقدس من أهم وأجمل الايام التى فيها يكتشف الإنسان سموّ عظمة حب الله من جهة ويكتشف من جهة أخرى كم هو في حاجة إلى أن يعبر عن حبه لأخيه الانسان. يعيش كثيرون منا في هذه الفترة صراعًا مريرًا حول كيفية الالتزام بالصوم ولكن لا ننسى أن يسوع صارع الشيطان وانتصر عليه وهذا يتضح في نهاية الاربعين "أنه جاع" وظن الشيطان أنه سينتصر على يسوع في استخدام سلاح الجوع او التعالي حينما طلب منه قائلاً لو كنت ابن الله قل لهذه الحجارة تصير خبزاً، جاوبه يسوع ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان "جوع الجسد الى الخبز" وانما الانسان يحيا بكلمة الله. أخلا المسيح ذاته معلناً انه كلمة الله كمصدر أساسي للتغذية منه كونه هو خبز الحياة ومن هنا تكون أولى الخطوات لا بل أبرزها التى يتخذها المؤمن الحقيقي لشركة الحياة الابدية والبنّوة لله والأساس الذي تبنى عليه هذه الشركة هو: 1- التغلب على شهوات الجسد: للإنسان العديد من الشهوات والمتطلبات معظمها ناتج عن غيرة أو حسد أو حقد، فالشهوات مثلاً هي الامتلاك والاقتناء. التغلب على هذا يكمن في أنْ، عندما تدخل الى قلبك أو فكرك شهوة معينة حاول أن تتخلص منها وتذكر ما أجمل الانسان الذي يذُلّ الشهوة وينتصر عليها بدلاً من أن تذلّه الشهوة وتكسره. الانتصار هو مبعث فرح وسرور للانسان، فلذلك لا نيأس من الشهوة ما دام هناك بابٌ للانتصار والتغلب عليها اكيد بعمل المسيح الذي حول الموت الى حياة، واليأس الى رجاء، كما أنه عمل في نفوس أشخاص لعبت بهم الشهوة بملذات العالم ومتطلباته كمثل أغسطينوس الذي صار من أكبر آباء الكنيسة، حتّى مار بولس تبدّل عندما ناداه يسوع تبدّلاً جذريًّا، من مضطهد للمسيح إلى أكبر مبشّر به قائلا "الويل لي إلّم أبشّر، لي إشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح". 2- حياة الجهاد المتواصل: يجب علينا أن لا ننسى أبداً أننا بشر ولسنا ملائكة، وأننا نلبس جسداً ترابياً فانياً ومهزوماً ومع ذلك نملك في المسيح مكونات الجسد النوراني، لذا نتذكر أننا بالمسيح ننتصر وأنه هو يحبنا ولا سيما في أوقات الضعف والهزيمة. 3- الصلاة المستمرة: الصلاة هي الصلة الوحيدة التي تربطنا بالله من جهة وبالانسان الآخر من جهة أخرى وهي المفتاح الذهبي لكل عمل نريد القيام به، يمتنع كثيرون من الناس عن الصلاة بحجة أنهم خطأة أو هم في فعل الخطيئة، مؤكد أنّ ارتكاب الانسان للخطيئة وإهماله الصلاة وبعده عن نبع الحياة سيجعله يرتكب المزيد من الخطايا. لنتذكر صرخة داود النبي الى الرب "يارب لا تتركني وحدي" و "إرحمني كعظيم كرحمتك، وكمثل كثرة رأفتك تمحو كل معاصي". يتمسّك داود هنا بالله ويطلب منه القوة للانتصار على الخطيئة، ومنحه القلب الجديد "قلباً نقياً أخلق فيّ يالله وروحاً مستقيماً جدده في احشائي". فـ«المولود من الجسد جسدٌ هو، والمولود من الروح (القدس) هو روح» (يو 6:3) وبهذه الغلبة ينمو فينا الإيمان بأن لا شيء يمكنه أن يفصلني عن محبة المسيح لا جوع ولا عطش ولا عُري. 4- بذل الذات: المقصود ببذل الذات تسليم الانسان نفسه بالكامل بكل طاعة ووداعة وثقة ومن دون خوف، والله يقود الانسان لتحقيق مشيئته الصالحة، فالله هو مبدأ كل شيء وهو غايته، وهو المعتني بكل خليقته: بشراً وحيواناً ونباتاً. ونحن في حاجة إلى أن نستودع حياتنا عند مَن يقدر أن يحفظها ويعتني بها ويحميها، وينزع منها الخوف، ويختار معها ولها، خصوصًا في أمور المصير فهو يدعونا: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والمثقلين بالأحمال وأنا أريحكم ومن هنا ينمو الإيمان والشركة والتوبة ونلقي بذاتنا في أحضان القادر أن يحمل أثقالها وذاتها وهمومها واهتماماتها. 5- الشركة في الكأس الواحد: «كأس البركة التي نُباركها، أليست هي شركة دم المسيح؟ الخبز الذي نكسره، أليس هو شركة جسد المسيح؟ فإننا نحن الكثيرين خبزٌ واحد، جسدٌ واحد، لأننا جميعنا نشترك في الخبز الواحد» (1كو 10: 17،16)هذه الشركة تمنحنا نعمة التبني الالهي وعيش المحبة التى بدونها لا نستطيع أن نعمل شيئًا، بدون محبة، لا قيمة لنا ولا نصلح لميراث الحياة الأبدية: «إن كنت أتكلَّم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبة، فقد صرتُ نحاساً يَطِنُّ أو صَنْجاً يرنُّ. وإن كانت لي نبوَّة، وأعلم جميع الأسرار وكل علم، وإن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال، ولكن ليس لي محبة، فلستُ شيئاً. وإن أطعمتُ كل أموالي، وإن سلَّمتُ جسدي حتى أَحتَرِق، ولكن ليس لي محبة، فلا أنتفع شيئاً» (1كو 1:13-3). «المحبة تتأنَّى وترفق. المحبة لا تحسد. المحبة لا تتفاخر، ولا تنتفخ، ولا تُقبِّح (النزول بالمحبة إلى مستوى الشهوة القبيحة)، ولا تطلب ما لنفسها (محبة من أجل المنفعة الذاتية)، ولا تحتدُّ (أي لا تظلم وتضطهد وتُسيء بدعوى التأديب)، ولا تظنُّ السوء (كل بغضة وكراهية سببها الظن بالسوء)، ولا تفرح بالإثم (الشماتة) بل تفرح بالحق (فرح إلهي)، وتحتمل كل شيء (الصبر الطويل)، وتُصدِّق كل شيء (في بساطة إلهية)، وترجو كل شيء (في المسيح)، وتصبر على كل شيء. (وأخيراً) المحبة لا تسقط أبداً (عن مستوى الصليب)» (1كو 4:13-8) 6- المسامحة والغفران يفتح المسيح امامنا أبواب التوبة والمسامحة والغفران والطريق الذي يؤدي الى هذا الباب هو التواضع لأنّ معه ستتمّ أعمال المحبّة، في الغفران نتبادل معاً قبلة السلام والمصالحة مع الله ومن القريب. نحن لا يمكننا أن نهب الغفران للقريب ما لم نستمده من الله وكي نستمده منه علينا أن نستعد بأن نفغر بعضنا لبعض "أغفروا بعضكم لبعض فيغفر لكم أبوكم السماوي زلاتكم". ليس الصوم زمنًا لتعذيب الجسد او لمعاقبة الذات أو لإيفاء ديون لله. الصوم هو زمن يسوده الشعور بالمحبّة الأخويّة والشعور بمحبّة الله والدخول في غمرة أنواره السماوية الصوم هو الفترة التي تملؤنا فيها النعمة السماويّة من انسكابها في قلوبنا وحضرتها في حياتنا "فنسهو عن أكل خبزنا". الصوم هو الفترة التي لا نحيا فيها متصارعين من أجل "لقمة" خبز، بل هو الفترة التي يصبح فيها خبزنا الجوهري طعام الملائكة، أي التسبيح، وإطعام الأخوة أي المحبّة. 7- المحبة الاخوية والأخوة المشتركة: المحبة هى هبة الله للانسان وهى سر في داخل الانسان من خلاله يتمكن من حب الآخر. أعطانا يسوع نهج المحبة الحقيقيّة بمثل حياته ودعوته لنا لحب القريب وأكثر من ذلك حب العدو. جوهر حياة يسوع المحبّة وقد تمركز تعليمه حول وصيّة المحبّة "وصيتي هي أن تحبوا بعضكم بعضاً" من لا يحب اخاه يبقى فى الموت "عليك ان تحبّ الاخر مهما فعل، لان المحبة هي العلامة الوحيدة التي تميز اولاد الله" (اغسطينوس). فصارت المحبة الاخوية مقياسًا لشكل عبادتنا وعن ذلك تحدث يسوع عن أساسيّات العبادة وهى الصوم والصلاة (ارتباط روحي بالله) والصدقة (ارتباط ملموس بالقريب)، في تعبيرها الظاهري أي مشاركة الأخر والشعور به ليس فقط بالمال إنما بصدق المشاعر في كل ظروف حياته. لذا فالمحبة هي أيضاً معيار دينونتنا أمام الله وكيف تعامَلْنا مع القريب"كل ما فعلتموه بأحد اخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتموه يجب ان نعرف ان محبة المسيح للبشر هى التى جعلتنا نستطيع ان نحب البشر وهذه المحبة ظهرت في عمل المسيح الفدائي من خلال الصليب والقيامة. علامات المحبة الاخوية: 1- العمل التطوعي: يقوم هذا العمل في الخدمة التطوعية للمتألمين والمحتاجين من الفقراء والأيتام والارمال "احد إخوتي الصغار". كذلك في خدمة بيت الله والسهر الدؤوب على احتياجات البيت من ترتيب وتنسيق. 2- بالمثل الصالح: "يروا اعمالكم الصالحة فيمجدوا أباكم الذي في السموات" عندما تقدم عملاً ما لأي شخص يجب أن يأتي نابعاً عن محبة تجعل الآخر معجبًا بمثلك ليقتدي بك فتكونَ جذبته إلى الآب السماويّ. 3- باللطف وطول الأناة: كلمات من صميم انشودة المحبة لبولس الرسول، باللطف والأناة يمكننا تحمًّل الصليب والمضايقات، واحتمال الاشخاص كما هم لأنَ في الاحتمال نِعَمٌ وبركات لا تُحصى ولا تُعد."محتملين بعضكم بعضا فى المحبة". 4- الوداعة والبشاشة: هما سبيل الفرح والبهجة في نفوس الناس وقد خاطبنا يسوع بقوله أراكم فتفرحون ودعانا بولس الرسول الى أن نفرح في الرب كل حين فيسوع لنا هو روح الوداعة والفرح والبشاشة يقول ذهبيُّ الفم "لا تنتظر ان يحبك الاخر بل اقفز بمحبتك نحو الاخر". في الختام نقول: علينا التنبه من الحسد والفتن والمخاصمات فكثيرون هم الذين خانوا عهد الأمانة مع الرب برفضهم المحبة الأخوية. يقول مار افرام "الحسد يولد التذمر". علينا أن نحفظ قلوبنا للمزيد من الحب والعطاء والتفاني وفي قلب هذا الفعل المزيد من النعم، والقوة والمقدرة على الانتصار والهروب من الحسد والشر والأشرار والحفظ من المهانة للمهابة والخروج من الهوان للمجد ومن الفراغ الى الملء ومن الحقد الى الحب والمودة فالصوم والزهد والمحبة الأخوية هي الدواء الشافي لأمراض النفس والجسد كافّة. لنحفظ قلوبنا وننظّفها ونطلب من يسوع أن يقدّس اجسادنا ويطهّر نفوسنا كي نحظى بالنصيب الصالح لمحبة كبرى فعالة وكي نعمل كل عمل صالح يرضي مشيئته ولتبقَ في قلوبنا على الدوام المحبة والسلام.