موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ١٢ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٢

"الزواج" بين أشعيا وكاتب الإنجيل الرابع

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
"الزواج" بين أشعيا وكاتب الإنجيل الرابع

"الزواج" بين أشعيا وكاتب الإنجيل الرابع

 

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهْدين (أش 62: 1- 5؛ يو 2: 1 - 12)

 

مُقدّمة

 

نستكمل مسيرة سلسلتنا الكتابيّة، بنشر مقالنا اليوم، بقرأتنا نصّ أشعيا النبي من العهد الأول (62: 1- 5). نهدف لنناقش قضية الزَّوَاج الّتي هي صورة مستخدمة في كتابنا المقدس لوصف علاقة الله بشعبه وهي دعوة الكثيرين بيننا. يعبر لفظ الزَّوَاجِ عن علاقة حميمية ولا نجد الكلمات التي تصفها، لأنها "علاقة" يصعب وصفها فيه تُعاش. لذا رأينا أن نلجأ إلى إستخدام الصور والرموز الكتابية، فالعلاقة الحميمية الزَّوجية تحمل في جوهرها "سر الثالوث المقدس". عندما يصف الكتاب المقدس "الزَّوَاج" يشير لقلب العلاقة بين الله والبشرية، يستخدم صور الأكثر شيوعًا والتي ترتكز على العلاقات: بين الرجل والمرأة (راج تك 2: 18- 23)؛ الأب والأم بالابناء (راج أي 31: 18؛ مز 103: 16؛ مز 63: 13). في علاقة الأمانة الحميمية بين الزوجيّن (راج هو 1- 3). أما من العهد الثاني مدعويين اليوم للذهاب إلى العُرس للإحتفال بزَّوَاج عروسين، من يوحنّا الإنجيلي (2: 1- 12)  بمدينة قانا الجليل. مدعويين أيضًا يسوع ومريم أمه وبعض تلاميذه! يستخدم يوحنا الزَّوَاجِ بامتياز ليُدشين خدمة يسوع العلنية. يصبح سيّاق الزَّوَاج بالنسبة للإنجيلي بمثابة المكان الذي يمكن أن يتجلى فيه المعنى الأصيل لرسالة يسوع وللمدعويين ليتعرفوا على مجده من خلال معجزته الأوّلى.

 

 

1. الزَّوَاجِ (تك 2: 18)

 

ننطلق من مخطط الله منذ الخلق إذ «لا يَجبُ أَن يَكونَ الإِنسانُ وَحدَه، فلأَصنَعَنَّ له عَونًا يُناسِبُه» (تك 2: 18). هكذا خرج الثالوث المقدس من ذاته وصار نموذجًا لأول زوجين ليثمرا ويملئا الأرض. بالتدريج أوّفى الله بوعده من إسحق أوّل نسل إبراهيم حتى صار إثنى عشر  سبط من آخر بطريرك وهو يعقوب الذي دُعيّ إسرائيل، فصار فيما بعد أبنائه، بني إسرائيل. نتسأل من خلال نصّ أشعيا: ماذا يعني أن تفكر إسرائيل في نفسها بأنَّها عروس الله وأن يعلن الله عن نفسه كزوج لها؟ في الشرق القديم، مسألة الزَّوَاج كانت جوهرية للمرأة. فقد كان من الضروري أن يكون لها زوج لحمايتها، وليرعاها، خاصة في وقت الحمل ورعاية الأطفال وإعطاء الأبناء إسمائهم، أي الإعتراف ببنوتهم. كان الإرتباط برجل بدون زَّوَاجِ يثير حالة من عدم الاستقرار والإذلال (راج يو 4). من خلال العهد الإلهي صار بني إسرائيل كشعب هو بمثابة عروس الله لذا حياة الشعب وكرامته وسط الشعوب الأخرى تعتمد على العلاقة بالرّبّ. عدم وجود زوجة يشير إلى عدم وجود نسل أيّ مستقبل، كان سبب لعنة كبيرة للرجال، كما إنَّه بالنسبة للمرأة مسألة العقم كانت عار (راج لو 1). لذا يُعرّف الله، بشكل رمزي، نفسه بأنه زوج إسرائيل التي هي نواة للبشرية. كما أن العريس لا يعيش بدون عروسه هكذا الله لا يحيا بدون شعبه. مِن خلال هذا المقال سنتعمق في معنى الزَّوَاج كتابيّاً  خلال قراءة إشعيا 62، نجده مرتبطًا بموضوع "الظهور" المنشور الإسبوع الماضي. يصير الزَّوَاج سمة خاصة لتجلّي الرَّبّ. إنه أقوى الصور التي إستخدمها العهد الأول للتحدث عن علاقة إسرائيل بإلهها.

 

 

2. نبؤة إستباقيَّة (62: 1- 5)

 

يقدم أشعيا صورة إستباقية يجعلنّا نفهم بعمق نصّ يوحنّا (2: 1- 12)، من خلال مرجعين؛ الأول حين يقول النبي: «فتَرى الأُمَمُ بِرَّكِ وجَميعُ المُلوكِ مَجدَكِ وتُدعَينَ بِآسم جَديد يُعَيِّنُه فَمُ الرَّبّ» (62: 2). يتحدث النبي عن وقت يظهر فيه "بِرَّ أورشليم" لجميع الشعوب إذ يضيء خلاصها كمصباح. إنه نصّ يكشف عن قمة الصبر والامانة الكاملة بوعد عريسها. سيرى كل شعوب الأرض، ممثلة بملوكهم، عودة راقية الشعب كنعمة حفاظها على العهد مع إلهها.يتضح المرجع الثاني في تعبير الزَّوج: «لا يُقالُ لَكِ مِن بَعدُ: "المَهْجورة" ولِأَرضِكِ لا يُقالُ مِن بَعدُ: "الدَّمار" بل تُدْعَينَ: "رِضايَ فيها"  وأَرضُكِ تُدْعى "المُتَزوِّجة" لِأَنَّ الرَّبَّ يَرْضى عَنكِ وأَرضَكِ تَكونُ مُتَزَوِّجة» (62: 4). ستنال العروس من عريسها وهو الرَّبّ الاسم المُناسب لعلاقتها به. فالـ "الإسم الجديد"سيفوق كل التوقعات وهو أكثر قوة من الإسم القديم.

 

في العهد الأول، مصطلح "زّوج" بالعبرية له أكثر من معنى بخلاف إستخدامه كـ "زّوج" فهو يعني "السيد" حتى "البعل" الصَّنم، كان يُدعى بالزّوج، فهو مُنافس الرَّبّ الوحيد "أدوناي" عريس إسرائيل. في قول النبي: «كَما أَنَّ شابّاً يَتَزِوَّجُ بِكراً كذلك بَنوكِ يَتَزوَّجونَكِ وكسُرورِ العَريسِ بِالعَروس يُسَرُّ بكِ إِلهُكِ» (62: 5). يشير إلى إنه في هذا الوقت الجديد الذي يمنحه الله لشعبه سيكون الرَّبّ العريس الوحيد في صهيون ولن يكون هناك زوج غيره. ستكون إسرائيل مُخِلِصة لإلهها ولن يكون لها آلهة آخرى. أثناء التمتع بأجواء من الفرح والاحتفال بمناسبة زفاف عظيم، يقر أخيرًا الإتحاد النهائي بين الله وشعبه؛ إتحاد يفرح به جميع شعوب الأرض. يخبرنا النص عن الإنجاز المتوقع عند ثبات علاقة إسرائيل المضطربة بإلهها، من خلال رواية الأمانة والزنى. لقد شهدت علاقة العروس الحميمة بزَّوَجِها لحظات أزمة عميقة، لكن الرّبّ يُجددها دائمًا ولا يهملها.

 

 

3. العُرس لدى يوحنّا (12: 1- 3)

 

يروي يوحنّا في أوّل حدث له عن يسوع وهو "الظهور الإلهي" في عرس قانا. هذا الحدث يرمز إلى وليمة العُرس الإلهي، وليمة تعبر التاريخ ولا تنتهي بل تأتي بخمر الفرح والوفرة بسبب حضوره. من خلال العريس يتجلى الله الذي إحتفظ بأفضل النعم (نبيذ) لمحبوبته. من خلال تبعيتنا ليسوع إلى قانا لنفهم من خلال أفعاله وكلامه معنى هذا النبيذ الجديد الذي إحتفظ به حتى النهاية. مدعوين كالخدم للقيام بما يقوله لنا لإحضار ماء ليجلب لنا فرحه.

 

عُرس غريب!، هل تمادى يوحنّا في تقديمه للضيوف، مهملاً العريس والعروس؟ يبدو من النصّ ظهور العريس بشكل موجز وعابر، أمّا العروس غائبة تمامًا. في الواقع، إذا قرأنا النص بدقة، نجد إنه لا ينقص الأبطال، علينا اكتشافهم.

 

 

4. نقطة تَّحّول (يو 2: 1- 8)

 

من هي العروس؟ العروس هي صهيون - إسرائيل الـُممَثَّلة بأم يسوع، والتي يخبرنا النص عنها أنها: «كانَت أُمُّ يَسوعَ هُناك» (2: 1). ومن خلال الحوار الذي دّار بينهما حينما: «نَفَذَتِ الخَمْر، فقالَت لِيَسوعَ أُمُّه: "لَيسَ عِندَهم خَمْر". فقالَ لها يسوع: "ما لي وما لَكِ، أَيَّتُها المَرأَة؟ لَم تَأتِ ساعتي بَعْد"» (2: 2- 3). تُدعى والدة يسوع امرأة، وهو مصطلح يشير بالتأكيد في اليونانية إلى المرأة بشكل عام، ولكن قبل كل شيء "المرأة المتزوجة". تمثل والدة يسوع العروس في هذا الحدث، أي شعب إسرائيل الذي أعلنه أشعيا بصورة عروس الرّبّ. إذن نفهم أن يوحنّا يهدف إلى كشف إستمرارية علاقة الله بشعبه، أيّ الله والبشرية. هذا يعني أنه مع مجيء يسوع هذا التاريخ المضطرب، الـمُمزوج بين الأمانة والخيانة، من أوقات هبوط وصعود، يصل إلى نقطة تَّحّول حاسمة وهي إن اليوم الكنيسة هي عروس الرّبّ.

 

 

5. العريس! (يو 2: 8- 10)

 

مَن هو العريس؟ لا يصف النصّ أنّ يسوع هو العريس. ظهور يسوع ما هو إل مدعو فقط بالعُرس. العريس موجود بالنصّ إلا إنه شخصية ثانوية إذ ناداه وكيل المائدة حين قال يسوع للخدم: «"اِغرِفوا الآنَ وناوِلوا وَكيلَ المائِدَة". فناوَلوه، فلَمَّا ذاقَ الماءَ الَّذي صارَ خَمْراً، وكانَ لا يَدري مِن أَينَ أَتَت، في حينِ أَنَّ الخَدَمَ الَّذينَ غَرَفوا الماءَ كانوا يَدْرُون، دَعا العَريسَ وقالَ له: " كُلُّ امرِىءٍ يُقَدِّمُ الخَمرَةَ الجَيِّدَةَ أَوَّلاً، فإِذا سَكِرَ النَّاس، قَدَّمَ ما كانَ دونَها في الجُودَة. أَمَّا أَنتَ فحَفِظتَ الخَمرَةَ الجَيِّدَةَ إِلى الآن"» (2: 8- 10). من هنا نتفهم أنَّ العريس هو الله نفسه الذي تتجه إليه بشريتنا العروس باندهاش، لأننا بالرغم من الذهول نُدرك النِعَمْ التي احتفظ بها العريس لكلاً منّا حتى النهاية. وهذه النعمة هي يسوع ذاته. وضع  الإنجيلي على لسان وكيل المائدة، إعلان هوية العريس في شخص يسوع الذي بكلمته تحولت جرار الماء إلى نبيذ. الماء الّذي كان في الجرار الحجرية التي كانت تستخدم لتطهير اليهود. هذا يشير إلى عهد الله مع شعبه. في حقيقة الأمر، لا يتحول الماء إلى خمر إلا بعد طاعة العروس لكلمات العريس. تعاون إسرائيل في عمل المسيح.

 

 

الخلّاصة

 

يهدفا هذين النصيّن إلى العرس الإلهي الذي يعده العريس الإلهي لعروسه يوميّاً. يتم في هذه الوليمة إعلان لخطة الله الخلاصية التي بدأت مع أشعيا ووجدت ذروتها في يسوع وتستمر فينا حتى يتم اللقاء النهائي بالعريس. بالماضي كانت هناك مراحل مختلفة لتاريخ الخلاص، لكن العهد الوحيد الذي قطعه الله مع البشرية فريد من نوعه والذي يحمل رمز الماء الذي أصبح خمرًا إلى تاريخ الخلاص هو الذي أتمه يسوع. يشير الماء إلى الخلق، الذي تجدد في العهد الذي قطعه الله مع البشرية. اليوم يجمع إسرائيل الذي يرمز للكنيسة هذا الماء في أوان لحمية (راج إر 31: 31-34). هذا النبيذ صار عهدًا جديدًا ووجد ذروته في "ساعة يسوع" (راج يو 19: 23) صنعه الله بشكل نهائي مع عروسه الكنيسة التي ترمز لكل البشرية. قدّم يوحنا أوّل آيات أي معجزات يسوع مُعلنًا ملامح وليمة العُرس لّاهوتيّا، بذلك يمكننا أن نرى في علامة قانا المعنى الأعمق لرسالة يسوع، الذي جاء ليؤسس علاقة نهائية بين الله والبشرية، والتي تُعلن بلغة "العُرس" بحضور المؤمنين. دُمتم أعضاء شابة في الكنيسة- العروس الإلهية.