موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢٨ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢١

"الخيمة" بين يشوع بن سيراخ وكاتب الإنجيل الرابع

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
"الخيمة" بين يشوع بن سيراخ وكاتب الإنجيل الرابع

"الخيمة" بين يشوع بن سيراخ وكاتب الإنجيل الرابع

 

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (سي 24: 1- 16؛ يو 1: 1 - 18)

 

مُقدّمة

 

القُراء الأحباء، في هذا العام الجديد الذي نستكمل فيه مسيرة قرئتنا الكتابية فيما بين العهدين. ندعو القدير الذي تكلم بالوحي والإلهام للكُتاب بالماضي أن يستمر في مسيرة كشفه عن ذاته اليوم في زمننا المُعاصر، فيصير نور كلمته الّذي أُعلنّ في "يسوع الإبن الكلمة" ساطعًا فينا من خلال كلمته بالكتب المقدسة. هناك جزء بين الكتب المقدسة، التي تنتمي للعهد القديم، يُدعى الكُتب الحكمية. سفر يشوع إبن سيراخ، ينتمي لهذه المجموعة الحكمية، وهو من الكتب القانونية الثانية. سنستعين بمقطع من هذا السفر في مقالنا هذا (سي 24: 1- 16) لنقرأ على ضوئه مقطع ينتمي للّاهوت اليوحنّاوي بأول أعماله وهو الإنجيل (يو 1: 1- 18). هذه الأعداد هي بمثابة إفتتاحية الإنجيل الرابع وهي بمثابة خُلّاصة لكل الإنجيل لأنه يحوي على المفاتيح اللاهوتيّة التي سيفسرها يوحنّا الإنجيلي فيما بعد على مدى الإصحاحات الواحد والعشرون اللاحقين.

 

المضمون الذي رأيناه يُوحد بين المقطعين هو "الخَيمة". سواء يشوع إبن سيراخ أم يوحنا التلميذ بالرغم من إختلاف العوامل الزمنية والمكانية بينهما، إلا إن كليهما نجحا في إعلان ما ألهمهم به روح الله لتبشيرنا بـــ "الخيمة الإلهية الأبدية" التي صارت بشرية. لقدّ تناول سيراخ هذا الموضوع قبل التجسد مُنطلقًا من الحكمة المخلوقة من الله منذ الخلق. وبالتدريج متطلعين على بعض النصوص الكتابية الأخري وصولاً بالعمل اليوحنّاوي سنكتشف الوجه المتجسد لحكمة الله في خيمته التي وجدت مِلئُها في اللوغوس أي "الكلمة" وهو يسوع المُتجسد.

 

 

1. البَحثُ الإلهيّ والبشري (سي 24: 1-4)

 

حينما نتأمل في عمل الحكمة الإلهية في جميع الأسفار المقدسة نجد إنه يبدأ بمسيرة من البحث. حينما بدأ يبحث الخالق عن المخلوق الأوّل بدأ يتسأل: «آدم ، أين أنت؟» (تك 3: 9). هذا هو أوّل سؤال طَّرحه الخالق على مخلوقه البشري مباشرة بعد عصيانه في بدء الخلقية. جاء العصيان نتيجة لصراع الرجل والمرأة مع حريتهما. في الخلق، يخبرنا كاتب سفر التكوين عن خطة الله للرجل والمرأة، وهي الخطة التي علينا أن نحققها في تاريخنا البشري فنحن بمثابة إمتداد لهما. بهذا البحث تمكن الخالق من التأكد من عدم تجاوب الإنسان الأوّل ليعاونه في إكتمال مشروعه الخلاصي، وفقًا لخطته. إن تاريخنا البشري كله يمر يعبر بهذا السؤال حتى يومنا هذا، ولا زال بحث الله مستمر مُوجهًا لكلاً تساؤله: «أين أنت؟». في حديقة عدّن إختبأ الرجل والمرأة لأنهما كانا خائفين من الله خالقهما. حتى أنهم لم يتعرفا عليه حينما نادى عليهما! كيف يتعرفون على الخالق وهم يخالفونه، إنهم يخافونه ويختبئون منه لأنهم عُراة. إذن بحث الله عن الرجل والمرأة، ليس لأنه لم يعرف مكانهما بل لأنه لم يجدهما بحسب ما أراده لهما عند خلقهما، فإن الرجل والمرأة أيضًا إنحرفا عن الله، لأنهما يخافانه، فيعتبرانه خِصمًا مُنافسّاً لهما وليس إله البركة، فهو مَن يريد أن تُخصب وتُثمر الحياة وتتطور إلى إمتلائها من خلال معاونتهما كأوّل زوجين في عمله الخلاًق حينما قال: «اِنْموا واَكْثُروا وأمْلأُوا الأَرضَ» (تك 1: 28).

 

هناك مسيرة من البحث المتبادل، بعد كل شيء، يمر عبر تاريخ البشرية بأكملها في علاقتها بالله، وحتى في سيناء، عندما إلتقى الله بموسى وطلب موسى من الله أن يظهر له وجهه. والرب لا يفعل شيئًا سوى أن يخبره برحمته وطريقته في التعامل مع البشرية: «الرَّبُّ الرَّبّ! إِلهٌ رَحيمٌ ورَؤُوف، طَويلُ الأَناةِ كَثيرُ الَرَّحمَة والوَفاء» (خر 34: 6). إنه إله البركة الذي يحرر شعبه ويسكن بينهم في خيمته. ولكن الناس الذين يسكن الله بينهم في الخيمة لا يثقون بحضوره ويأسفون على عبودية مصر. لا يعرف الناس كيف يتعرفون على إلههم، وهذا أيضًا ما يصفه لنا كتاب سيراخ من خلال صورة الحكمة التي نصبت خيمتها في يعقوب فيقول: «حينَئِذٍ أَوصاني خالِقُ الجَميع والَّذي خَلَقَني أَقرّ خَيمَتي وقال: "أُنصبي خَيمَتَكِ في يَعْقوب ورِثي في إِسْرائيل"» (سي 24: 8).

 

 

2. إجابة الرّبّ (يو 1: 14)

 

يتحدث إلينا يوحنّا في مقدمة إنجيله أيضًا عن هذا البحث المتبادل. الله، في كلمته، صار جسداً، ونصب خيمته بيننا وأخبرنا عن وجهه، وكشف لنا إسمه: «كانَ في العالَم وبِه كانَ العالَم والعالَمُ لَم يَعرِفْهُ» (يو 1: 10). يمكننا أن نقرأ التجسد الذي نحتفل به في هذه الأيام يناء على خلفية هذا البحث المتبادل بين الله والبشرية. فالبشرية تنتظر المسيا، وحينما يأتي المسيّا البشرية لا يمكنها أن تتعرف عليه! بهذا نعود إلى السؤال الأول بسفر التكوين وهنا نجد الإجابة. نعم إنه الله الخالق الذي يجيب على التساؤل الذي وجهه للمخلوق الاوّل: «أين أنت؟». إنّ إبن الله الّذي أخذ جسدنا ليساعدنا على أن يتعَّرّف الله على خليقته فيه، وفقًا لخطة البركة والحياة الّتي أرادها منذ البدء. وأيضًا حتى يتمكن الرجل والمرأة من التعرف على خالقهما وُلِدَّ يسوع الإبن ليخبرنا عن وجه الآب: « إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه» (يو 1: 18). إله لا نخاف منه، ولا نختبئ منه في عريننا المختبئ غير مُعتقدين أننا مختفين عن أعين خالقنا. بهذا نُشكل جماعة الذين قبلوا " كلمته" إذ «مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله» (يو 1: 12).

 

 

3. الـخـَيمة (سي 24: 8- 12)

 

نقطة التواصل التي تحدث عنها كاتب سفر سيراخ والإنجيليّ الرابع تتضح في لفظ "الخَيْمَة". نَسَّبَ العهد الأول لفظ الخيمة على الأشخصا الرحالة أي الـمُتنقلين من مكان لآخر. رافقت صورة "الترحال" الكثير من بني إسرائيل حتى تمّ إستقرارهم في أرض الميعاد. والغريب إننا في سفر الخروج نُفاجأ بأن الرّبّ ذاته طلب من موسى أن يرافق الشعب في خيمته من خلال "تابوت العهد". ومما يشير لقدسية هذه الخيمة المقدسة التي حلّ فيها الحضور الإلهي بحسب كاتب سفر الخروج القائل: «أَخذ موسى الخَيمة فنَصَبَها لَه [لتابوت الرّبّ] خارِجَ المُخَيَّم، بَعيداً عنِ المُخَيَّم، وسَمَّاها خَيمةَ المَوعِد. [...] إِذا رأَى كُلُّ الشَّعبِ عَمودَ الغَمامِ واقِفاً على بابِ الخَيمَة، يَقومُ بِأَجمَعِه ويَسجُدُ كُلُّ واحِدٍ على بابِ خَيمَتِه، وُيكَلِّمُ الرَّبُّ موسى وَجهاً إِلى وَجْه، كَما يُكَلِّمُ المَرءُ صَديقَه. وإِذا رَجَعَ إِلى المُخَيَّم، كانَ مساعِدُه يَشوعُ بنُ نونٍ الفَتى لا يَبرَحُ مِن داخِلِ الخَيمَة» (خر 33: 7- 11). هذا هو أصل الخيمة بحسب سفر الخروج. ثم تأتي فترة الكُتاب الحكمية التي تلتّ حقبة الخروج من أرض مصر وبعد إستقرار بني إسرائيل يعلن كاتب سفر سيراخ في المقطع الـمُختار لمقالنا بفكر آخر إي ينسب للحكمة هذا القول:  «حينَئِذٍ أَوصاني خالِقُ الجَميع والَّذي خَلَقَني أَقرّ خَيمَتي وقال: "أُنصبي خَيمَتَكِ في يَعْقوب ورِثي في إِسْرائيل". [...] في المَسكِنِ المُقَدًسِ أَمامَه خَدَمتُ وهكذا في صِهْيونَ اْستَقرَرتُ [...] فتأَصَّلتُ في شَعبٍ مَجيد وفي نَصيبِ الرَّبِّ، نَصيبِ ميراثِه» (24: 8- 12). في هذا القول تأكيد بأن الحكمة المخلوقة من الله أطاعت أمره الإلهي ووجدت سُكناها بين البشر وإستقرت فصارت صَوتِه الإلهي.

 

 

4. الكلمة-اللوغوس (يو 1: 14)

 

لن يتوقف الصوت الإلهي بل يصل إلى ذروته مُتتبعين إياه بكلمات  كاتب الإنجيل الرابع حينما يعلن عن "الخيمة الأبدية" التي أرادها الآب لأبنائه البشريين أيّ نحن، فتكلم كلمة نهائية وأبدية لأنها تستمر ولن تنتهي بعد: «والكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فسَكَنَ [بخيمته] بَينَنا فرأَينا مَجدَه مَجداً مِن لَدُنِ الآبِ لابنٍ وَحيد مِلؤُه النِّعمَةُ والحَقّ. [...] فمِن مِلْئِه نِلْنا بِأَجمَعِنا وقَد نِلْنا نِعمَةً على نِعمَة. [...] النِّعمَةُ والحَقّ فقَد أَتَيا عن يَدِ يسوعَ المسيح» (1: 14- 17). نعم يسوع هو الخيمة الجسدية التي كشفت عن وجه الآب الغير مرئي وأعلن كلمته الأبدية في ذاته من خلال تجسده. دخول يسوع للعالم الأرضي بطبيعة بشرية ليختبر حياتنا حاملاً الخلاص والنور وأيضًا هو أعطى جسد للحكمة الإلهية التي تحدث عنها قبل قرون كاتب سفر سيراخ. لذا نُدرك سبب إطلاق مار بولس على يسوع لقب "حِكمَةُ اللّه" حينما قال: « فإِنَّنا نُبَشِّرُ بِمَسيحٍ مَصْلوب [...]، فهُو مسيح، قُدرَةُ اللّه وحِكمَةُ اللّه» (1كو 1: 23- 24). فالحكمة لم تعد بالفكر أو بالباطن فقط بل تجَسَّدَّت في يسوع الكلمة-اللوغوس وصارت قريبة من الإنسان، يمكن أن يحمله على ذراعيه كطفل صغير وفي قلبه من خلال جسده المقدس بسر الإفخارستيا.   

 

 

الخلاصّة

 

لازلنا في إطار إحتفالات سر تجسد إبن الله من خلال قرائتنا في هذا الأسبوع مُسترشدين بالمقطع الأوّل (24: 1- 16) المأخوذ من سفر سيراخ حيث تأملنا معًا خطاب الحكمة. مما ساعنا للتوصل فيما بعد إلى العديد من النقاط المشتركة التي تربط بين هذا النص مع إفتتاحية الإنجيل الرابع (1: 1- 18). على وجه الخصوص، تتبعنا بعض المفردات مثل "الحكمة" و "الخيمة" و "البحث" و "اللوغوس" وهم ألفاظ مركزية بكلا النَصيّن.

 

لذا نوّدّ أن نختم هذا المقال ذو الصبغة الميلاديّة الذي قادنا من مسيرة بحث الله عن الإنسان ليجد إجابة نهائية في إبنه اللوغوس الحيّ ويصير إجابة لكل البشرية بكلمة إلهيّة أبديّة، يسوع اللوغوس. إذ بحسب وصف كاتب سفر العبرانيين يقول: «إِنَّ اللهَ، بَعدَما كَلَّمَ الآباءَ قَديمًا بِالأَنبِياءَ مَرَّاتٍ كَثيرةً بِوُجوهٍ كَثيرة، كَلَّمَنا في آخِرِ الأَيَّام هذِه بِابْنٍ جَعَلَه وارِثًا لِكُلِّ شيء وبِه أَنشَأَ العالَمِين» (1:1- 2). لا مجال للدور النبوي أو الكهنوتي ... أو أي أدوار بشرية فيما بعد. فمن الآن وصاعداً لا تعلو كلمة فوق الكلمة الإلهية الأخيرة وهي "يسوع-اللوغوس- كلمة الحياة". القُراء الأفاضل دُمتم في ميلاد دائم.