موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ١٩ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٢

"التواضع الزائف" بين كاتبي سفر سيراخ والإنجيل الثالث

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (سي 35: 15- 22؛ لو 18: 9- 14)

سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (سي 35: 15- 22؛ لو 18: 9- 14)

 

مقدّمة

 

قراء الصفحة الكتابية الأفاضل، بين كاتب سفر سيراخ بالعهد الأوّل والإنجيل الثالث بالعهد الثاني سنتوقف اليوم أمام مضمون حيوي يخص كل الأوقات وهو التواضع. إلّا إننا لن نتحدث عن التواضع كفضيلة بل حينما يصير مزيفًا ويحمل نقمة لمّن يعيش في حضور الرّبّ بقلب يظن إنّه متواضع إلّا إنّه يقع في فخ البطلان والحياة المزيفة. لذا يأتي لمعاونتنا من هذا الخطر الشيخ سيراخ محذراً من بعض الخدع الّتي تصيب قلب الإنسان وعلاقته بالله وبأخيه الإنسان. يتوجه الحكيم بتقديم النصائح من خلال الأسئلة البلاغيّة المُشار إليها بالنص. ثم نسمع يسوع في مثله يقدم شخصيتين متناقضتين ليعلمنا الجديد عن سره الإلهي ويكشف الفرق بين التواضع الحقيقي والزائف. مدعوين في مقالنا هذا أنّ نقترب من شخصيات النصين في النص الأوّل لنكتشف الجديد عن سر الله في إرشادات الحكيم والتعرف على ما بالقلب من نوعية التواضع. ثمّ نتشجع ونسير مع الفريسي والعشار نحو الهيكل لنمكث أمام الرّبّ بحقيقتنا وإن كان هناك ما يزيف حياتنا فلنضعه أمام الرّبّ طالبين الغفران.

 

1. كاتب سفر سيراخ (35: 15- 22)

 

نعلّم أن كتاب سيراخ هو أحد الكتب الحكمية بالعهد الأوّل وإنّه تم ينتمي للكتب ذات القانونية الثانية. يبدأ هذا النص بتساؤل بلاغي وكأنه يهمس في أذن كل شخص قائلاً: «مَنِ اْتَّقى الربَّ فطوبى لِنَفْسِه: على من يَعتَمِدُ ومَن سَنَدُه؟» (35: 15). لفظ "مَن"، الّذي يتكرر عدة مرات في هذا النص، يفتح المجال لك أيها القارئ الفاضل أنّ تضع اسمك لتدخل في دائرة الطوباويين من قبل الرّبّ. وتجد إجابة من حياتك على التساؤلات الّتي يطرحها الكاتب. الثقة بأنّ: «عَينا الرَّبِّ إِلى مُحِبَيه: إِنَّه حِمايةٌ قَديرةٌ وسَنَدٌ قَوِيَ وسِتْرٌ مِنَ القَيْظِ وظِلٌّ مِنَ الهَجير ووِقايَةٌ مِنَ العَقَبات ونَجدَةٌ عِندَ السّقوط. يُعْلي شَأنَ النَّفْس ويُنيرُ العَينَين وَيمنَحُ الشِّفاءَ والحَياةَ والبَرَكَة» (35: 16- 17). الرّب الإله يرعى كلاً منا بحسب احتياجه وهو السند والحماية، ... . ثمّ يستكمل سيراخ الشيخ، حديثه بموضوع الذبائح الّتي تأتي من الظلم وعلى حساب الفقراء، مُحذراً في رسالته من الانتباه في كل ما يقدم للرّبّ من ذبائح. يضع الكاتب الكثير من الأسئلة البلاغيّة التي تضع الإنسان أمام ذاته ليعيد نظام حياته أمام الرّبّ والآخرين، لئلا يحيا في الفكر الزائف والباطل. يدعونا كاتب سفر سيراخ في هذا النص لتوافق العلاقة مع الله في القلب والصلاة بالعلاقة مع الآخر في الحياة العملية. ويختتم النص بطرح سؤالاً يدعونا للتفكير بجدية: «الإِنْسانُ الَّذي يَصومُ عن خَطاياه ثُمَّ يَعود يَرتَكِبُها مَن يَستَجيبُ صَلاتَه وماذا يَنفَعُه تَواضُعُه؟» (35: 22). هكذا التواضع الزائف يصير معيار لرؤية الذات أمام الله وأمام الآخر.

 

 

2. يسوع المعلم (لو 18: 9- 10)

 

يُمهد الإنجيلي بتنويه خاص عن مناسبة المثل التعليمي الّذي يطرح فيه يسوع الجديد عن سره الإلهي حينما يقول: «ضرَبَ [يسوع] أَيضًا هذا المَثَلَ لِقَومٍ كانوا مُتَيَقِّنينَ أّنَّهم أَبرار، ويَحتَقِرونَ سائرَ النَّاس. صَعِدَ رَجُلانِ إِلى الهَيكَلِ لِيُصَلِّيا، أَحَدُهما فِرِّيسيّ والآخَرُ جابٍ» (لو 18: 9- 10). هذا الوصف الدقيق يشير لرُقي يسوع في تعليمه لأناس لهم من القناعات الخاطئة تأثيراً كبيراً على حياتهم وأعمالهم من خلال الاعتقادات الخاطئة التي وقعوا فيها جهلاً أو عمداً. يأتي يسوع كسند وحماية ليحملنا من ضعفاتنا ومعتقداتنا الخاطئة. هذه المشاعر الّتي تحمل الحب لا زالت تتوجه إلينا فقد نكون من هؤلاء المعتقدين بالخطأ إننا أبرار ولكننا لازلنا نحتاج لنعمة ورحمة الرّبّ لينزع منا الأنا المدمرة.

 

 

3. الفريسي (لو 18: 11- 12)

 

على ضوء ما تأملناه من كتابات العهد الأوّل لدى كاتب سفر سيراخ يتضح لنا أن التواضع هو موضوع جوهري سواء أمام الله أم أمام البشر. نعلم أنّ فئة الفريسيين هي فئة متشددة في فكرها وتحفظها على الشريعة. فما يقوله الفريسي لاحقًا بالعهد الثاني يتوافق في حقيقته مع واقعه اليهودي دينيًا واجتماعيًا، فهو لا يكذب. يفعل كل ما هو يتوجب عليه، وكل ما تُوصى به الشريعة، وأيضَا كل ما هو اختياري. كما إنه يفعل شيئًا أكثر من اللازم للتعويض عن أي تجاوزات غير مقصودة، كالصيام الأسبوعي. بالنسبة لوضع جسده أثناء صلاته بالهيكل، فهو صحيح أيضًا، الوقوف في حضرة الرّبّ بالهيكل ليس علامة على الكبرياء، بل هو الوضع الطبيعي للصلاة من أيّ رجل عبري تقي.

 

مع أننا لا يمكننا أن نتلمس أيّ بطلان في صلاته. فالفريسي يبدأ بتقديم الشكر، ثم يسرد مزاياه فقط. الشكر يعني بالاعتراف بأنّ الخير الشخصي يأتي من الآخرين أو من الآخر العظيم أي الله. أما الفريسي، من ناحية أخرى، فلا يتكلم إلا عن نفسه وعن مزاياه. الأشياء التي ذكرها صحيحة، إنها صلاة الشكر غير صحيحة. موضوع صلاته ينحصر في "الأنا" فقط، هذا هو الخطر الّذي يدمر التواضع الحقيقي فيصير مزيف. لذا قد لا يكون الله موجودًا بالفعل بالنسبة له. إنه موجود بالجسد أمام الله، ولكن بعد ذلك يتصرف كما لو أنّ الله ليس موجودًا بسبب الأنا المنتفخة والـمُصابة بالكبرياء وهذا ما نتبينه من كلمات صلاته بالهيكل : «فانتَصَبَ الفِرِّيسيُّ قائِماً يُصَلَّي فيَقولُ في نَفْسِه: "الَّلهُمَّ، شُكراً لَكَ لِأَنِّي لَستُ كَسائِرِ النَّاسِ السَّرَّاقينَ الظَّالمِينَ الفاسقِين، ولا مِثْلَ هذا الجابي. إِنَّي أَصومُ مَرَّتَيْنِ في الأُسبوع، وأُؤَدِّي عُشْرَ كُلِّ ما أَقتَني"» (18: 11- 12).

 

 

4. العشار (لو 18: 13)

 

أمّا من جانب الشخصية الأخرى التي يقدمها يسوع وهي العشار الّذي يكشف حقيقة ذاته. لم يكن جباة الضرائب فئة متهمين ظلماً ومهمشين، بل كانوا فعلاً في حالة فساد وخطيئة. العشار لا يتجرأ برفع عينيه إلى فوق أيّ السماء وهو بالهيكل، علامة على خجله، قارعًا على صدره وطالبًا التوبة. هذه هي تعبيرات أولئك الذين يعتبرون أنفسهم خطأة. في صلاته نتلمس الفرق الحقيقي بين ما يقوله وما يفعله وبين وضعه الوجودي أمام الرّبّ. إنه واقفًا أمام الله بتواضع، أي في الحقيقة فيما يتعلق بحالته. هذا هو الفرق الأساسي بين صلاته وصلاة الفريسي المزيفة. ويهمس وهو منحني الرأس قائلاً: أَمَّا الجابي فوَقَفَ بَعيداً لا يُريدُ ولا أَن يَرَفعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماء، بل كانَ يَقرَعُ صَدرَه ويقول: "الَّلهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطئ!"» (لو 18: 13). هذا الوضع مع الكلمات التي يعبر بها عن حقيقة ما بقلبه تختلف تمامًا فهو يشعر بفقره الباطني وإحتاجه لقفران الرّبّ دون أنّ يقارن ذاته بالفريسي.

 

 

5. الكلمة الأخيرة (لو 18: 14)

 

يفاجئنا لوقا بأن يسوع يختتم تعليمه من خلال المثل قائلاً: «أَقولُ لَكم إِنَّ هذا نَزَلَ إِلى بَيتِه مَبروراً وأَمَّا ذاكَ فلا. فكُلُّ مَن رَفَعَ نَفْسَه وُضِع، ومَن وَضَعَ نَفْسَهُ رُفِع» (18: 14) بالتنويه لفضيلة التواضع الحقة والتحذير من الإنتفاخ بكبرياء الذات. يسوع لا يحكم ولا يدين أيّ منهما بل نجح في توضيح رسالته وكشف سره بشكل غير مباشر لئلا يجرح سامعيه، نحن اليوم، يأتي يسوع ليحررنا من فخ الأنا الذي يصيب العلاقة بالرب وبالآخر. هذا النص يدعونا للتساؤل أين أنا من التواضع أيّ وضع الذات، أو من رفع الذات؟ ويرشدنا بأن الكلمة الأخيرة لمن يتضع بوضع ذاته أيّ التمتع بحياة التواضع الحقيقية أمام الربّ والآخر. توجد خصائص لكل من صلاة الفريسي وصلاة العشار.

 

 

الخلَّاصة

 

سواء دعوة كاتب سفر سيراخ بالعهد الأوّل أم التعرف على خصائص العشار، والفريسي بالإنجيل الثالث بالعهد الأوّل. كلاً منهم يمثل ميزانية للحياة. في حياة كل إنسان، عاجلاً أم آجلاً، يحين الوقت للتقييم. إنها لحظات قوية ومهمة. كثيرًا ما يشكك الإنسان في حياته، ويضع ذاته أمام عينيه وينظر لها، كما لو كان شاهدًا ضروريًا. بعد كل شيء، فإن ما يحمله القلب وتصير الصلاة هي المعيار لتقييم حياة المرء أمام الله، على ضوء كلمته. يمكن أن تكون طرق إدخال الله في هذه اللحظات المركزية في حياتنا مختلفة تمامًا. كما في صلاة جابي الضرائب، مع "الأنا"، تظهر حقيقة "الأنت" أيضًا. حقًا، إن "أنت" الله بالحضور الحاسم في حياة كلاً منا. يمكننا أن نضع قائمة بسلسلة من أفعالنا بحقيقتها، ولكن الأمر متروك لله وحده ليقدم إكليل العدل؛ على الله أن يتوج بالعدل الميزانية التي يجعلها كل أنسان أساسية في حياته. التواضع الحقيقي هو كنز المسيحي، أما المزيف فينحدر به نحو هاوية الهلاك. يمكننا أن نتسأل قرائنا الأفاضل: كيف أقف أمام الله؟ كيف أحقق أرصدة حياتي أمامه؟ يمكننا أن نقف في حضوره في المكان المناسب، ويمكننا أن نقول كلمات صحيحة، ولكن نجد أنفسنا محاصرين في عدم القدرة على أن نكون صادقين أمام الله، فلنطلب مِن الرب أن نصير رجالًا ونساء قادرين على تقديم الشكر؛ أيّ رجال ونساء قادرون على إدراك حقيقة ذواتنا عالمين أنّ خيرنا الحقيقي يأتي من الرّبّ حينما نقف أمامه بتواضع حقيقي وليس مزيف. دُمتم في ملء التواضع الحقيقي بنعمة الرّبّ.