موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ١ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢١

البرية بين باروح النبي ولوقا الانجيلي

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
البرية بين باروح النبي ولوقا الانجيلي

البرية بين باروح النبي ولوقا الانجيلي

 

سِلسِلة قِراءَاتِ كِتَّابِيّةٍ بَيّنَ العَهْديَّن (لو 3: 1- 6؛ با 5: 1- 9)

 

مقدّمة

 

أيها القُراءّ الأحَبِاءْ، نودّ أن نستثمر  قرائتنا الكتابية في هذا الزمن الغنيّ، زمن مجئ يسوع، مستكملين السلسلة الكتابيّة للتعمق في نصيّين من العهديّن. زمن المجئ، يدعونا للإنتظار بصبر للإحتفال بذكرى تجسد إبن اللهَ في عالمنا البشري. لذا سنتوقف اليوم على صفحتين؛ الأوّلى من الإنجيل اللوقاوي (3: 1- 6) بالعهد الثاني والذي يتمركز فيها الإنجيلي من خلال شخصية يوحَنَّا المَعمَدانُ على مضمون الصحراء أو البَرِّيَّة التي ستجد جذورها في الصفحة الثانية بالعهد الأوّل لدى أحد الأنبياء الصِغار وهو باروك (5: 1- 9). سنتأمل معًا في قوة الكلمة الإلهيّة التي أنبتت في الصحراء الكثير من النِعم السماوية قبلاً مع بني اِسْرائيلَ ثم مع يوحَنَّا المَعمَدانُ. كما كانت "الصحراء" مكان جوهري في التاريخ الخلاصي لنبي اِسْرائيلَ فهكذا سنجد إنها مكان سُكنى يوحَنَّا المَعمَدانُ ومكان لقائه بالرّب. تجلى بالبَرِّيَّة أو بالصحراء المجد الإلهي فأنّار شعب اِسْرائيلَ في زمن الخروج وهذا المجد إستمر اللهَ في كشفه في تاريخ شعبه مروراً برسالة باروك النبويّة أثناء السبي البابلي بالقرن السادس ق. م. ثم مع يوحَنَّا المَعمَدانُ لاحقًا الذي صار حلقة وصلّ بين اليهود والرّبّ.

 

 

1. النداء للخروج للبَرِّيَّة (با 5: 1- 2)

 

أعلن كاتب نبؤة باروخ في سِفره عن عودة للمنفيين بالسبي بشكل إستباقي. وقد إستخدم "تعبيرات سفر الخروج" واصفًا أورشليم بصورة الأم التي تُركت حزينة لفقدانها أبنائها بسبب سبيهم إلى بابل. ولكن الآن، يعلنها النبيّ بالجديد، ففي الأفق المستقبلية بحسب المشروع الإلهي، هذه الأم مدعوة لتستعيد رؤية أبنائها حين عودتهم إليها ثانية، الذين سيحيطون بها. والسبب هو تجلي "مجد" وإعلان  "كلمة" إلهها أدوناي بتحرريهم من بابل. وهنا يدعو الكاتب الآن أورشليم الأم قائلاً: «إِخْلَعي يا أُورَشَليم ثَوبَ الحُزْنِ والشَّقاء وآلبَسي لِلأبَدِ بَهاءَ المَجدِ الَّذي مِن عِندِ اللهَ. تَسَربَلي بِرِداءِ البِرِّ الَّذي مِن عِندِ اللهَ وآجعَلي على رَأسِكِ تاجَ مَجدِ الأَزلِيّ» (با 5: 1-2). هذا النداء يحمل تحول شامل لأورشليم من حزنها، بفضل قوة الكلمة والمجد الإلهيين سترتدي من جديد ثياب المجد وتتحلى بأجمل ما لديها، وتترك ثياب الحِداد، وتخرج من قوقعتها وتجري إلى أعلى المرتفعات المحيطة بها لترى أبنائها أثناء قدومهم عائدين إليها. بينما الأم مدعوة للخروج متجه نحو أعلى التلال لتفرح بعودة أبنائها العائدين، يعود أبنائها من خلال البَرِّيَّة لأرضهم.

 

 

2. عبور المدبار-البَرِّيَّة: بداية (با 5: 7- 9)

 

أورشليم الأم ستذهب نحو أبنائها العائدين من السبي عابرة التلال إلا أن أبنائها عليهم عبور "المدبار" بالعبري أي البَرِّيَّة كطريق يتبعوه بناء على كلمة أي "دبار" اللهَ. بين المدبار ودبار اي البَرِّيَّة والكلمة. في اللغة العبرية لهما ذات الجذر لغويًا. فالرّبّ سيمهد لهم البَرِّيَّة بحسب باروك القائل: «لِأَنَّ الرَّبَّ قد عَزَمَ أَن يُخفَضَ كُلُّ جَبَلٍ عالٍ والتِّلالُ الخالِدَة وأَن تُردَمَ الأَودِيَةُ لِتَمْهيدِ الأَرض لِيَسيرَ اِسْرائيلَ بأَمانٍ في مَجدِ اللهَ» (با 5: 7). وكما سار بني اِسْرائيلَ الذين خرج من مصر، بناء على الكلمة الإلهيّة لموسى في "الخروج الأوّل"، هكذا أبناء أورشليم الآن والعائدين من السبي البابلي سيسيرون أيضًا في نفس البَرِّيَّة كـ "خروجٍ ثانٍ" ويفاجأنا النبي قائلاً: «اللهَ يُعيدُهم إِلَيكِ مَحْمولينَ بِمَجدٍ كَعَرْشٍ مَلَكِيّ» (با 5: 6). فكما كان الخروج الأوّل  بدايّة لبني اِسْرائيلَ، هكذا الخروج الثاني سيصير أيضًا بداية جديدة في العلاقة مع إله آبائهم بشكل جديد، أي بأمانتهم له.

 

اليوم، نحن في زمن إستقبال مجئ إبن اللهَ، نحن اِسْرائيلَ الجديد ولا نزال في احتياج لعبور البَرِّيَّة حتى يتم اللقاء مُجددًا بإلهنا والإلتزام بالإستمرار في علاقة العهد مع الإبن الذي سيتجسد بعد قليل من الأيام. نعم لقد أدرك أبناء أورشليم أن كل شيء هو عمل اللهَ وإنه هو الذي يقود إلى الخلاص، ولكن أمر عبور البَرِّيَّة لهو أمرٍ ضروري لإتمام عمل اللهَ المحرر ونوال خلاصه بشكل أبدي. المجئ هو فرصة للدخول في البَرِّيَّة ولترك ذواتنا ليحملنا اللهَ أبينا ويقودنا في مسيرة عبورنا من خلال إبنه الذي سيعبر العالم الإلهي ليسكن عالمنا الأرضي.

 

3. ساكن البَرِّيَّة (لو 3: 2- 4)

 

وفي مرحلة تالية، يقودنا المقطع الإنجيلي، تحديدًا مع يوحَنَّا المَعمَدانُ، بأن البَرِّيَّة ليست صحراء جرداء كما تعوّدنا على معرفتها بل هناك مَن يجد فيها حياة ويسكنها وهو يوحنّا والسبب هو: «كانت كَلِمَةُ اللهَ إلى يوحَنَّا بْنِ زَكَرِيَّا في البَرِّيَّة [...] صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّة» (لو 3: 2. 4). بهذه الكلمات، يضعنا الإنجيليّ أمام شخصية يوحَنَّا المَعمَدانُ، على طريق "المدبار- البَرِّيَّة". طريق بدأه سواء بقبول كلمة اللهَ ونشرها وأيضًا بالعبور الفعليّ للبَرِّيَّة في إتجاه عكسي. يوحَنَّا المَعمَدانُ، هو الوحيد الذي خرج متجهًا للبَرِّيَّة ليس بسبب عودته من السبي بل ليشير أن طريق التوبة يجتاج للخروج نحو البَرِّيَّة، داعيّا الشعب لمسيرة التوبة وتجديد العلاقة بالرّبّ من جديد.

 

ثم يذكر النص في صيغته بتوّجه كلمة الرّبّ نحو يوحنّا يوحَنَّا المَعمَدانُ بشكل مباشر: «كانت كَلِمَةُ اللهَ إلى يوحَنَّا». الـُمصطلح المستخدم من لوقا والمُشير إلى "الكلمة" في اليونانية هو لفظ "ريمة" لا يشير فقط إلى ما تعنيه "الكلمة" كلفظ فقط بالنسبة لنا، بل يشير أيضًا إلى حدث. ومن هنا جاءت الكلمة باعتبارها "حقيقة" و "حدث" يطغى على وجود الإنسان، ويصبح "حدثًا" في حياة يوحَنَّا المَعمَدانُ الذي سيبشر به اليهود.

 

 

4. أين بَرِّيَّتي اليوم؟

 

كلا منّا مدعو لتساؤل ذاته اليوم: أين بَرِّيَّتي؟ كما رأينا على ضوء نصّ العهد الثاني أنّ البَرِّيَّة هي المكان الذي سمع يوحنّا فيها الكلمة التي تنتظر أن تصبح حدثًا في حياته. وبسبب سكناه البَرِّيَّة، تمّكّنَ من سماع وإعلان الكلمة التي هي بشرى الخلاص وعمَّد اليهود كاعلان لتوبتهم. وبالتوازي قرئنا في العهد الأوّل أنّ البَرِّيَّة ليست بالتأكيد المكان المثالي الذي يفكر الشعب الحياة بها، ولكنها المكان الحاسم للقاء مع اللهَ وليغير من حياته الماضية. فصارت البَرِّيَّة مكان التجربة ومكان النمو الإيماني. وأيضًا هي المكان الذي يمكن للمؤمن أن يختبر فيه رعاية اللهَ من "ماء" يتدفق من الصخر ومن "مَنّ" ساقطًا من السماء ليشبع ويروي شعبه (راج خر 20).

 

بالنسبة للمعمدان ساكن البَرِّيَّة، تمكن من سماع الكلمة وبدأ في مسيرة من الخروج العكسي متجهًا نحو البَرِّيَّة.  يدعو هذيّن النصييّن، كلاً منّا سواء رجل أو إمرأة أن نتجه نحو البَرِّيَّة لنختبر خلاص اللهَ كاستعداد لمجئ إبنه. إن اللهَ هو من يقودنا بالعودة من البَرِّيَّة إلى أرض يتجسد إبنه فيها. مدعويين أن نتدّرب على سُكنى برّيّتُنا بكل ما تتطلبه تلك السُكنى من إنتظار وتحضير القلب لتذوق الإحتفال بميلاد الطفل الإلهي. ففي البَرِّيَّة سنصبح سامعين للكلمة التي ستتجسد في يسوع الإبن " كلمة اللهَ المتجسد".  إن زمن المجيء الذي نحياه في هذه الأيام، وهو صورة لتاريخ البشرية التي سيسكنها لقاء ما. زمن المجئ، هو برّيّتنا التي سنستقبل فيها تلك الكلمة التي تنتظر أن تصبح جسدًا فينا، لتصبح حدثًا يطغى على وجودنا. إذا عرفنا كيف نعيش في البرّية، فستكون كلمة اللهَ اليوم أيضًا حدثًا قادرًا على تغيير قلوبنا وحياتنا.

 

 

الخلاّصة

 

توقفنا معًا اليوم لقراءة نصيّن يساعدنا للدخول في زمن النعمة وهو زمن المجئ من خلال موضوع "البَرِّيَّة" التي علينا عبورها. كما رأينا في مرحلة أولىـ بنص باروك النبي الذي أشار إلى مسيرة الخروج الأوّل لنبي اِسْرائيلَ عابراً البَرِّيَّة عند خروجه من مصر ليتمتع بحريته بناء على كلمة الرب. وفي مرحلة ثانية أشار ثانية إلى "الخروج الثاني" لأبناء أورشليم نحو "البَرِّيَّة" للعودة لحضن أمهم أورشليم بقيادة اللهَ أبيهم. وها نحن اليوم، في زمن المجئ مدعويين لنوع من الخروج، وهو بالفعل عكسي لتيار عالمنا اليوم مثل يوحَنَّا المَعمَدانُ، ويمكننا أن نطلق عليه "الخروج الثالث" نحو البَرِّيَّة الباطنية وبشكل يومي. الخروج للداخل قلوبنا، هذا الخروج ضروري لنهيأ ذواتنا حقيقة للقاء الرّبّ الذي يرسل إبنه للبقاء معنا وللأبد فهو العمانوئيل أي اللهَ معنا.

 

لذا أختتم هذا المقال بآخر آية ينهي بها النبي باروك النص الذي توقفنا أمامه اليوم، إذ يعلن بشكل شخصي ليّ ولك إستمرارية عمل اللهَ الخلاصي في حياتنا قائلاً: «اللهَ سَيَهْدي اِسْرائيلَ بِسُرور في نورِ مَجدِه بالرَّحمَةِ والبِرِّ اللَّذَينِ مِن عِندِه» (5: 9). وهذا ما سنتختبره لاحقًا بعد تجسد إبنه. زمن مجئ مبارك أيها القراء الأفاضل.