موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٤ أغسطس / آب ٢٠٢٠

الإيمانُ المسيحيّ: مَن هو الإلهُ الذي نُؤمن به؟

بقلم :
د. أشرف ناجح عبد الملاك - كولومبيا
الإيمان بالحبِّ هو إيمان بالله والإيمان بالله هو إيمان بالحبِّ، لأَنَّ "الله محبَّة"

الإيمان بالحبِّ هو إيمان بالله والإيمان بالله هو إيمان بالحبِّ، لأَنَّ "الله محبَّة"

 

إِنَّنا كمسيحيِّين نؤمن بالله الأحد-الواحد-الثَّالوث، الخالق والفادي، الذي خلق الكون والإنسان مِن فيض حبِّه اللامحدود، في حالة تتطوُّر مستمر، ولا يزال حتى اليوم يخلقهما ويحفظهما في كلِّ لحظة بنظرة حبِّه اللامتناهيّ؛ فهذا ما نُسمِّيه في إيماننا المسيحيِّ بـ"الخلق المستمر". وهذا الخالق هو عينه فادي الكون والإنسان أيضًا اللذِّين جرحتْهما الخطيئةُ وشوَّهتْهما، أي خطيئة الإنسان الأوَّل (راجع تك 3/1-23، روم 5/12-21). ونؤمن أيضًا أَنَّ هذا الخالق والفادي ليس قديرًا وعليمًا وسميعًا ومجيبًا ورحيمًا فحسب، وإِنَّما هو "المحبَّة" ذاتها (راجع 1يو 4/4-8، 16)، وهو "الآب" و"ضابط الكلِّ" (راجع متى 6/9، إش 3/16).

 

1. «في البدء كان الكلمة [...] والكلمة صار بشرًا، فسكن بيننا، فرأينا مجده، مجدًا مِن لَدُنِ الآب لابن وحيد مِلؤه النعمةُ والحقُّ» (يو 1/1، 14)

 

يقول كاتبُ الرّسالة إلى العبرانيّين: «إِنَّ اللهَ، بَعدَما كَلَّمَ الآباءَ قَديمًا بِالأَنبِياءَ مَرَّاتٍ كَثيرةً بِوُجوهٍ كَثيرة، كَلَّمَنا في آخِرِ الأَيَّام هذِه بِابْنٍ جَعَلَه وارِثًا لِكُلِّ شيء وبِه أَنشَأَ العالَمِين. هو شُعاعُ مَجْدِه وصُورةُ جَوهَرِه، يَحفَظُ كُلَّ شيَءٍ بِقُوَّةِ كَلِمَتِه. وبَعدَما قامَ بِالتَّطْهيرِ مِنَ الخَطايا، جَلَسَ عن يَمينِ ذي الجَلالِ في العُلَى، فكانَ أَعظَمَ مِنَ المَلائكَةِ بِمِقْدارِ ما لِلاسمِ الَّذي وَرِثَه مِن فَضْلٍ على أَسمائِهِم» (عب 1/1-4). إِنَّ يسوع المسيح، اللّوغوس-الكلمة المتجسِّد، هو "وحِّي الله الكامل والشَّامل والأخير"؛ فنحن لا ننتظر أَيَّ وحِّي جديد علني لله قبل الظُّهور المجيد لسيدنا يسوع المسيح (راجع 1 تي 6/14، تي 2/13)، لأَنَّ «المسيح أكمل الوحي وتمّمه وثبّته بشهادة إلهيّة». فهو الأقنوم الثَّاني في الثَّالوث، الابن الذي هو كائن منذ الأزل في حضن أبيه، ونزل مِن حضن أبيه على الأرض – إِنْ جاز التَّعبير–. لقد كشف لنا عن طبيعة الله المحبِّ، وذلك مِن خلال حياته وعلاقاته وأقواله وأعماله؛ لأَنَّ الأقوال بدون أعمال هي أفكار مُجرَّدة وغير متجسِّدة، والأعمال بدون أقوال هي أمور مُبهمة وغير مفهومة. وليس هذا فحسب، بل وقد كشف لنا أيضًا عن هويّة الإنسان الحقيقة. وفي هذا السّياق، يقول المجمعُ المسكونيّ الفاتيكانيّ الثَّانيّ:

 

«في الواقع، إن سرّ الإنسان لا ينجلي ويتّضح كما يجب إلاَّ في سرّ الكلمة المتجسّد. فقد كان آدم، الإنسان الأوّل، رمزًا للمزمع أن يأتي، السيّد المسيح. أمّا السيّد المسيح: آدم الجديد، فبإعلانه سرّ الآب وحبّه، كشف الإنسان جليًّا أمام نفسه،  وكشف له عن سموّ دعوته [...] هو الإنسان الكامل الذي أعاد إلى ذريّة آدم الشبه الإلهيّ غير المشوّه بالخطيئة الأولى. ولما كان السيّد المسيح قد حمل طبيعة الإنسان بدون أن تتلاشى فيه، فقد ارتفعت بذلك الطبيعة الإنسانيّة فينا إلى كرامة لا تعادلها كرامة. فكأن ابن الله بتجسّده إنما اتّحد هو نفسه بكلّ إنسان منّا. لقد استخدم يدين بشريّتين وفكّر بعقل  إنسانيّ وتصرّف بإرادة بشريّة وأحبّ بقلب بشريّ. إنه بولادته من العذراء مريم أصبح في الحقيقة واحدًا منّا وشبيهًا بنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة».

 

فعرف الإنسانُ بدوره أنّه محبوب ومخلوق ومفدي ومدعو إلى الحياة مع الله وفيه. وقبل صعود يسوع المسيح إلى السَّماء، ليجلس على يمين أبيه (راجع عب 1/3)، ترك لنا وصيَّة واحدة، هي أصل كلِّ الوصايا الأخرى، وقد تناقلتْها كلُّ الأجيال عبر التَّاريخ، وحفظتْها لنا الكنيسةُ الواحدة المُقدَّسة الجامعة الرَّسوليَّة منذ يوم تأسيسها حتى اليوم، وهي وصيَّة "المحبَّة". فقد قال لنا: «وصيَّتي هي: أحبُّوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم» (يو 15/12، 17). فالمحبَّةُ هي حقًّا كمال وغاية كلِّ الشَّرائع (راجع روم 13/10)؛ بل وينبغي أَنْ تكون هي الغاية الأخيرة لكلِّ قُدرة عقليَّة وجسديَّة، ولكلِّ قول وعمل وتصرُّف في حياتنا. فيقول بحقٍّ المجمعُ المسكونيّ الفاتيكانيّ الثَّانيّ مُتحدِّثًا عن يسوع المسيح: «وهو الذي أعلن لنا أَنَّ "الله محبَّة" (1 يو 4/8)، وعلَّمنا بالتَّالي أَنَّ شريعة الكمال الإنسانيِّ وأساس تَحوُّل العالم هي وصيَّة المحبَّة الجديدة».

 

ومِن جهة أخرى، يُؤكِّد القدِّيس بولس مُتحدِّثًا عن الله أبي ربِّنا يسوع المسيح «بأَنَّه اختارنا فيه [في المسيح] قَبل إنشاء العالم لنكونَ في نظره قديسين بلا عيب في المحبَّة» (أف 1/4). وهذا يعني ببساطة أَنَّنا مدعون إلى "الكمال في المحبَّة"؛ ولذلك يصرخ فينا هذا القدِّيسُ العظيم قائلًا: «اقتدوا إذًا بالله شأن أبناء أحباء، وسيروا في المحبَّة سيرة المسيح الذي أحبَّنا وجاد بنفسه لأجلنا "قُرْبَانًا وذبيحة لله طيَّبة الرَّائحة"» (أف 5/1-2)! ويمكننا أَنْ نفهم جيَّدًا تلك الحقيقة الإلهيَّة ونحياها بعمق عندما نسمح للرُّوح القدس، روح الحبِّ، أَنْ يملأنا بالمحبَّة الإلهيَّة؛ فالثَّالوث ذاته ليس إِلاَّ محبَّة، والمحبَّةُ هي مشاركةٌ وتبادلٌ. فيمكننا إذًا كمسيحيِّين استبدال القول المشهور للفيلسوف الفرنسيِّ ديكارت: "أفكِّرُ، إذًا أنا موجودٌ"، بقولنا "نُحَبُّ ونُحِبُّ، إذًا نحن موجودون"!

 

2. «"آمنتُ ولذلك تكلَّمتُ"، فنحن أيضًا نؤمن ولذلك نتكلَّم» (2 قور 4/ 13)

 

لقد سمع كلُّ واحد منّا كثيرين يقولون أَنَّ الحبَّ أمرٌ غير واقعيِّ، بل وليس له وجود على الإطلاق؛ ويزعمون أَنَّ كلَّ ما عاشتْه البشريَّةُ على مرّ العصور، ولازالتْ تعيشه، ما هو إِلاَّ مشاعر حسيَّة ولمسات جسديَّة ورغبات أنانيَّة! فهم لا يُؤمنون بمصداقيَّة الحبِّ المجانيِّ النَّقيِّ الوفيِّ، فلا يقتنعون مثلًا- بالحبِّ بين الرَّجل والمرأة، ولا بين الآباء والأمهات وأبنائهم؛ لا وبل لا يقدرون أَنْ يعقلوا أَنَّ ثَمَّة أشخاصٌ يموتون حقًّا مِن أجل الآخرين، أو حتى يُكرِّسون حياتهم كاملةً حبًّا في الله وخدمة لإخوتهم في الإنسانيَّة! والخُلاصة الواضحة لكلِّ هذا هي أَنَّه يصعب عليهم أَنْ يؤمنوا بأَنَّ "الله محبَّة"، وبأَنَّه يحبُّ الإنسان، كلَّ إنسان وكلَّ الإنسان، حبًّا أبويًّا وأُمُوميًّا، حبًّا شخصيًّا!

 

ولكننا كمسيحيِّين قد تقابلنا يومًا ما مع هذه المحبَّة الإلهيَّة الثَّالوثيَّة؛ فغيرتْ حياتنا، واكتشفنا شيئًا ضئيلًا مِن حقيقة هذا الحبِّ الإلهيِّ، وشربنا قطرة واحدة مِن محيطه! أجل، إِنَّنا نُؤمن بالحبِّ لأَنَّنا خُلقنا به ولأجله، وقد غُفرتْ لنا كلُّ خطايانا بفضله، وأصبح كلُّ واحدٍ منّا إنسانًا جديدًا بواسطته، لأَنَّ «الحبَّ يستُر جميع المعاصي» (مثل 10/12)! إِنَّنا نُؤمن بالحبِّ لأَنَّنا نؤمن بالله، فالإيمان بالحبِّ هو إيمان بالله والإيمان بالله هو إيمان بالحبِّ، لأَنَّ "الله محبَّة"؛ ونُؤمن أيضًا بالحبِّ لأَنَّ الإيمان الحقيقيَّ هو الإيمان الذي يعمل الحقَّ بالمحبَّة (أف 4/15)!

 

وأخيرًا، يمكننا القول بأَنَّ المحبَّة هي مثل الحياة والصَّلاة، اللذِّين مِن الصّعب تحديدهما تمامًا، إِنَّما ينبغي علينا أَنْ نحياهما لنكتشف معناهما وعمقهما. و«المحبة متى اتسعت صعب التعبير عنها بالكلام. والذاكرة إذا كثرت أحمالها سارت تفتش عن الأعماق الصامتة».