موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٣١ أغسطس / آب ٢٠٢٢

"الإختيار" بين كاتبي سفر الحكمة والإنجيل الثالث

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (حك 9: 13- 18؛ لو 14: 25-33)

سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (حك 9: 13- 18؛ لو 14: 25-33)

 

الـمُقدمة

 

القُراء الأفاضل، الإختيار هو قرار يومي بين القرارات الصغيرة أو الكبيرة، والصراع الّذي يمر به الإنسان ليختار شيئًا ما مهما كان بسيطًا أو قويًا، يتطلب الكثير من المجهود الفكري. لكن حينما نفكر مع الرّبّ نبدأ أن نجد أن اختياراتنا مهما كانت حاسمة ستأخذ حياتنا معنى جديد لأنها مصحوبة بمشورة إلهيّة وليس فقط بمخطط بشري. هكذا، من خلال هذا المقال سنستكمل مسيرتنا الكتابيّة برفقة المشورة الإلهيّة من خلال نصيين لكاتبين دَوَّنا بعض الملامح الجوهرية الّتي تساعدنا على إتخاذ قرار الإختيار بشكل يتناسب مع المخطط الإلهيّ. يتضح موضوع الإختيار بالنص الأوّل من خلال كلمات حكيم كاتب سفر الحكمة (9: 13- 18) التحذيرية لخطرين والتي تُشدد على نعمتين جوهريتين لاختيار ما يرضي الرّبّ وليس فقط القلب والفكر البشريين. أما بالنص الثّاني نصغي لكلمات يسوع بحسب إنجيل لوقا (14: 25- 33)، وهو يعلن مسَّار جديد لـمَن يرغب في تبعية الرّبّ.

 

 

1. كَّدُ الاِخْتِيَارْ (حك 9: 13- 18)

 

قد يصعب علينا الاختيار الّذي يبدو مُجهد لأنه دائمًا ما يتطلب تجنب بعض الطرق المنحرفة. لذا كلما زادت طرق الإختيار، أصبحنا أكثر ترددًا وإحباطًا. ليس من الصدفة أن لفظ "يقرر-يجزم" لها نفس جذر القطع "يقطع قرار ما"، إتخاذ قرار يعني القطّع أو الجزمّ. الموقف العمليّ الّذي يقودنا إلى اتخاذ القرار، قد يكون طويل أو قصير، بسيط أو معقد، يجعل هويتنا تظهر دائمًا بطريقة ما. في وقت اتخاذ قرار ما نتعرف على ذواتنا. قد نكون أيضًا لسنا على استعداد دائمًا للاعتراف بذلك، لكن الاختيار دائمًا يعتمد على مسؤوليتنا الشخصية قائلين: "أنا مَن أختار".

 

بناء على هذا الفكر الواقعي لحياتنا نتعمق في بدأ كاتب سفر الحكمة بالنص من خلال عرضه تساؤل هام يخص موضوع الإختيار قائلاً: «أَيُّ إنسانٍ يَعلَمُ قَضاء الله أَو مَنِ الَّذي يَتصَوُّر ما يُريدُ الرَّبّ؟» (حك 8: 13). هادفًا من خلال هذا التساؤل أن يعلن لنا كقراء مؤمنين أنَّ الفكر البشري لا يتمكن من احتكار الإرادة الإلهيّة فهو محدود. ويستكمل الكاتب كاشفًا حقيقتنا محدوديتنا حينما يصف سعيَّنا المبذول بكلمتين أساسيتين ويدعونا للعودة للجذور وهي الله: «ونَحنُ بِالجَهْدِ نَتَكَهَنُ بِما على الأَرض وبِالكَدِّ نَهتَدي إلى ما بَينَ أَيدينا فما في السمواتِ مَنِ الَّذي اْكتَشَفَه؟» (حك 9: 16). هذا يؤكد أن الجهد البشري والكدّ الإنساني هما وسائل تساعد على الإختيار الحقيقي ولكن بتركيز نظرنا بأنه دور ثانوي ولنا الجوهري هو الدور الإلهي الّذي ينبغي أن نركز نظرنا وفكرنا عليه ففيه جذورنا وأصلنا. ويؤكد الكاتب بأنّه دون مجهود يصعب علينا أن نتمكن من اختيار القرار الصائب. قبولنا بهذه المشورة يجعلنا نخطو نحو الإختيار السليم مدركين ضروريّة هذا الكدّ والمجهود الثانويين لأنّهما بمثابة مشاركتنا في مخطط الرّبّ لأجلنا.  

 

 

2. تحذيرين ونعمتين (حك 9: 14- 18)

 

بعد أنّ أوضح الكاتب أهمية كدّنا ومجهودنا البشريين، وضع أمامنا تحذيرين ينحصرا في ترددنا الفكريّ وحِملّ الجسد الهموم العقلية: «لأَنَّ أَفْكارَ البَشَرِ مُتردِّدة وخَواطِرَنا غَيرُ راسِخَة [...] والخَيمَةَ التّرابِيَّةَ عِبءٌ لِلعَقلِ الكَثيرِ الهُموم» (3: 15- 16). ومن هنا يدعونا الكاتب لعدم الاستسلام بل المواجهة لهذين الخطرين من خلال نعمتي الحكمة والخلاص قائلاً: «هكذا قُوِّمَت سُبُلُ الَّذينَ على الأَرض وتَعَلَّمَ النَّاسُ ما يُرضيكَ وبِالحِكمَةِ نالوا الخَلاص» (3: 18). إذن، ننفتح من خلال تواصلنا برّوح الله المقدسة، على نعمتين مجانيتين حكمة الله الّتي تُعلمنا ما يرضي الرّبّ وبه فقط ننال الخلاص الإلهي. موضوعية الكاتب تجعلنا لا نعتمد على مجهودنا ولا نقع أسرى لهمومنا عقلنا أمام التحديات اليوميّة بل تدعونا للعودة لجذورنا الـمُرسخة الّتي في الله طالبين الحكمة وتاركين عقولنا وقلوبنا لتتعلم ما يرضيه فهو مصدر حكمتنا وخلاصنا.

 

إذا كان نص سفر الحكمة يحيطنا علمًا بأن لاتخاذنا قرار أرضيّ يتطلب الكثير من الكدّ والتعب فكم بالأحرى القرارات السماويّة، لذا النص بحسب لوقا يتضح في أن يعلن لنا أنّه نص الإنجيل يخبرنا أن التلمذة هو أيضًا نتيجة لعملية تمييز في قرار الإختيار، لنكون تلاميذ هو نتيجة مسيرة تمييز تتكلل باتخاذ قرار ما.

 

 

3. أنا مَن أختار! (لو 14: 25- 33)

 

يفتتح لوقا هذا الإصحاح بملحوظة وهي أن يسوع المعلم مُراقب من معاصريه إذ: «دَخَلَ يَومَ السَّبتِ بَيتَ أَحَدِ رُؤَساءِ الفِرِّيسِيِّينَ لِيَتَناوَلَ الطَّعام، وكانوا يُراقِبونَه» (14: 1). ثم في الآيات المُختارة يسَّرد الإنجيلي تعليم يسوع الموجه للتلاميذ والجمع الّذين كانوا في "سينودس معه"، مثل كنيستنا اليوم، أيّ "سائرين معًا": «كانت جُموعٌ كثيرَةٌ تَسيرُ مَعَه» (14: 25). وأثناء السير معًا يلتفت إليهم يسوع ويكشف عن تعليمه الجديد تاركًا لهم حريّة الإختيار قائلاً: «مَن أَتى إِلَيَّ [...]» (14: 26). ومن هنا يُشدد يسوع على جوهرية التبعيّة له من جانب، ومؤكداً علانيّة صعوبة حياة التلميذة من الجانب الآخر قائلاً: «لا يَسْتَطيعُ أَن يكونَ لي تِلميذاً» (لو 14: 26. 27. 33). معطيًا ثلاث أسباب جوهرية: 1) مَن لا يعطي أوّليّة ليسوع على الآخرين وعلى ذاته؛ 2) مَن يتراجع عن حمل الصليب؛ 3) وأخيراً مَن يجد صعوبة في التخلي عن المال. وهذه الأسباب ترتبط بالتعلق بالآخرين (التبتل)، بقبول أو رفض الألم (الطاعة)، التمسك بالمال (الفقر). والنتيجة هي أن المسئولية الأولى والأخيرة تقع على عاتق الإنسان فيقول لذاته: أنا مَن أختار حقًا وعلى تحمل نتيجة هذا الاختيار.

 

إذا نظرنا إلى بنية هذا المقطع، فندرك إنّ تكرار صيغة التحذير تتكرر تلاث مرات بالنص وذلك لأهميتها «لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلْميذاً» (لو 14: 26. 27. 33). بين هذه الآيات توجد الشروط التي يجب على الإنسان مراعاتها لكي يصبح تلميذ. يبدو أن الشرط الأساسي هو بالتحديد أن يكون كلاً منّا شخصًا مسيحيًا يتمتع بروح التمييز في الاختيار.

 

 

4. استعارتين لّاهوتيتين (14: 28- 32)

 

يستعين يسوع في تعلميه باستعارتين من عصره. ففي الحالة الأولى هو اتخاذ القرار ببناء برج، في الحالة الثانية معركة الملك الّذي يخرج لينتصر في المعركة الّذي عليه خوضها. صورتي البناء والقتال يُذكراننا بشكل رمزي بديناميكيات حياتنا البشرية. لدى كلاً منا مشروع يجب تنفيذه وفي نفس الوقت أمامه الصعوبات التي يجب مواجهتها، لذا لابد من التوقف واختيار الوسيلة التي تجعل البناء يتمّ وخوض المعركة يتكلل بالانتصار. تحملن هاتين الاستعارتين نبرة تحذيرية من التسرع في اتخاذ قرار ما والّلامبالاة. لكي يتمّ إتخاذ قرار ما، يتوجب على كلاً منا أولاً أن يحرر نفسه. لا جدوى من التظاهر باختيار اتجاه وهدف المسيرة، إذا كانت هناك الإمكانيات المادية للتحرك تجاه الهدف. في هذا النص يلمح يسوع للتحرر من الآخرين، المال والذات. وهنا يمهد يسوع بالطريق نحو التمييز بالتعرف على عواطفنا المضطربة، لأجل تبعيّة الله! غالبًا ما تتورط حياتنا في أشياء جيدة، قد تسد طريقنا. لا يكفي أن يكون الشيء جيدًا في حد ذاته لاختياره، يجب أن يكون جيدًا بالنسبة في هذا الوقت من الحياة. هناك روابط جيدة في حد ذاتها ولكنها في بعض الأحيان تقيدنا ولا تجعلنا نسير.

 

 

الخلَّاصة

 

تعمقنا عن معنى الإختيار بحسب الوجهة الكتابيّة وناقشنا مع نص سفر الحكمة (3: حك 9: 13- 18) معنى الكدّ وبذل المجهود البشري وطلب نعمتي الحكمة والخلاص لاتخاذ قرار يتناسب مع المشروع الإلهي. ثمّ جاء تعليم يسوع بحسب لوقا (14: 25- 33) أن الإختيار يُدخلنا في منطق جديد وهو منطق الصلّيب. وأدركنا أنّه لكي نصبح تلاميذ لا يكفي أنّ نذهب إلى الرّبّ، بل لا يصبح المرء تلميذاً حتى يتم العثور على مكانه المناسب وهو "وراء" المعلم ليس بجواره وليس أمامه. فقط هذه التبعيّة تسمح لنا بالتلمذة الحقّة. كوننا وراء المعلم يسمح لنا برؤية أين نضع قدمينا وبالتالي ندخل في المنطق السينودسيّ إذ نسير كلنا معًا ورائه على الطريق. من الضروري أن نسير وراء يسوع حاملين صليب كل يوم. هذا يؤهلنا لمواجهة القرارات التي يجب اتخاذها. وفي حالة اللايقين يمكننا أن نتسأل: أين سيضع يسوع قدميه؟ الاختيار لقرار ما يعني أن يكون كلاً منّا سائراً في ذات الاتجاه الّذي يسير الرّبّ فيه لئلا نتبع العالم بل منطق الإنجيل. يسمح لنا هذا الموقف بفهم معنى حمل الصليب، الّذي قد نخطأ بفهمه كقبول سلبي للآلام حلّت بنا، بل يتعلق الأمر بتحمل ثِقَّل منطق الإنجيل لنختار كل يوم، ونجتهد بكَدّ من أجل الاستلهام بكلمة الله. ويمكنني أن أتركك أيها القارئ الفاضل بتساؤل باطني ما هي أهمية منطق الصليب في اختياراتك؟ كيف تتخذ قراراتك بشكل عام؟ دُمتم في إتمام اختيارات تتوافق بحسب قلب الرّب.