موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ١٧ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢١

"الأرملتين" بين كَاتِب سِفرُ الـمُلُوك الأوّل ومُرقُس الإنجيليّ

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
"الأرملتين" بين كَاتِب سِفرُ الـمُلُوك الأوّل ومُرقُس الإنجيليّ

"الأرملتين" بين كَاتِب سِفرُ الـمُلُوك الأوّل ومُرقُس الإنجيليّ

 

سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (1مل 17: 7- 16؛ مر 12: 38- 44)

 

مقدّمة

 

تمهلتُ كثيراً، لتدوين هذه المقالة بهدف التفكير الدقيق في إختياري للنصييّن الكتابييّن لمتابعة قرائتنا فيما بين العهدين. ووجدت أن بمجتمعنا كثيرات من النساء الأرامل، والـمُدهِش عزيزي القارئ، إنعكاس الفكر البيبليّ عن فكرنا البشري بتقاليدنا التي تتضح في تهميش هذه الفئة بمجتمعاتنا الشرقية. في حين أن بالعهد الأول نسمع كاتب سفر المزامير يعلن حمايتهن بشكل إلهي: «الرَّبُّ يَحفَظُ النّزلاء ويؤَيّدُ اليَتيم والأَرمَلَة ويُضِلُّ الأَشْرارَ في طَريقِهم» (146: 9).  ونجد الكرامة التي منحها يسوع للنساء، خاصة الـمُترملات منهن: «هذِه الأَرمَلَةَ تُزعِجُني، فسَأُنصِفُها لِئَلاَّ تَظَلَّ تَأتي وتَصدَعَ رَأسي» (لو 18: 5) بالعهد الثاني. هذا يدلة على إجابات كتابية قوية تحمل النور لنا كمؤمنين، لمجتمعاتنا لنصير أكثر مسيحيّة وإيمان بكلمة الرَّبُّ أكثر من الإستمرار في النظر بالنظرة الأرضية التي لا تنتمي لإيماننا المسيحي. ففي القراءة الأوّلى، سنقرأ نصّ من الكتب التاريخية، بسفر الـمُلوك الأول  17: 7- 16. وعلى ضوئه سنقرأ نصّ ثانٍ من الإنجيل المرقسيّ 12: 38- 44. فهذيّن النصَّيين يشيران لبطلتين وهن أرملتين، كليهما تشيرن لحدث واقعيّ الأوّل في حياة الشاب النبيّ إيليا والثاني في حياة يسوع وتلاميذه. سنبحث معًا عن نقاط التشابه والإختلاف بين الأرملتين والتعليم الكتابي الجديد الّذي يحمله لحياتنا على ضوؤ الكلمة.

 

 

1. على حافة الموت (17: 7- 12)

 

يبدأ كاتب سفر الملوك الأول بتعبير في غاية الأهميَة ليصف الوضع: «وكان بَعدَ إيَّام أَنَّ جَفَّ النَّهرُ، لأنه لمِ يَنزِلْ على الأَرضَ مَطَر» (17: 7 ). نعلم سيرة إيليا الشاب الذي بعد أن أنهى أوّل خبرة له بالقرب من نَّهر كريت الذي كان يروي ظمأه منه بينما كان يأتيه الغراب بالطعام فقد إختبر النبيّ عناية الرَّبُّ به. ثمَّ يروي الكاتب، في هذا المقطع، إنه بعد جفاف النهر هناك إحتمالية تَعَّرُض النبي للمعاناة من العطش. لذا ينتقل لخبرة أخرى إذ يرسله الرَّبُّ إلى أرملة غريبة. والآن يبدأ الرَّبُّ في تلقين إيليا نبيِّه درسًا جديداً. لقاء النبي الشاب بالأرملة لقاء مؤثر، هذه الأرملة أثناء صراعها مع الموت، يأتي يطلب منها إيليا بعض الطعام! فنفهم من قولها المُشير إلى قمة اليأس التي تعيشه: «حَي الرَّبُّ؟ إلهِكَ! أنَّه لَيسَ عِنْدي رَغيفٌ إلاَّ مِلء راحَةٍ دَقيقًا في الجَرَّةِ وَشميرًا مِنَ الزَّيتِ في القارورَة، وها أَنا اجمعُ عودَينِ مِنَ الحَطَبِ لأدخُلَ وأُعِدَّه ليّ ولاَبني ونأكُلَه ثمَّ نَموت» (17: 12). فهي تعلن حقيقتها، إنها على حافة الموت. الأكل في الكتاب المقدس، يؤمِنَّه الرَّبُّ لخلائقه فهو رمز الحياة. إلا إنها تعلن أنه بعد قليل سيداهمهما الموت، فهي تحمل الموت بداخلها. وهنا يستعيد إيليا كلمات سفر التثنية: «ليس بالخُبزِ وَحدَه يَحْيا الإِنْسان، بل بِكُلِّ ما يَخرُجُ مِن فَمِ الرَّبُّ يَحْيا الإِنْسان» (8: 4). بالفعل حياة المرء مرتبطة بالطعام، وليس فقط يحيا لأجل لطعام. وهنا علينا أن نتعلم أن نجوع لكلمة الله ونشبع بقوتها السريّة، فهذا هو الجديد بكلمة اليوم.

 

 

2. هل هناك أهمّ من الخبز؟ (1مل 17: 13- 14)

 

يمكننا أن نتسأل، ماذا أهمّ لنّا الخبز أم الكلمة؟ الغذاء الذي يأتي من كلمة الله أم الأكل الجسدي؟ وهنا تأتي رسالة إيليا: «هَكذا قالَ الرَّبُّ إلهِ إسرائيل: إِنَّ جرةَ الدَّقيقِ لا تَفرُغ وقارورةَ الزَّيتِ لا تَنقُص، إلى يَومِ يُرسِلُ الرَّبُّ مَطرَاً على وَجهِ الأَرضَ» (17: 14). أي لا ندع مجال للخوف، فلنحذر المخاوف التي تحمل الموت لحياتنا بدون الجوهري وهو الكلمة الإلهية. ثمَّ يدعو إيليا هذه الأرملة بإعداد الطعام له قبلاً! يحمل هذا التعبير تغيير في طقس تحضير الطعام، فهو ليس علامة على أنانية إيليا لجوعه، بل لأن هنا سيتحول الخوف من الموت، إلى التمتع بالحياة في حضور الرَّبُّ، ومن الجوع إلى الشبع، فيدعوها النبي إلى وليمة الرَّبُّ الحيّ بشكل لم تختبره من قبل هذه الأرملة. ففي "وليمة الحياة" الرَّبُّ هو الضيف، وهو أيضًا الخادم الذي يعد المائدة لأحبائه ويتكفلّ بهم.

 

 

3. الطعام الجديد (1مل 17: 14- 16)

 

 يكرر الكاتب في الآيتين 14، 16 بحسب الصيغة الكتابية اللاهوتية هكذا يقول الرَّبُّ: «إِنَّ جرةَ الدَّقيقِ لا تَفرُغ وقارورةَ الزَّيتِ لا تَنقُص، إلى يَومِ يُرسِلُ الرَّبُّ مَطرَاً على وَجهِ الأَرضَ». هذا الطعام هو خبز المسيرة فهو لن ينتهي من الجرة والقارورة، حتى تعود الأمطار ويتم ضمان الأرض لمحصول القمح الوفير. إسرائيل قبلاً سمع كلمة الرَّبُّ ووجد المنّ والسلوى بالصحراء لمدة أربعين سنة (راج خر 16). قدرة أمانة كلمة الله حملت الشعب إلى أرض الميعاد. هكذا كل جيل عليه أن يتعلم من جديد الإصغاء لكلمة الرَّبُّ فهي الطعام الجديد الذي يؤَمِنّ الطعام البشري. لذا يتوجب على أبناء كل جيل أن يقبلوا مَن «يَسيرُ أَمامَه وفيهِ رُوحُ إيليَّا وَقُوَّتُه، لِيَعطِفَ بِقُلوبِ الآباءِ على الأَبناء» (لو 1: 17)، حينما يسمعوا لكلمة الرَّبُّ ولإيمان به. تبدأ هذه الأرملة بالإصغاء والطاعة، فنجد إن الدقيق لا يفنى لديها لإيمانها بكلمة الرَّبُّ. لذا تتكرر الآية بعد أن إختبرت المرأة عناية الله وأنَّ: «جرَةُ الدَّقيقِ لم تَفرُغ وقارورَةُ الزَّيتِ لم تَنقُص، على حَسَبِ كَلام الرَّبُّ الَّذي تَكلمَ بِه على لِسان إيليَّا». هذه هي أمانة الرَّبُّ لوعده الذي لا تخيب، الطعام الحقيقي هو كلمة الرَّبُّ الذي حينما يؤمن به الإنسان يجلب الضمان الماديّ أيضًا.

 

 

4. درس الأرملة للمعلم وللتلاميذ (مر 12: 38- 43)

 

على ضوء النص السابق سنقرأ بحسب مرقس (12: 38-44). لم يتم العثور على هذا النصّ عن طريق الصدفة في سياق خدمة يسوع في أورشليم قبل عبوره مسيرة الآلام بحسب منظور عيد الفصح. يروي مرقس أن المكان الذي جلس فيه يسوع يقع أمام الصناديق التي وُضعت فيه قرابين الهيكل. مؤكدًا أن يسوع الجالس يراقب ويلاحظ، فهو يرى العديد من الأغنياء يذهبون ويلقون الفائض عنهم بخزانة الهيكل، ولكن في مرحلة معينة يُعرض على يسوع مشهد يمسّه بطريقة معينة: تذهب أرملة فقيرة إلى الخزانة وتلقي فيها عملتين معدنيتين، مبلغ واحد من المال يُمكِنُّها شراء 100 جرام من الخبز. وها هنا يسوع الذي على حافة الموت أيضًا فنحن في أورشليم، يُخاطر يسوع، الُمهدد بالقتل من قبل مُنافسيه ويحذر تلاميذه قائلاً: «إِيَّاكُم والكَتَبَة، فإِنَّهم يُحِبُّونَ المَشْيَ بِالجُبَب» (مر 12: 38- 40). يلي هذا الإنذار درسّ تعلّمه يسوع من الأرملة، من تسليمها يبدأ بتسليم ذاته. لا نجد تعليم ليسوع  أمام الكتبة والأغنياء لتلاميذه. لكن تعليمه لهم أنطلق من "تأمله" لتقديم الأرملة كل مالها. وهنا يترك يسوع ذاته أيضًا لتعليم الأرملة الفقيرة التي ألقت بحياتها، الأموال التي قد يمكنها أن تعول بها حياتها، في صندوق التبرعات. سريعًا يسوع يجد تعليم لذاته ويلقي بحياته مثلها (راج مر 14)، ويعطي يسوع تعليم جديد لتلاميذه داعيًا إياهم قائلاً: «تأملوا» من اللغة اليونانية "أنظروا" بحسب الترجمات التي بين أيدينا.

 

نعم لقد ألقّت الأرملة بالصندوق كل ما يمنحها حياة، كأن يسوع يقول لنا اليوم: "هذا ما جئت أنا كإله لأفعله"، ليس فقط للتحذير بل أيضًا لإعطاء حياتي. إذن هذه الأرملة فتحت أمام يسوع طريق "البذّل" و "إعطاء الذات". يتمكن يسوع الآن من إتمام عبوره الفصحي وإكتمال "الخروج العظيم" الذي بدأ مع بني إسرائيل بالعهد الأوّل (راج خر 14)، لأنه تعلّم أن ينظر بتأمل ليس فقط فقر الأرملة بل عطائها. من هذا المشهد الإنجيليّ، استوحى يسوع من تعليم تلاميذه تعليم له أيضًا وهو بذل الذات أي الموت، مِن هذه المرأة قال: «الحَقَّ أَقولُ لَكُم إِنَّ هذِهِ الأَرملَةَ الفَقيرةَ أَلْقَت أَكثَرَ مِن جَميعِ الَّذينَ أَلقَوا في الخِزانَة، لأَنَّهم كُلَّهم أَلْقَوا مِنَ الفاضِلِ عن حاجاتِهم، وأَمَّا هي فإِنَّها مِن حاجَتِها أَلْقَت جَميعَ ما تَملِك، كُلَّ رِزقِها» (12: 42-43). كان رجال الدين في ذلك الوقت يحبون المشي برداء طويل، ويظهرون في الأماكن الأوّلى، ويتظاهرون بإقامة صلوات. كل الأشياء القائمة على التظاهر، بينما تقوم الأرملة بعمل واحد فقط "إعطاء ذاتها"، تصبح هاتان العملتان الصغيرتان "سرًا" لحياة تعيشها بجدية، حياة تقضيها في الحب، في عطية الذات. هذه الأرملة بالنص بمثابة شخصية ثانوية، وبمجتمعها بالإضافة إلى إنها فقيرة، فهي تختلف عن جال الدين، فتصبح " الـمُتمثل بالله" في المحبة بحرية.

 

 

الخلاَّصة

 

بعد أن تعرفنا في القراءة الأولى على ملامح الأرملتين، فالأوّلى إلتقى بها النبي إيليا مع وكانت على حافة الموت إلا إنها أعطت ما لديها. ثم الأرملة الثانية التي تأمل يسوع في إعطاء ذاتها لها بانجيل مرقس، كلتيهن أعطيّن شئ قليل، أي لا لزوم له بشريًا، بل هو كل ما كان لديهن ليعيشن. واليوم، نستشف تعليم جديد لعصرنا، من يسوع (مر 9: 38- 40)، ومن خبرة إيليا (1مل 17: 7- 16) أن الأرملتين بالرغم من حالتهن الفقيرة إلا إنهن، قدَّمن الكثير لنبيّ الله ودرسّ تعليميّ ليسوع ولتلاميذه. مدعويين اليوم كمؤمنين أن نموت عن كل ما يهدر معنى الحياة الحقيقية والعيش بروح التسليم. ويمكننا إتمامه بفتح أيدينا لما منحه الرَّبُّ لنا ومشاركتنا للآخرين دون أن نمتلك ونتسلط على خيرات الرَّبُّ لنا. فلنخاطر ونتعلم أن نترك ونتخلى. وهنا سنتمتع بعيش الفقر بشكل إنجيلي. فكلاً منّا يمُثل إحدى الأرملتين، مَن منا ليس لديه ما ينقصه أو لا يحتاج لشئ ما، مَن منّا لا يشعر بالتهديد! هذا يعتمد على كفائتنا، يسوع قد تعلم من تلك الأرملة وبذلّ ذاته في أورشليم. ما لدينا هو نعمة إلهية، منحه الرَّبُّ لنا من سخائه علينا إستخدامه جيداً، فكل ما يتبقى فهو فائض. متى إخترنا الشكل المناسب لترك الإهتمام بالذات والتقوقع عليها، نبدأ الآن فقط بالدخول في الملكوت. فلنقدر دور الأرامل بيننا، فلازلن يعطين الكثير من الدروس لحياتنا، فلنتعلم منهن. أودّ أن أختتم معكم بدعوة إذ رغبنا التعمق في تتبع معيار قرأتنا المستمرة لعمل المسيح الكهنوتي، لتقدمة ذاته مرة واحدة وإلى الأبد من حياته (عب 9 : 24 - 28). لذلك فإن هذا المقال يساعدنا على خلق توازٍ بين تقدمة الأرملتين وتقدمة يسوع واليوم فلنتسأل هل قَبِلَنَّا تقدمة يسوع حقًا؟ كيف لنّا أن نقدم حياتنا للرب ولأجل الآخرين؟