موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٣١ يوليو / تموز ٢٠٢١

الأرملة السّوداء

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
سرُّ القربان الأقدس هو سرُّ العطاءِ الكامِل والبذلِ الْمُطلَق

سرُّ القربان الأقدس هو سرُّ العطاءِ الكامِل والبذلِ الْمُطلَق

 

أيّها الإخوةُ والأخواتُ الأحبّاء في المسيحِ يسوع. تأخذُ الأحداثُ مع إنجيلِ هذا الأحد، مَنحىً تصاعُديًّا. ورَأينا في إنجيلِ الأحدِ الماضي، كيفَ أنَّ الجمعَ تَبِعَ يسوع: "لِما رأوا من الآياتِ الّتي أَجرَاها على المرضى". بَعدَ ذلكَ، كَثَّرَ يسوعُ الخبزَ والسّمك، وَأَطعَمَ الأفواهَ الجائِعة، وَسَدَّ جُوعَ الْمِعَدِ الّتي تُقَرقِعُ في الحشا، فَارِغةً وخاوية!

 

أَي أنَّ العلاقةَ مِن بِدَايتها لم تَكُن سَليمَة، من طَرَفِ الجَمع. لأنَّ العَلاقاتِ الّتي تُبْنَى على تَلبيةِ مَصالِح وتحقيقِ مَنافِع، هي علاقاتٌ طُفَيلِيّة تَنتَهي بِانتهاءِ دَورِ الْمُعيل، وما يُقدِّمُهُ لِلمُعال! كَعَنكبوتِ الأرملةِ السّوداء، إذ تَقومُ الأنثى بِقَتلِ زوجِها، بعدَ انتهاءِ عَمَليّة التّزاوج! وَهذا يُشبِه، بِشكلٍ غيرِ مُباشِر، ما سيحدُث عِندَ خاتمةِ هذا الفصل، حَيثُ سَيَرتَدُّ عن الرّبّ كثيرٌ منَ السّامِعينَ، بعدَما انتفعوا مِنهُ، إِذْ رأوا فيما يقول: "كَلامًا عسيرًا، مَن يُطيقُ سماعَه؟" (يوحنّا 61:6).

 

في إنجيلِ هذا الأحد، يُخاطِبُ يَسوعُ الجمعَ بنبرةِ تَوبيخ: "أَنتُم تَطلبونَني، لِأنَّكُم أَكلتُم الخُبزَ وَشَبِعتُم!". فَيَسوع كانَ يَعلَمُ القَصدَ مِن اِتّباعهم له، فَلَم يُداهِنهم بكلامٍ مَعْسول، إنّما قالَ لِلجمعِ كلامًا صريحَ العبارة، دُون مُقدّماتٍ وبِلا مُجامَلات!

 

ونذكُر في إنجيلِ الأحدِ الماضي، كيفَ أنَّ الجمعَ بعدمَا أكلَ وشَبِع، أَرادَ أن يُقيمَ المسيحَ مَلِكًا، وأن يجعلوا مِنه سَيّدًا وحاكِمًا. فَنَراهم يركبونَ السّفن، يَطلبونَ المسيح حتّى وَجَدوه! هَذهِ الحركة تدلُّ على رغبةٍ مُتأصِّلةٍ لدى الجمع في السّيطرةِ على يسوع! إنّهم يَبتَغونَ تَمَلُّكَهُ والسّيطرةَ عَليه.

 

هذهِ الحركة تَدلُّ على رَغبةِ أولئِكَ النّاس، في تَقيدِ المسيحِ والحدِّ من حُرّيتِه وحَركتِه، ومَنعِهِ من التّعاملِ مع كلِّ النّاس، وَحصرِ تواصُلِه مَع فِئَةٍ مُحدَّدةٍ في مَنطِقةٍ بِعَينِها. لِماذا؟ لأنّهم رأوا فيه مَلِكًا قَويًّا ونبيًّا مُقتدِرًا، يَستطيعُ أن يُلبّي حاجاتِهم ورَغباتِهم الدُّنيَويّة، ويُحقِّقَ لهم نوعًا من الاكتفاءِ الذّاتي: "يا رب، أعطِنا هذا الخُبزَ دائِمًا أبدًا".

 

الْمَسيحُ صارَ كَبئرِ نفطٍ، وَأَهلُ كفرناحوم أَصبَحوا كَشَرِكاتِ التّنقيبِ عن النّفط! فَإذا ما وَجدوه، اِسْتَملكوهُ واحتكروهُ وَسَيطروا عَليه، وَمَنعوا الآخرينَ من الاقترابِ مِنه، وَصَارَت لهم حقوقُ الْمُلكيّة في الانتاجِ والتّوزيع!

 

هَذا مَا نحياهُ أيضًا في واقِعنا الرّعوي، في رَعايانا وَمُؤسَّساتِنا، عِندَما تُريد فئةٌ من النّاس الاستفرادَ بالرّعيةِ أو بالمؤسَّسة، أو اِستِمالةَ الكاهِنِ الْمَسؤولِ لِجانِبِها، وتملُّكَه والسّيطرةَ عليه، وَتَطْويعَه لِصَالِح مآرِبِها وتحقيقِ غاياتِها. وهذا ما يجلِبُ الانقسامَ في رعايانا، والخرابَ لِمُؤسّساتِنا! فَتُحصَرُ الْمُساعداتُ بِتلكَ الفئة أو المنطِقة، وتُصبِحُ الوظائِفُ لها، والتَّعييناتُ لها، وَمِنها ما هو غيرُ مدروس، فَضَرَرُهُ يَعُمُّ وَنَفْعُه يَخُص. وقِس على ذلِكَ أَمثلةٍ كَثيرة...

 

المسيحُ أَرادَ أَنْ يَكونَ لِلكُل لا لِفِئة ولا لجماعة: نَبيًّا لِلكل، مَلِكَ الكُل، في خِدمةِ الجميعِ، دون تمييزٍ وبِلا اسْتثْناء، فَويلٌ للرّعيةِ والمؤسّسةِ الّتي تَسودُها الفِئويّة والْمَحسوبيّةُ والواسِطةُ، في إدارةِ شُؤونِها وَتَسييرِ أَعمالِها!

 

ثُمَّ انظروا معي إلى مقدارِ الجحود عندَ هؤلاءِ النّاس. فبعدَ أن أَكلوا لِتوّهِم، وَشَبِعوا وفَضلَ عَنهم من الطّعامِ الشّيءَ الكثير، يَسألونَهُ: "أَيّةُ آيةٍ تَأتينا بها أنتَ، فَنراهَا ونؤمِنَ بِكَ؟". لا أدري تحتَ أَيّةِ فئةٍ يُمكن أن يندرِجَ هذا السّؤال؟ وَقَاحة، سَفَاهة، قِلَّة أَدب، عَمى، جُحود، نكران للمعروف... لا تُصنِّفوه، فهو كلّ هذه!

 

ومَع أنَّ المسيح لَم يُقصِّر يومًا في خِدمةِ أَحَد، ولَم يَمتنِع عَنْ مَدِّ يَدِ العَونِ لكلِّ محتاج، ولم يُوصِد البابَ في وجهِ الطّارِقِ، إلّا أنّه ذاقَ من النّاسِ كلَّ مَرار! فَقَابلوا الخيرَ الّذي صنعَ لهم، بِالشّر والغَدرِ، ونُكرانِ الجميل، وقِلّةِ الامتِنان!

 

مِن الخبراتِ الْمؤلِمة والّلحظاتِ الْمُزعجة في حياةِ أيِّ راعٍ وأيِّ مِسؤولٍ، أَينَما كان، هو الشّعورُ بعدمِ الامتِنان وانعدامِ التّقدير! تَبذُلُ قُصارى جهدِكَ في خدمةِ النّاسِ ولأجلِ تطويرِ المكان، تُكافِحُ في سبيلِ خِدمةِ أَهلِ بيتِك، تُضحّي كثيرًا، تَشقى كثيرًا، تصمتُ كثيرًا، على حسابِ صِحّتِكَ وَوقتِكَ وسعادتِكَ بل وكرامتِكَ، فلا ينالُك سوى النّائِباتُ والْمَضرّات! لِذلك، ليسَ بالضّرورةِ دومًا، أن يجلِبَ لكَ عملُ الخيرِ السعادةَ وراحةَ البال! أَلم يَندم بَعضُكم يومًا، لأنّهُ صَنعَ الخيرَ وأتى المعروفَ في غيرِ أهلهِ؟!

 

وبالرّغمِ من كلِّ ذلك، ظَلَّ المسيحُ ثَابِتًا على مبادِئه، ولم يتغيّر بناءً على مواقِفِ النّاس وتصرّفاتهم نحوَه. بل بَقِيَ خيّرًا، يَصنعُ الخيرَ للجميع، إلى أن بَلغَ به حُبُّه أن يكونَ مُعلّقًا على الصّليب، في مَشهدٍ يُجسِّدُ التّضحيةَ بأسمى معانيها وأجملِ صُورِها. فالمسيحُ صُلِب بأيدي مَن أَخذَ بأيديِهم، وانتشَلَهم وأقامَهم، وشفاهم وأنْهضَهم، وأطعَمهم وأشبَعهم، وأحبّهم!

 

أيّها الأحبّة، سرُّ القربان الأقدس، الّذي يدورُ حوله هذا الفصلُ السّادس، هو سرُّ العطاءِ الكامِل والبذلِ الْمُطلَق. فيه المسيحُ يُعطينا ذاتَه دون حسابٍ، مأكلًا ومشربًا. وعلى مِثال المسيحِ في القربان، دعوةُ البعضِ أن يكونوا خُبزًا يأكُلُه الأخرون، أي أن يُطحَنوا ويتألّموا في سبيلِ الخيرِ العام. ودعوةُ القسمِ الأكبر، أن يأكلَ هذا الخبز! ولكن، مِنهم من يُأكلُه حتّى الُّلقمةِ الأخيرة، فلا يُبقي مِنها شيئًا، لا لِصَاحِبها ولا لِغيرِه!