موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٨ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٣

افْرَحوا وابْتَهِجوا

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
افْرَحوا وابْتَهِجوا (متّى 12:5)

افْرَحوا وابْتَهِجوا (متّى 12:5)

 

عظة الأحد الرّابع من زمن السّنة-أ

 

أَيُّهَا الأحبّةُ جَميعًا في الْمَسيحِ يَسوع. إنجيلُ التَّطويباتُ هوَ الجُزءُ الّذي بِهِ يَسْتَهِلُّ يَسوع "عِظَتَهُ الُكبْرَى"، أو مَا يُعرَف بالِعظَة عَلى الجَبل. هُناك عَلى جبلِ التَّطويبات الْمُطلِّ عَلَى بُحيرةِ طبريا، شَرعَ يسوعُ يُعَلِّم. والتّطويباتُ هيَ مِن أَجملِ التَّعاليمِ الّتي أَلقَاهَا يَسوع، فيها يَرسِمُ خارِطَةَ طَريقٍ تَقودُ إلى السَّعَادةِ الحَق.

 

والتّطويباتُ بالرّغمِ مِنْ جَمالِها وَسُموِّها، تَبْقَى مجموعَةَ تَعاليمٍ صَعبَة، وتَحتاجُ إلى كَثيرٍ منَ الجهد، حتَّى تُعَاشَ وتُمارَس. لأنَّها ترتَقي بالإنسانِ إلى مُستَوى أَبناءِ اللهِ السّامي. وكلُّ ارتْقاء يحتاجُ إلى تَخَلٍّ، وكلُّ تخلٍّ يَتَطَلَّب تَشْذيبًا وَإزالَة، وكلُّ إزالةً تحمِلُ أَلَمًا وَتَضحيَة، في سَبيلِ الرّبحِ الأعظَم. وهُنا تَتِمُّ كلماتُ بولسَ في رِسالَتِه إلى أهل فيلبّي: ﴿عَدَدتُ كُلَّ شيءٍ نُفاية لأربحَ الْمَسيح﴾ (فيلبي 8:3).

 

يَبْدَأُ يَسوع عِظَتَهُ هَذهِ بِكَلِمَةِ طُوبى! وطوبى كَلمةٌ تَأتي بِمعنى "هَنيئًا"، وَأيضًا بمعنى الغِبطةِ وَالخيرِ الدَّائِم. وكلُّنا نُحبُّ الخيرَ، وكلُّنا نَسْعَى أَن نَكونَ سُعدَاءَ مُغتبِطين. وَطبعًا للسّعادةِ مَفاهيمٌ تختلِفُ باختلافِ النّاس. فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَضعُ سعادَتَهُ في الأرضِ وَمَتَاعِهَا. وَمَنْهُم مَن عَلَّق قَلْبَه، مُسْتَنِدًا عَلَى إيمانِه وَرَجَائِه، بِتَلكَ الخيراتِ الّتي: ﴿لَم تَرَها عينٌ، ولا سَمِعَت بِها أُذُنٌ، وَلا خَطَرَ عَلى قلبِ بَشر، ذَلِكَ مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلّذينَ يُحبّونَهُ﴾ (1قورنتوس 9:2).

 

دَعُونا نَنظرُ في موضوعِ التّطويبات. فَفي التَّطويبةِ الأولى، يُطوّب يَسوع فُقَراءَ الرّوح، فإنَّ لهم مَلَكوتَ السّموات! فَقيرُ الرّوح، هوَ الإنسانُ البَسيطُ الْمُتَواضِع. مَن تَرى نورَ اللهِ يَشعُّ مِنْ وَجهِه، وتَرى فيهِ الرَّاحَةَ وَالأمَان! فَقيرُ الرّوح هو مَن يحفَظُ كَلِمَةَ الله ويتأمَّلُها وَيَعمَلُ بها. فقيرُ الرّوح هُوَ مَنْ يُسبِّحُ الله حينَ يَأتي صَالحًا، وَيشْكو نَفسَهُ إلى الله حين يصنَعُ سُوءًا. فقيرُ الرّوح هو صاحِبُ رَجاءً عَظيم وثقةٍ كبيرةٍ بالله، مُتَّكِلًا عَليه تَعَالى، مُلْقيًا كُلَّ هَمِه، لأنّهُ عالِمٌ أنَّ اللهَ يُعْنَى به (راجع 1بطرس 7:5).

 

أَمّا في الثَّانِيَة، فَيُطوِّبُ يَسوعُ الوُدَعاء، فَإنّهم يَرثونَ الأرض! وَالنَّفْسُ الوَديعَة هيَ النَّفسُ الْمُسالِمة، الخالِيَة مِن الشَّراسَة والقَسْوَة. النّفسُ الوَديعَة لَيسَت خائِفَةً أو ضَعيفَة، وَلَكنَّهَا قَويّةٌ وهَادِئَةٌ، تَنْعَمُ بالسّكينة. وَكمَا يَقولُ يوحنّا الرّسولُ في رسالتِهِ الأولى: ﴿إذا كانَ قَلْبُنَا لا يُوبِّخُنا، كَانَت لَنا الطُّمَأنينَةٌ لَدَى الله﴾ (1يوحنّا 21:3). فالوديعُ يملِكُ قَلْبًا على مِثالِ قلبِ الْمسيح: ﴿وَديعٌ مُتواضِعُ القَلب﴾ (متّى 29:11).

 

وفي الثّالِثَةِ يُطوّب يَسوعُ الْمَحزونين، فإنّهم يُعزَّون! وَالْمَحزنونَ هُمْ مَنْ يَبْكونَ عَلَى أَنفسِهم، مُلْتَمسينَ رحمةَ اللهِ وَغفرانَه، يَسكبونَ أَمَامَه دُموعَ التَّوبَةِ وَالنّدامَة. وفي هذا الشّأنِ يَقولُ القديسُ بولس في رِسَالتِهِ الثّانية إلى أهل قورنتوس: ﴿لأنَّ الحُزنَ للهِ يُورِثُ تَوبةً تُؤدِّي إلى الخلاص، في حينِ أَنَّ حُزنَ الدُّنيا يُورِثُ الْمَوت﴾ (2قورنتوس 10:7). وأيضًا هُناكَ مَن يحزنُ اليوم، بِسَببِ أَلَمٍ أو شِدَّةٍ أو ظُلمٍ وَقَعَ عَليه، لِذلك يَبْكي إلى الله مُلْتَمِسًا نَجدَةً وَنُصرة وَمَعونَة. يقول صاحِب الْمزامير: ﴿قَدْ تَعِبتُ مِن تَنَهُّدي، في كُلِّ لَيلَةٍ أُرْوي سَريري، وَبِدموعي أُبلِّلُ فِراشي﴾ (مزمور 7:6).

 

وفي التّطويبةِ الرّابِعَةٍ يُطوّب يَسوعُ الجياعَ والعِطاشَ إلى البّر، فإنَّهُم يُشْبَعون! يقولُ صاحِبُ الْمزامير: ﴿كَمَا يَشْتَاقُ الأيّلُ إلى مجاري الْمياه، كَذلكَ تَشْتَاقُ نَفسي إليكَ يا الله﴾. (مزمور 1:42). فالجوعُ والعطشُ إلى البِر، هوَ جَوعُ وَعَطَشٌ إلى الشَّبعِ وَالارتِوَاءِ منَ الله! يَقولُ يَسوعُ مُخاطِبًا الْمَرأَةَ السَّامريّة: ﴿مَن يَشربْ مِنَ الْماءِ الذي أُعطيه أَنا إيّاه، فَلَنْ يَعطشَ أبدًا﴾ (يوحنّا 14:4). يسوعُ هوَ خبزُ الحياةِ وَماؤها، فَ: ﴿مَنْ يُقبِلْ إليَّ فَلَنْ يَجوع، وَمَنْ يُؤمِن بِي فَلَنْ يعطَشَ أَبدًا﴾ (يوحنّا 35:6). فالجائِعُ الْمُطَوَّب هوَ الجائِعُ إلى الاتّحادِ بالله، اتّحادًا أَبَديًّا لا يَنْفَصِل.

 

أَمّا في الخامسةِ فَيطوِّبُ يسوعُ الّرحماء، فإنَّهم يُرحمون! فاللهُ مَصْدَرُ الرّحمةِ، والإنسانُ عَنْوانُ رَحمتِه. ونحنُ بحاجةٍ لَيسَ فَقَط لِرحمَةِ رَبِّ السَّمَاء، بَل لرحمةِ النَّاس بالنّاس. فَيَكفي مَا في العالمِ مِن عُتاةٍ وَقُسَاةٍ وَظالِمين، بَل: ﴿كونوا رُحماء كما أنَّ آباكمُ رحيم﴾ (لوقا 36:6). يَقولُ القديسُ كبريانوس الشَّهيد: "مَنْ لا يَرحَم لا يَستَحقُّ مَراحمَ الله، ولا يَحصُلُ عَلَى أَيِّ نَصيبٍ من العَطفِ الإلهيِّ بِصَلواته". فارحموا لِتُرْحَموا.

 

وفي التّطويبةِ السّادِسة، يُطوّب يسوعُ أَطهارَ القُلوب، فإنّهم يُشاهدون الله! يَقولُ صَاحِبُ الْمزامير: ﴿زِدْني غُسلًا مِن إثْمي، وَمِن خَطيئَتي طَهّرني... نَقّني بالزّوفَى فَأطْهُر، اِغْسلني فَأفوقَ الثّلجَ بياضًا﴾ (مزمور 4:51، 9). ونحنُ مَعْشرَ الْمُعَمَّدين أَصبَحنَا هياكِلَ روحِ اللهِ القُدّوس، ولَكِن مَا دُمْنَا في العَالم، فَنَحنُ دَائِمًا عُرضةٌ لِأن نَتَّسِخ. ولِذلك نحتاجُ دومًا إلى نَعمَةِ اللهِ الْمُطَهِّرَة، الّتي تَغسِلُنا مِن كُلّ مَا أَوْسَخَنا وَدَنَّسَنا، وَتُعيدُ إلينَا بهاءَنا وَنَقَاءَنا وَصَفَاءَنا.

 

وفي السّابِعة، يُطوّب يسوعُ السَّاعينَ إلى السّلام، فإنّهم أَبناءَ الله يُدعون. يقولُ القدّيسُ بولس في رسالتِه إلى أهل فيلبّي: ﴿فإنَّ سلامَ الله الّذي يَفوقُ كُلَّ إدْراك، يحفَظُ قلوبَكُم وأذهانَكُم في الْمسيحِ يسوع﴾ (فيلبّي 7:4). السّاعونَ إلى السّلام، لا البَاحِثون عن الخصامِ والانتِقام. وكلُّ سَلامٍ حَقيقيّ، ينبُعُ مِنَ الله، مَصدرِ السّلام الحق. سلامُ الله في النّفوسِ وَبَينَ النّفوس. سَلامٌ يَضْمَنُ الخيرَ والعدالَةَ للجميع.

 

وَأَخيرًا، يُطوّبُ يسوعُ الْمُضْطَهدينَ عَلَى البِر، فَإنَّ لهم مَلكوتَ السّموات! الْمسيحُ بِرُّنا ولأنَّهُ بِرُّنا، نكونُ عُرضَةً كَمَسيحيّين أن نُضْطَهَدَ ونُشتَمَ. فَعَلى مَدارِ أَلفيِّ عام ونيّف، الْمَسيحيونَ شُتِموا واضْطُهِدوا لأجل الْمسيح، وَسَيَظَلّون كَذِلك. وَكَما يقول بطرسُ الرّسول في رسالتِه الأولى: ﴿بَل إذا تَألَّمتُم مِن أجلِ البِرِّ، فَطوبَى لَكم﴾ (1بطرس 14:3). وَعَلى ذلك يُطوِّبُنَا الْمسيح: ﴿فافْرَحوا وابْتَهِجوا، إنَّ أَجْرَكُم في السّمواتِ عَظيم﴾ (متّى 12:5).