موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٨ يوليو / تموز ٢٠٢١

اختيار تلاميذ آخرين

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
اختيار تلاميذ آخرين

اختيار تلاميذ آخرين

 

الأحد الخامس عشر من زمن السنة (مرقس 6: 7-12)

 

لا يوجد محلٌّ تجاريٌّ اليوم، إلاّ وله نشرة دعاياتٍ لمبيعاته. هذا هو أُسلوب العصر. فجرائد آخر الأسبوع، تجمل لنا معها، رُزمة لا يستهان بها، من هذه الدّعايات، ومن عِدَّة متاجر، على أمل أن يتصفّحها القُرّاءُ بهدؤٍ ورواقة، ويختاروا ما يحتاجون إليه، ويوم الإثنين فعلا، هو يوم الهجوم على تنزيلات مُعينة، وجدوها بين الدّعايات. هذه الدّعايات كلُّها تجارة واقتصاد. الغريب في الأمر، أنَّ نشرات الكنيسة ودعاياتها، مُنتقدة من الكثيرين، بظنِّهم: الكنيسة تريد أن تبيعنا شيئا لا نرغب فيه.

 

بمجيء يسوع على الأرض، فقد ابتدأ ملكوت الله. وللتّعرّفِ على هذا الملكوت، فقد ربطه الوحي بعلامات مُعيّنة، للتّعرُّف عليه، تلعب دور الدّعايات، أي تُعرِّف على محتواه أو على شخص مُؤسِّسه. إذ لمّا سأله تلاميذ يوحنا: أأنتَ الآتي أم ننتظر آخر؟ أجاب: إذهبوا وبشروا سمعان بطرس، بما أنتم تسمعون وتنظرون. العميان يبصرون والعرج يمشون، والبرص يطهرون والصّمُّ يسمعون والموتي يقومون والمساكين يُبشّرون، وطوبى، لمن لا يشكُّ فيّ"(متى 5:11). وفعلا، لمّا ظهر يسوع في العالم، صارت تحدث مثل هذه العجائب الإثباتيّة على يده. وقد شاهد النّاس هذه العجائب: فقد أقام أمواتاً أمامهم، وشفى مُقعدين، وردّ البصر لعميان، وشفى مصابين بالبرص، وطرد شياطين من كثيرين، وغفر الخطايا لمجرمين، كان آخِرُهم لص اليمين: اليوم ستكون معي في ملكوت أبي.

 

إذن من المستحيل أن تعيش البشريّة مثل هذه العلامات، ولا تؤمن أنه المُرسَلُ الحقيقي من الله، لأنها العلامات الحقيقية لإثبات حلول ملكوت الله بين البشر وعلى الأرض، والّذي لن يكون له نهاية، إلى أن يعرف آخر كائن بشري، به وبكلمته ويؤمن به. فيسوع إذن، حاضر في هذا العالم، ليس يوما أو يومين، بل كما قال "ها أنا معكم كل الأيام وإلى منتهى الدّهر".

 

تأكيداً لكلمته، فهو يُظهِر بِعدّة طُرق، أنّه فعلا معنا، وإِن عجائبَه تتكرّر في هذا العالم، لتدلّ على أن الزّماَن هو زمان الله. فقد أعطى الرّسل من البداية، كما وللإثنينِ والسّبعين المُعاونين، الّذين ما حملوا لقب رُسل، بل مُعاونين، إمكانيَّة عرض دعايته الجذّابة المجّانيّة، وهي إظهار سلطته ومقدرتِه على طرد الشياطين وشفاء المرضى، ومغفرة الخطايا. هذا وبعد اختيارِهِم، فقد أرسلهم إلى العالم، ليبشِّروا برسالته ويصنعوا العجائب، اقتداءً به: مجّانا أخذتُم، مجّاناً أَعطوا. وهذا ما حدث مرارا وتكراراً. وإنَّ صُنْع العجائب، التي كانت تتم فقط باسمه وبقوته، لم يتوقّف في عصر من العصور، وهذا ما حفظ الكنيسة دائماً فتيّةً جديدة، مثلما خرجت من يد مؤسِّسِها. هذه العجائب تتمُّ أيضا على أيدي مُؤمنين علمانيّين.، عاشوا إيمانهم وتقواهم ومخبّتهم لله وخدمته. ألا نعرف أنَّ الكنيسة لا تعلن أبناءها، سواءٌ كهنة أو علمانيين، رسميّاً قدّيسين، إلاّ إذا تمَّت  بشفاعتهم ثلاث عجائب، يُثبتها الأطبّاء، بأنّه لا تفسير لها في عالم الطبيعة أو الطب.

 

إذهبوا وبشِّروا. هذه كانت آخر وصيّة مذكورة عن يسوع في الإنجيل، قبل صعوده إلى السّماء. وإنّ التّاريخ لم يذكر أنّ باباً أعطى هذه الوصية أهميّة كبيرة، مثلُ البابا يوحنا بولس الثاني القدّيس في أواخر القرن الماضي، فقد قام ب 120 رحلة تبشيرية في جميع أنحاء العالم، لأنه على طريقته وروح الدعابة التي كام يتميّز بها، قال، إنَّ يسوع لم يؤسّس كنيسة بيروقراطيّة مستقرّة، بمكاتب، تنتظر من النّاس أن يأتوا إليها لأخذ موعد لعماد وتعبأة أوراق نصف سنة مُسبقاً، بل كنيسة مُتنقِّلة، هي تذهب إلى الناس. وقال بالتالي، لا أفتكر أنَّه لو عاد ابن البشر الى الأرض، لما كان يتعرّف على كنيسه التي أسّسها. فهو ما أراد طبقة تتميّز بملابسها وألقابها وقصور سكناها. وإنّما بأعمالها ومعاملاتها للبشر.

 

هذا ولما لم يكن من مواصلات مثل اليوم، إفتكر النّاس، أنَّ التبشير هو فقط مُهمَّةُ الكهنة أي الإكليروس، ومنهم تألَّفت جماعة المبشّرين، الّذين راحت الكنيسة ترسلهم إلى الأوثان. كانت الكنيسة تباركهم وتضع في أيديهم عِدَّةَ التبشير، وهي التوراة والصليب. عنت بها، أنّهم ذاهبون ليكسبوا قلوب الناس لا بلادهم، كما يفعل الإستعمار.

 

الإن أثناء العُطل الصيفيّة، يُفضِّل ملايين البشر، تمضية إجازاتهم خارج بلادهم. لكن ولكي تنجح رحلاتهم، تُعطيهم المكاتب السّياحية ورقة تعليمات مفصّلة، تشرخ لهم فيها بعض الإحتياطات، وماذا عليهم أن يأخذوا معهم. ومن بين الأشياء المُهمّة، طبعا مبلغا من المال، إذ امتلاك المال يُريحُ البال. أمّا تعليمات يسوع لتلاميذه فتختلف شكلا وقالبا. هو يعطي تلاميذه تعليمات وافية، لتنجح سفرات تبشيرهم. فهم يخرجون لا لإيجازات ترفيهيّة بل لعمل رسولي تحت كل وجوهه. ولكي ينجح فهو لا يقوم على المادّيات، بل على الحرمان منها. المهمّة الأساسيّة هي التبشير بالإيمان وبتعليمه: علّموهم جميع ما أوصيتكم به.

 

لا تأخذوا من الماديات شيئاً: لا ذهباً ولا قميصا ثانياُ، ولا حذاءً غير الذي في أرجلكم. لا خبزاً ولا مِزوداً، إذ العامل مستحق أُجرته، وطوبى لأقدام المبشّرين، أضاف بولس. فعن طريق المبشِّرين، وبرسالة السِّلْم والتّآخي، التي كانوا يُقدِّموها للبشر، احتلّت الكنيسة العالم دينيّاً، ، على يد رجال دينيّين، هم المبشِّرون. لا لمصالح سياسية. دون أن ننسى أنّ كثيرين منهم ضحّوا بحياتهم حتى نبتت الكنيسة فوق قبورهم.

 

لقد غاب عن بال الجميع، حتى اللاهوتيّين منهم، دورُ المعمّدين والمُثبّتين في الدّين، إذ هُمُ المبشّرون الحقيقيّون في مجتمعهم المحلّي، وفي عائلاتهم. لكن لا ننسى، أنَّ الجهل حتى في الكنيسة، ولعصور طويلة، ما كانت تعرف إلاّ الطّبقتين: أي الحاكم، وهي الكنيسة، والمحكوم، وهم أولادها الّذين كان عليهم الطاعة فقط. وما كان للمحكوم الحق في التحرّر. من ينسى أنّها كانت تمنع العلمانيين من امتلاك التوراة. فكم بالأحرى مُهمَّة التبشير. أو دراسة اللاهوت. ومن الممنوعات على العلماني أيضا كانت عدم لمس كأس القداس أو البرشانة، ومن خالف ذلك كانت تقع عليه قصاصات كنسية متنوّعة، قمَّتُها الحرمان من الإشتراك في الحياة المسيحية، إلى أن يقوم بأعمال توية تكفيريّة طويلة قاسية.

 

فقد مضى وقت ليس بالقليل إذن على الكنيسة، حتّى اكتشفت، أن حرمان العلماني من وظيفة التبشير، ووظائف فخريّةٍ أُخرى، هو ليس من إرادة يسوع. لذا فقد أعارته آخيراً انتباها خاصّاً. وبفضل تعليمات وقرارات المجمع الفاتيكاني الثاني، في آخر القرن الماضي، الّذي اهتمَّ بشرح وتوضيح مهمَّةِ ودور العلماني المُعمّد والمُثبَّت، في العالم، وبالأخص عن دوره في حمل رسالة التبشير، حيثما يعيش، ودون أن يحتاج إلى ترك بلده والسفر بعيدا حتى يحصل على لقب مُبشّر، إذ التيشير هو الشهادة بالإيمان، ليس فقط قولا، بل قولا وعملاً. وبالتّالي فهمت الكنيسة دور الخميرة في العجين، وعزتها إلى كلِّ مُعمَّدٍ ومُثبَّتٍ ناضج، أنَّ بوسعه أن يُؤثِّر بشهادة إيمانه حوله كما تؤثِّر الخميرة على العجين. ولنتذكر بهذه المناسبة أقوال يسوع الجميلة: أنتم نور العالم. أنتم ملح الإرص. فهي أقوال ليست فقط لأصحاب الرُّتب في الكنيسة، بل ولكل المؤمنين به وبكلمته. هذا ولقد كان الفضل الكبير لحركة لوثر، إذ أنكر فكرة الكهنوت الخاص، بفكرة إحياء الكهنوت العام لجميع المعمّدين والمثبتين، بإعطائهم دورا كبيرا في التبشير والعمل في الكنيسة. هذه الفكرة كانت أرضية تأسييس حركة العلمانيين في الكنيسة الكاثوليكية، إلى جانب الكهنوت الخاص.

 

الإنجيل يذكر اليوم، أنّ يسوع اختار اثنين وسبعين شابا، من الشعب،ما أعطاهم أيّة سلطة سوى سلطة التبشير. أفليست هذه فاتحة بل أساس كل الحركات العلمانية في الكنيسة، ولو لم تكتشفها الكنيسة إلا بعد حوالى ألفي سنة؟. لذا نقول، إن كلّ حركة دينية تتأسس، في أية رعية، هي كمنارة لنشر  ضؤ رسالة يسوع على يد العلمانيين. أما قال هو: العمل كثير وأما العملة فقليلون. فما عدنا اليوم نستغني عن معاونة العلمانيين، واشتراكِهِم في التبشير الفعلي. أعني بثُّ أركان الدّيانة، التي تقوم على المحبة والخدمة والتّسامح والسّلام. إنّ نشر ملكوت الله، بحاجة لوقوف العامانيين وشهادة حياتهم اليومية، لا بالقول والمحاضرات، بل بالأعمال الإنسانية، ومساعدة القريب والمحتاج، كزيارة المرضى والمساجين، وإيواء الّذين بلا مأوى. هذه أعمال لا تحتاج لأن يكون أصحابٌها من طبقة المُكرّسين، كما يذكر كتاب أعمال الرّسل، حيث كثرت الخدمات الإجتماعيّة على الرّسل، فتباحثوا فيما بينهم واقترحوا خلق وظيفة الشمّاسية، أي الخدمة للمحتاجين، فاختاروا رجالاً ذوي سمعة طيّبة، وسلّموهم المهام الإجتماعية، كإلإعتناء بالفقراء والأرامل ودفن الموتي. فهذه مواهب متوفّرة في كل إنسان، فلا يجوز أن يضعها تحت المكيال، بل على المنارة ليراها الناس ويُمجِّدوا الآب السماوي. فبالنسبة لملكوت الله، لا يوجد إنسان غير صالح للعمل. إذ كلُّ مسيحي، هو مسؤول في مكانه وزمانه عن نشر كلمة الله ومحبّتِه وعن تأدية الشهادة عمّا يؤمِن به. فلا يجوز له أن يسأل: ماذا تعمل الكنيسة لي، بل ماذا أعمل أنا لكنيستي!

 

مثل قديم: عام 1973، كنت لأوّل مرّة في ألمانيا وكانت إقامتي في مستشفى مسيحي. وإذ وصل رئيس المستشفى سنّ التقاعد، أُقيمت حفلة لوداعه وتسليم خلفه هذه الوظيفة، فقد أعجبتني كلمة الكاهن التي قال فيها: بودّي أن أعطيك مفتاح المستشفى لتفتح الأبواب بنفسك وتكتشف ما فيه. لكنك تعرف المستشفى، إذ أنت موظف فيه من سنوات. لذا فبدل أن أعطيك المقتاح، أعطيك يدي، لنعمل سوية لخير المؤسّسة، وصافحه.

 

أليست هذه الفكرة درسا لنا، أعني أن المعمّدين والمُثبتين لا حاجة لتعريفهم على كتيستهم، التي وُلِدوا وترعرعوا فيها، فهم يعرفونها. لذا فالأحق أننا، مكرّسين وعلمانيين، أن نضع أيدي بعضنا ببعض ونعمل لخير ملكوت الله، كلٌّ في حقله وأمكانيّاته! آمين