موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٥ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢١

ابن البشر لم يأتِ لِيُخدَم بل لِيَخْدُم

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
الأب منويل بدر

الأب منويل بدر

 

الأحد التاسع والعشرون، الإنجيل مرقس 10: 15-45

 

المشروع الناجح هو نتيجة عُمّاله المؤهَلين، فهناك كثير من الوظائف لا يُتقِنُها أي عامل، فتبقى شاغرة. هذا والحصول على وظيفة، هو ليس بالهيّن، بل يجب تقديم طلب بل طلبات إلى كلِّ الجهات، تُثبِتُ مُؤهِلات صاحبها. وإن الشبيبة في مجال التفتيش عن وظيفة، تفهم ذلك أحسن من غيرها. ففي بداية حياتها، بعد التخريج العلمي، هي تُمضي وقتَها بتقديم طلبات، لتحصل على وظيفة تؤمِّن لها معيشتها بكرامة. إنجيل اليوم هو تقديم طلب للتوظيف في قلب ملكوت الله.

 

نتساءل بعد سماعنا لهذا المقطع النادر في الإنجيل، وهو التقدّم لإشْغالِ مَنصبٍ أو وظيفة مُهمَّة في الملكوت، المُزمِع يسوع تأسيسَه، كبف أن التّلميذين، يعقوب ويوحنا، ابني زبدى، الصيّادَيْن اللّذَيْن كانا من أول المدعوين، على ضفاف بحيرة طبريا، وقد كان لهما مدّة معه، سمعا كل وعظاته وخطاباته، أنهما لم يفهما بعد، أن ما عناه سيّدُهم، ليس تأسيس مملكة أرضية، كباقي الممالك حولهم. لكن لأنّه في الأسابيع الآخيرة وهو في طريقه إلى مدينته المحبوبة أورشليم، قد ذكر مراراً وتَكراراً تأسيس ملكوت الله على الأرض، فتشبّعوا من هذه الفكرة ومن قُرْب تأسيس هذا الملكوت، الّذي حدث عليه سؤُ تفاهم. يسوع كان يعني ملكوتَ الله، الّذي يختلف كلّيّاً، إذ هو ملكوتٌ روحي، ملكوتُ سلام وعدل وحبٍّ ومساواة، وهذا لا يحتاج، لا إلى سفراء ولا إلى وزراء، كما افتكروا، بل إلى مُبشِّرين.

 

ألا نقرأ عن الله أنّه قال: إنَّ أفكاري هي غيرُ أفكاركم. وهذي هي النتيجة عند هذين التلميذين. فهُما بديهيّاً، قد فهِما تأسيس مملكة أرضيّة. فتفكيرُهما بقي بشريّاً محض، كتفكير الشعب، الّذي هم منه. فكلُّ الشعب كان يفتكر رفي ذلك الأوان، أنّ المخلِّص سيلعب أوّلا دورا سياسيّا، حيث سيقود انقلابا عسكريّا على المستعمر، ويطرده من البلاد، ويؤسس مكانه مملكة أرضية لكلِّ الشعب اليهودي، الّذي تألّم بما فيه الكفاية من الإضطهاد وغطرسة الرّومان المسنعمرين. هذا ولأن يسوع كان يقول لتلاميذه: هوذا نحن صاعدون إلى أورشليم وابن البشر سيسلم هناك ويتألم كثيرا(لو 25.17)، وهذي هي المرّة الثالثة، التي يُعلن فيها يسوع لتلاميذه، أنه سيموت في أورشليم، وكل الثلاث مرّات هو مرقس الذي يذكرها في إنجيله، فقد فهموا من ذلك أنه في ثورته على المستعمر، سيتألم أوّلا، لكنّه سينتصر عليه وبالتالي سيُقيم مملكته الجديدة، التي في بالهم، ويصبح هو الملك الجديد، وطبعاً هو سيحتاج لموظّفين. فبعد الإعلان الثالث، تشجّع الأَخَوان يعقوب ويوحنا، وقدّما الطلب مُسْبقاُ، ليحصلا على المراكز الأولى فيها. وكأنهما يقولان له: يمكنك الإعتماد علينا! فأنت أعطيتنا اللّقب "إبني الرّعد (مر 3:17)، وتعرف ما فينا من غيرةٍ لك ولملكوتِك! ونحن مُناسبان بمُؤهلاتِنا وصفاتنا لإشغال  مناصب في الدّولة الجديدة والمجالس الإدارية.

 

هذا كان ليس فقط تفكيرُ التلميذين، يعقوب ويوحنا، بل تفكيرُ الأغلبيّة، خاصّة طبقة رؤوساء الشعب، الّذين كانوا على مناوشات دائمة مع المستعمر، بسبب نِقاط خلافاتٍ كثيرة، أهمها إرغامُهم على دفع الجزية واستعمال مال المُستعمر وعدم السّماح لهم بطبع عُملة خاصة بهم. ولتحاشي الإحتجاجات على هذه النقطة، فقد لجأ المستعمرُ نفسُه، إلى توظيف جُباة من الشعب نفسه، مثل زكّا العشّار ومتى، المذكورة أسماؤهم، وذلك لتحاشي الإصطدامات.

 

المراكز والمقاعد الأُولي هي مُحبَّبة، وهي مواقع شرف لمن يُشغِلها. فيوحنا ويعقوب يريدان أن يكونا معه في هذه المملكة الجديدة، لكن ليس كأفراد مجهولين، بل في طليعة أوّل المُوظفين في أوّل حكومة تأسيسية. فهذه وظيفة يحلم بها الكثيرون. ألا يُذكِّرنا هذا المشهد بالرِّياضيين، الّذين يتسابقون للوقوف على منصّة الفائزين. رقم واحد محفوظ لسيِّدِهم، وأما الأرقام 2 و 3 فيريدانها لهما شخصيّاً، بالتّزكية وبدون انتخابات. ويتابع النص: إنَّ موقفهما هذا قد أغاظ باقي الرسل عليهما، الّذين، هم أيضا، ما كانوا فهموا ما هو هذا الملكوت المُزمع يسوع تأسيسَه، أكثر ممّا فَهِمَ هؤلاء الإثنان، بادِّعائِهما أنّهما قديران على إشغال المناصب، حتّى الّتي لم يكن  قد أُعلن عنها بعد. فيمكن تأويلُ موقف باقي الرّسل إلى حسد وغيرة، فهم أيضا كانت عيونهم على هذه المناصب، ولو لم يجرؤا بالمطالبة بها علناً. كذلك إغتاظ يسوع عليهم، وشعر بخيبة أمل، أمام هذا المشهد، لأنه في كلِّ ما قال وعلَّم، لم يكن قد ذكر، ولو مرّة واحدة، أنه يريد تأسيس مملكة أرضيّةً مُنظَّمة، كما نعيشها اليوم برآساتٍ وقياداتٍ ومناصبَ وألقابَ، لا تُعدُّ ولا تُحصى: مَن أراد أن يكون الأوّل فيكم، فليكن عبداً. هو أراد تأسيس مملكتِه الكنيسة، لكي تتابع عمله وتهتمّ بخدمة المرضى والمحتاجين والخاطئين والجائعين والمشتاقين إلى البِرّ. هذا العمل لا يحتاج لا إلى سفراء ولا إلى وزراء، لكن لخدّام مُتطوِّعين، يعتبرون كلَّ الآخرين إخوةً وأخواتٍ لهم، وبحاجةٍ لخدمتهم: إبن البشر لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدُم ويُضحّي بنفسه عن الكثيرين. شيءٌ واضح: ليست الوظيفة هي الّتي تُدخلنا إلى السّماء، لكن الأعمال الّتي نُتمِّمُها في مهنتنا. إذ الوظيفة في هذا الملكوت هي للخدمة لا للتّسلُّط.

 

هنا جاء حُكْمُ بل تعليمُ يسوعُ لتفهيم الطّرفين، بل وأقول لتفهيمَنا نحن أيصاً، إذ كلّ ما قال وعلّم لتلاميذه، هو لنا أيضاً، أن الجميع فهم فكرة تأسيس ملكوته بالخطأ. هو جاء لتأسيس مملكة إلهية، أي الكنيسة، وَسْطَ الممالك الأرضية، بقيادةٍ روحيّةٍ، أي أنَّه بعد تأسيسها بدمه وموته، سيستلم الرّوح القدس إدارتَها وتكميلها، إلى أن تصبح، كما قال هو: رعيّةً واحدةً تحت حماية وقيادة راعٍ واحد(يو 16.10)

 

 والنقطة الثانية، أن إشغال المناصب، غيرُ مُرتبطٍ لا بالحسب ولا بالنّسب، كما ولا بمصلحة، لا خاصّة ولا عامّة: "من أراد أن يكون كبيراً فيكم، فليكن لكم خادِماً، ومن أراد أن يكون الأوّلَ فيكم، فليكن لأجمعكم عبدا". ملكوت الله يختلف كلّيّاً، بتأسيسه وأهدافه وعمّاله. أولا هو لا يعتمد لا على قوّة ولا على سلاح " لو كانت مملكتي من هذا العالم، لكان خُدّامي يجاهدون لكي لا أُسلَم" (يو 36:18). ثمّ هذا الملكوت ينتشر بين البشر وعلى الأرض بكلِّ هدؤٍ، كالماء الجارية تحت الأرض، فهو عامٌّ، أي لكلِّ البشر، يقبل كل إنسان يؤمن بالله الخالق، ويعترف، بأنّ يسوع هو الإبن المخلِّص. فيه تتجلّى المساواة والعدالة والمحبّة والسّلام، عن طريق معاملة البشر بعضِهم لبعض. وبالتّالي هذا الملكوت هو بحاجة لعمّال صالحين، إذ العمل كثير وأما العمّال فقليلون. الصلاة هي أُولى الوسائل الفعّالة لنشره، ولكن أيضا لا يجوز لنا إهمال مسؤوليتِنا، إذ كما نصلي: ليأتِ ملكوتك، لكن أيضاً على يدنا وباشتراكنا. هذا وإنّه لشرف عظيم لنا أن نكون من المختارين، كلٌّ في زمانه، لنبشّر بهذا الملكوت. إذهبوا وبشِّرو، كل الأمم. نعم يا رب! ليأتِ ملكوتك، وليكن على يدنا أيضا. آمين.